• - الموافق2025/08/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تركيا تكتب دستورًا جديدًا للبلاد.. التحديات والحقائق والسيناريوهات

على الرغم من مرور أكثر من 40 عامًا على صياغته، لا يزال دستور 1982 يُعد عقدة سياسية كبرى في تركيا، باعتباره نتاجًا لانقلاب 1980، حيث تم فرضه على الشعب حينها في أجواء غير ديمقراطية،


يتسم المشهد السياسي في تركيا بديناميكية متواصلة لا تعرف الثبات أو الهدوء، فبعد عام حافل بالأحداث الكبرى شهدت فيه البلاد انتخابات رئاسية وبرلمانية في عام 2023، وانتخابات محلية في عام 2024، تطل برأسها الآن مسألة إعادة صياغة "دستور" جديد كأولوية على الساحة السياسية في البلاد لعام 2025، والجدير بالذكر أنه منذ عام 2021، يدعو أردوغان دائمًا إلى ضرورة صياغة دستور جديد لتركيا يعكس القيم الديمقراطية الحديثة، ويكون ملائمًا لـ"قرن تركيا" ويعمل على إنهاء عصر الوصاية والدساتير التي تمت صياغتها في أعقاب الانقلابات العسكرية في حقبة مظلمة من تاريخ البلاد، فما الذي دفع النظام الحاكم للبدء الآن في كتابة مسودة لدستور جديد للبلاد؟ هذا ما سنتعرف عليه في هذا المقال بإذن الله.

تشكيل فريق الخبراء

أعلن الرئيس التركي "أردوغان" تكليف فريق من 10 خبراء قانونيين من حزب "العدالة والتنمية" بإعداد مسودة دستور جديد للبلاد، ينهي ما وصفه بـ"عبء دستور الانقلاب" الذي وُضع عقب انقلاب 1980، في خطوة تعيد فتح أحد أقدم الملفات في السياسة التركية.

وضمت اللجنة المكلفة بصياغة مسودة الدستور الجديد أبرز وجوه حزب "العدالة والتنمية"، في تركيبة تُظهر الرغبة في إضفاء وزن سياسي وتشريعي على المشروع منذ لحظاته الأولى.

ويتولى رئاسة اللجنة نائب الرئيس "جودت يلماز" وشخصيات ذات باع طويل في الجهاز التنفيذي والتشريعي، حيث شغل 3 من أعضائها مناصب وزارية في حكومات سابقة، بينما يُعد الباقون من أعمدة التنظيم البرلماني للحزب الحاكم بالبلاد.

وأفادت تقارير لاحقة بأن أستاذة القانون الدستوري البارزة "سراب يازجي" ستنضم إلى لجنة فنية مرافقة، إلى جانب تشكيل هيئة دعم تقني من خبراء وأكاديميين في القانون الدستوري.

وقد عقدت اللجنة أولى اجتماعاتها الرسمية في الرابع من يونيو داخل مجمع القصر الرئاسي في أنقرة، وتم خلال هذا الاجتماع تحديد آليات العمل ومراحل الصياغة، ولا يُستبعد أن يشارك أردوغان مستقبلًا بنفسه في بعض هذه الجلسات، بما يعكس اهتمامه المباشر بتوجيه العملية حتى إتمامها.

ووفق وسائل إعلام تركية ستعتمد اللجنة نظام التشاور الجماعي في إدارة نقاشاتها، ومن المنتظر أن تركز في مرحلتها الأولى على تحديد المبادئ التأسيسية ومنهجية كتابة الدستور، على أن تنتقل لاحقًا إلى صياغة المسودات التفصيلية للمواد الدستورية.

موقف الأحزاب السياسية

تباينت مواقف الأحزاب السياسية التركية إزاء مبادرة صياغة دستور جديد، بين دعم مشروط ورفض صريح وتوجس صامت، ففي حين يدعم "تحالف الجمهور" (الحاكم) بقيادة حزب "العدالة والتنمية" وحزب "الحركة القومية" المشروع بوصفه ضرورة؛ لإنهاء إرث الانقلابات العسكرية، أبدت أحزاب المعارضة الرئيسية وعلى رأسها حزب "الشعب الجمهوري" (المعارض)، رفضًا واضحًا للمشاركة في أي مسار دستوري دون ضمانات تتعلق بالحريات واستقلال القضاء.

تخوف التمديد لأردوغان

على الرغم من أن الرئيس التركي "أردوغان" أكد أكثر من مرة على أن خطوة كتابة دستور جديد للبلاد لا تهدف إلى تمديد "ولايته الرئاسية"، بل تعبر عن "مسؤولية تاريخية" تجاه 86 مليون مواطن تركي، تباينت ردود الفعل داخل الساحة السياسية بين دعم من الحلفاء وتحفظات شديدة من أبرز أحزاب المعارضة، وسط تساؤلات مفتوحة عن فرص نجاح مشروع كتابة الدستور، واحتمال اللجوء إلى استفتاء شعبي إذا فشل تمريره برلمانيًا.

