• - الموافق2025/08/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الحملة الصليبية الرابعة.. وقائع وعبر

شكلت الحملة الصليبية الرابعة صورة مختلفة عن مثيلتها من الحملات الصليبية على العالم الإسلامي إذا كان التحالف الأساسي يهدف إلى إعادة احتلال القدس التي حررها صلاح الدين لكن كانت نتائجها مختلفة كليا


في أواخر القرن السادس الهجري ومطلع القرن الثالث عشر الميلادي، وصلت الحملة الصليبية الرابعة إلى ساحل البندقية (فينيسيا)، وكانت وجهة الحملة، هي القدس، لإعادة احتلالها، بعد أن حررها صلاح الدين سنة 583هـ/ 1187م، وفشل الحملة الصليبية الثالثة التي قادها كبار ملوك أوروبا وعلى رأسهم ريتشارد (قلب الأسد) ملك إنجلترا، في استعادتها.

البندقية ودورها في الحروب الصليبية

وكانت البندقية الواقعة في شمال شرقي إيطاليا على ساحل البحر الأدرياتيكي، في ذلك الوقت، دولة تجارية بحرية، تمتلك أضخم الأساطيل، وتحتكر تجارة شرقي البحر المتوسط وتمارس القرصنة فيه، وكانت المنهوبات والغنائم تصب في خزائنها من كل مكان، وكانت قد انخرطت في الحروب الصليبية ضد المسلمين في المشرق، منذ الحملة الصليبية الأولى (491/1097)، ولعبت أساطيلها، إلى جانب أساطيل بيزا وجنوة، الدور الأبرز في سقوط مدن الشام الساحلية، في أيدي الصليبيين، من أنطاقية واسكندرونة شمالاً إلى غزة وعسقلان جنوبًا، ثم صارت شواطئها منذ ذلك الحين، مركزًا لتجمع الحملات الصليبية من أنحاء أوروبا، قبل أن تنطلق على ظهر سفنها إلى "أرض اللبن والعسل" (الشام). والمهم أن هذه الحملة وصلت إلى البندقية، ولم يكن الصليبيون، كالعادة، يملكون سفنا تنقلهم إلى الشام، ولا كانوا يملكون المال الكافي لتحركاتهم، ورأسمالهم الوحيد كان هو التعصب للصليب، وهنا بدأت بينهم وبين البنادقة، مفاوضات مريرة حول نقل الحملة وتمويلها، وانتهت بموافقة البنادقة على تأجير سفنهم، وتعهد الصليبيون بدفع الإيجار مؤخرا عند العودة، لا في صورة مال، وإنما في صورة غنائم ومنهوبات. وهكذا تحركت الحملة، ولكنها لم تتحرك نحو المشرق الإسلامي، كما كان مقررًا، إنما تحركت نحو مدينة أخرى شعارها الصليب أيضا! لقد غير الصليبيون والبنادقة خطتهم فجأة، وقرروا التوجه إلى القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية المسيحية الأرثوذكسية.

لماذا القسطنطينية؟!

أما عن أسباب تغيير الحملة وجهتها من القدس إلى القسطنطينية، فقد اختلف المؤرخون في ذلك، بين من يقول: "إن الصليبيين وجدوا غنيمة أخرى أسهل وأقرب، وأن البنادقة شجعوهم على ذلك بهدف الحصول على عائد سريع لعملية تأجير سفنهم، وإسقاط عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، والاستلاء على كنوزها، والتي كانت تعد وقتها قمة ما وصل إليه العالم المسيحي في أوروبا من ثراء، وكان البيزنطيون يتباهون بهذا الثراء، لدرجة أنهم اعتادوا تخصيص يوم في القصر الإمبراطوري لعرض كل ما يملكونه، وما في حوزة خزائن الكنائس، من تحف وجواهر، بغرض إشعار زوار عاصمتهم بسطوة الثروة البيزنطية وعظمتها". وهناك رأي آخر يقول إن قادة الحملة كانوا قد قرروا التوجه نحو مصر الأيوبية لأن مصر كانت، آنذاك، حامية حمى القدس، وهي التي انطلق منها صلاح الدين، الذي سحق جيوشهم في حطين وحرر القدس منهم، ثم بعد ذلك تتوجه الحملة إلى القدس، لاستعادتها، وأن ذلك التغيير في وجهة الحملة، قد جاء، بالتالي: "بناءً على اتفاقية سرية وقعتها البندقية مع السلطات الأيوبية في مصر، اشتملت على منح البنادقة امتيازات تجارية في الإسكندرية، مقابل تحويل الحملة عن مصر، وبالفعل حُولت الحملة وهي في عرض البحر، واتجهت نحو القسطنطينية"، بدلا من مصر. والمهم أن الحملة الصليبية الرابعة، اتجهت نحو القسطنطينية، وكان ذلك سنة 600ه./1204م. وكان الصراع على العرش، في ذلك الوقت، محتدما بين الأسرة البيزنطية الحاكمة بالقسطنطينية، ولذلك، فقد كان اكتساحها سهلا وسريعا، ولكن نهب كنوزها كان أسهل وأسرع. فما الذي حدث يا ترى؟