 

بعد التقارب السياسي الأخير بين التيار القومي والأوساط الكردية، وهو ما أفرز توازنات جديدة في البرلمان قد تتيح تمرير مشروع الدستور عبر تصويت أعضاء البرلمان ودون الحاجة إلى اللجوء لاستفتاء شعبي.

وعلى الرغم من مرور أكثر من 40 عامًا على صياغته، لا يزال دستور 1982 يُعد عقدة سياسية كبرى في تركيا، باعتباره نتاجًا لانقلاب 1980، حيث تم فرضه على الشعب حينها في أجواء غير ديمقراطية، ورغم تعديله عبر استفتاءات عامي 2010 و2017، فلا تزال الانتقادات تطاله؛ بسبب تكريسه هيمنة الدولة العميقة وتقليصه للمشاركة الشعبية والحريات التي تسمح بها قواعد الديمقراطية الحديثة.

وردًا على مسألة التخوف من أن يكون الهدف الأساسي للدستور الجديد هو فتح الطريق أمام "أردوغان" للترشح مجددًا لمنصب الرئيس، قال كبير مستشاري الرئيس التركي "محمد أوتشوم" إن ترشح الرئيس "أردوغان" لولاية جديدة لا يتطلب دستورًا جديدًا أو تعديلًا على الدستور القائم، وأوضح أن ما يسمى بـالترشح الاستثنائي أمر ممكن بموجب الدستور الحالي، في حال قرر البرلمان عقد انتخابات مبكرة قبل موعدها المقرر في 7 مايو/أيار 2028.

وأضاف "أوتشوم" أنه إذا قرر البرلمان عقد انتخابات مبكرة بأغلبية 360 نائبًا في الربع الأخير من عام 2027 أو بداية 2028، وفي حال فضل الرئيس أردوغان الترشح فيمكنه ذلك للمرة الأخيرة.

ثوابت دستورية

يحظى الحديث عن المواد الأربع الأولى من دستور 1982 بحساسية سياسية فائقة في المشهد التركي، إذ تعد هذه المواد بمثابة الركائز التأسيسية للجمهورية، وتنص على أن تركيا دولة ديمقراطية، علمانية، اجتماعية، موحدة، متمسكة بمبادئ مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك، مع تحديد "أنقرة" عاصمة ولغتها الرسمية اللغة "التركية".

وتمنع المادة الرابعة صراحة تعديل أي من هذه المواد أو حتى اقتراح تعديلها، مما يجعلها بمنزلة "خط أحمر" في أي محاولة لإعادة كتابة الدستور.

وفي هذا الإطار، شدد أردوغان في أكثر من مناسبة، على التزامه الصارم بعدم المساس بهذه المواد، مؤكدًا في تصريحات أدلى بها عقب عودته من المجر في مايو/أيار الماضي بقوله: "ليس لدينا أي مشكلة مع المواد الأربع الأولى"، مضيفًا أن هذا التوافق يشمل أيضًا معظم الأحزاب الممثلة في البرلمان.

مناورة سياسية أم ضمانة حقيقية؟

رغم تأكيد "أردوغان" في أكثر من مناسبة على التعهد بعدم المساس بالمواد الأربع الأولى من دستور 1982، إلا أن المعارضة التركية وعلى رأسها حزب "الشعب الجمهوري" تنظر إلى تصريحات "أردوغان" بتحفظ شديد، وترى فيها محاولة لطمأنة الرأي العام دون أن تلغي المخاوف من إمكانية تجاوز هذه المواد بطرق غير مباشرة في الدستور الجديد للبلاد.

ومن زاوية أخرى يرى بعض المحللين والمراقبين للمشهد أن إعلان الرئيس أردوغان التزامه بعدم المساس بالمواد الأربع الأولى من الدستور يحمل بعدًا تكتيكيًا أكثر منه ضمانة حقيقية، ويهدف بدرجة أولى إلى تهدئة الرأي العام "العلماني"، دون أن يبدد بالضرورة مخاوف المعارضة من مشروع يخشى أن يكرس صلاحيات السلطة التنفيذية على حساب مبدأ الفصل بين السلطات.

حيث إن المواد الأربع لم تكن موضع تهديد صريح في تجارب التعديل الدستوري السابقة، غير أن التركيز المتكرر عليها اليوم قد يكون محاولة لصرف النظر عن بنود أخرى يُتوقع أن تكون محل جدل، مثل نظام الحكم، وصلاحيات الرئيس، وتعريف المواطنة، والضمانات المرتبطة بالحريات العامة.