الكارثة الكبرى

نقل لنا المؤرخون الغربيون، صور مرعبة عن هذا الاكتساح. فقالوا: إن جحافل الصليبيين والبنادقة، اندفعت كالرعاع المسعورة يجوبون شوارع المدينة، ولم يفرقوا بين القصور والأكواخ، فيما تعرضت له من الهجوم والتدمير، وأخذ الجرحى من النساء والأطفال يلفظون أنفاسهم في الشوارع، وظلت مناظر النهب وسفك الدماء المريعة مستمرة ثلاثة أيام، حتى أضحت المدينة الضخمة الجميلة شبيهة بسوق اللحوم، وعبّر الصليبيون الكاثوليك عن كراهيتهم للأرثوذكس ومقدساتهم، عبر تدنيس أعظم كنيسة في العالم المسيحي (أيا صوفيا)، فحطموا أيقوناتها الفضية، وكتبها المقدسة، وتحفها الثمينة، واغتصبوا النساء في بيوتهن وأديرتهن، لدرجة أن البيزنطيين غطوا وجوه نسائهم الجميلات بالأوحال والطين لتشويهها، ليحولوا دون اغتصاب الصليبيين لهن. ويشبه بعض المؤرخين ما فعله الصليبيّون بعد دخولهم آيا صوفيا، بما فعله إخوانهم في الحملة الصليبية الأولى غداة اقتحامهم للقدس، حتى قيل إن البابا الذي بارك الحملة، أرسل إلى قادتها رسالة يؤنّبهم فيها على الفظائع والفضائح، التي ارتكبوها بالقسطنطينيّة، فقال: "لقد أصبحتم أمام العالم كلّه أهلًا للبغاء والفسوق، لقد اتّبعتم غرائزكم الآثمة... استوليتم على ثروة الكنيسة وكلّ ما يخصّها... حطّمتم غرف المقدّسات وسرقتم الصلبان... ولأنَّ الكنيسة اليونانيّة أخضعت بالقوّة، فإنَّها رفضت سيادة الكرسي البابوي". ثم إنه تغاضى عن ذلك، وبعث نوابا عنه كاثوليك، إلى كنيسة القسطنطينية الأرثوذكسية. واقتسم المنتصرون أيضا أقاليم الإمبراطورية وجزرها، واختاروا من بينهم إمبراطوراً لاتينياً على القسطنطينية، وُمنحت البندقية مكافأةً لها ثلاثة أثمان القسطنطينية.

العبر والعظات

نستنج من هذه الحملة العديد من العبر والعظات منها:

1. أن الحروب الصليبية لم تكن مجردة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية، ولكن هذا لا يعني غياب العامل الديني، وصحة قول من قال: إن الدين كان عند الصليبيين، مجرد صليب يضعونه على صدورهم، واعتبار هذه الحملة دليلا على ذلك، فإن العامل الديني هو الأساس.

2. أن عداء النصارى الكاثوليك أصحاب الحملات الصليبية (الفرنج)، للنصارى الأرثوذكس (البيزنطيين)، والعكس، لا يقل عن عداء كل منهما للمسلمين، رغم أن شعارهما واحد وهو الصليب، وأنه لذلك، لم يكن هناك فارق لدى الصليبيين في هذه الحملة، بين أن يتوجهوا إلى القسطنطينية، أو يتوجهوا إلى القدس.

3. أن المكر السيء يحيق بأهله، فإن البيزنطيين هم الذين استدعوا الصليبيين لغزو بلاد المسلمين، وأغروهم بها، كرها وبغضا للمسلمين، فقضت حكمة الله، أن ينقلب السحر على الساحر، وأن يشرب هؤلاء البيزنطيون من نفس الكأس المرة الذي شرب منه المسلمون، وأن تمر عاصمتهم القسطنطينية، بنفس التجربة الأليمة والفظيعة، التي مرت بها مدينة القدس سابقا.

4. أرادت البابوية أمرا وارد الله غيره، فقد أرادت البابوية توحيد الكنيستين الشرقية والغربية، للقيام بحملة عسكرية مشتركة ضد المسلمين لاستئصالهم، فكانت هذه الحملة على القسطنطينية، سببا في تقويض جهود البابوية للقيام بتلك الحملة العدوانية، بل إن هذه الحملة قد كرّست الانشقاق بين الكنيستين الشرقية والغربية إلى الأبد، وكان هذا في صالح الإسلام ولا شك.

***

أعلى