النصاب المطلوب

تواجه مبادرة كتابة "دستور جديد" للبلاد تحديات برلمانية معقدة قد تعوق تقدمها في ظل موازين القوى الحالية داخل البرلمان التركي، فحسب ما تنص عليه المادة (175) من الدستور، فإن تمرير مشروع دستور جديد يتطلب موافقة ثلثي أعضاء البرلمان، أي 400 نائب من أصل 600، وهو رقم صعب توفره بالنسبة لتحالف "الجمهور" (الحاكم) الذي يضم حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، ويملك 321 مقعدًا فقط.

وبالحديث عن إمكانية اللجوء إلى استفتاء شعبي، فإنها مشروطة دستوريًا بالحصول على دعم 360 نائبًا، وهو ما يعني حاجة التحالف الحاكم إلى استقطاب ما لا يقل عن 39 نائبًا إضافيًا من خارج صفوفه.

السيناريوهات المحتملة

لا شك أن النقاش حول إعداد دستور جديد في تركيا ليس وليد اللحظة، بل يعود إلى سنوات مضت، غير أن العائق في السابق كان عدم امتلاك تحالف الجمهور (الحاكم) أغلبية برلمانية كافية لتمرير المشروع، لكن المشهد الآن تغير، خاصة بعد التقارب السياسي الأخير بين التيار القومي والأوساط الكردية، وهو ما أفرز توازنات جديدة في البرلمان قد تتيح تمرير مشروع الدستور عبر تصويت أعضاء البرلمان ودون الحاجة إلى اللجوء لاستفتاء شعبي.

كما تابعنا خلال الأسابيع الماضية مسألة حل حزب "العمال الكردستاني" نفسه كتنظيم مسلح وإعلان عزمه الانخراط في الحياة السياسية، فإن هذا التطور في الحياة السياسية قد يكون جزءًا بلا شك ضمن فرضية الحلول البديلة، خاصة أن هناك العديد من الشواهد التي تدل على ذلك بوضوح، مما يعني أن الدستور الجديد سيشمل -على الأرجح- إضافات جديدة في مواده تعزز الحقوق الثقافية للأكراد في تركيا وتساعد في اندماجهم بمؤسسات الدولة بحرية وسلاسة ضمن قواعد ولوائح منضبطة.

كما يجب الأخذ في الاعتبار أن هناك مواد بعينها في الدستور الجديد، مثل تعزيز حرية المعتقد ومراعاة مظاهر التدين في الفضاء العام بما في ذلك الحجاب، ستدفع عددًا من الأحزاب المحافظة إلى دعم مسودة الدستور الجديد، في حال تحقق المراد من هذه المواد كما كانت تريد هذه الأحزاب سابقًا.

وبالنظر إلى الشواهد الحالية والقرائن المتتابعة فإن النقاش الأعمق سيكون حول قضايا مثل التعددية الثقافية ومواجهة الخطابات العنصرية، التي تصاعدت في الفترة الأخيرة، لا سيما مع صعود أحزاب يمينية متطرفة كحزب "الظفر" الذي يرأسه "أوميت أوزادغ"، مما يزيد من الحاجة إلى نص دستوري يوازن بين الحفاظ على الهوية الوطنية والانفتاح على التعددية المجتمعية في آنٍ واحد.

كلمة أخيرة

هناك حقيقة يجب التطرق إليها لأنها ستمثل عاملًا هامًا في إقرار الدستور الجديد من عدمه، وهي أن جميع الأحزاب السياسية التركية تمتلك مصالح ظاهرة وخفية قد تحققها من خلال صياغة دستور جديد للبلاد، ففي حين يهدف تحالف الجمهور (الحاكم) من التغيير إلى إزالة العقبات القانونية التي يفرضها الدستور الحالي أمامه في اتخاذ بعض القرارات الهامة بما يتناسب مع المئوية الثانية والقرن الجديد من تاريخ البلاد، تعمل المعارضة التركية هي الأخرى على استغلال الدستور الجديد كفرصة لإلغاء النظام الرئاسي الذي تبنته تركيا عام 2017، والذي تراه المعارضة مقيدًا للأحزاب الأخرى وللحريات العامة، ومضرًا بالحياة السياسية التركية، وبشكل عام فإن "الدساتير تعبر عن توافق اجتماعي"، بمعنى أن زيادة عدد الأطراف المشاركة في صياغة الدستور ستعزز من قوته وشرعيته، ويجب التأكيد على حقيقة أنه حتى في المجتمعات التي تسودها روح التجانس والتصالح، من الصعب تحقيق إجماع تام، وهذا ما أكدته لنا العديد من تجارب الدول التي تتفاخر بوصول الديمقراطية إلى مستوى الذروة لديها.

أعلى