في ظل أجواء ملتهبة في المنطقة، تعرضت تركيا لهجوم إرهابي خطير، كان له رسائله المختارة بدقة، زمانيا ومكانيا، رسائل شديدة الوضوح وشديدة الحساسية أيضا في بلد يحاول أن يستفيد من المساحات المتقاطعة بين الشرق والغرب.
في خطوة مفاجئة وذات دلالات عديدة جاء الهجوم الإرهابي على شركة صناعات الطيران
والفضاء في أنقرة (TUSAŞ)
في توقيت حسّاس بالنسبة للسياسة الداخلية التركية، ولذلك فهو حدث غير طبيعي لعدة
اعتبارات، أولها أنه ضرب مجمعًا كبيرًا للصناعات الدفاعية بينما ارتبط الاعتبار
الثاني بعامل "التوقيت" حيث تزامن مع الدعوة لمصالحة كبيرة مع أبرز خصوم الدولة
التركية "الأكراد المسلحين"، ولذلك نستطيع القول بإنه هجومًا غير عاديًا وله رمزية
من حيث الزمان والمكان، وهو ما يستدعي منا وقفة متأنية لفهم الرسائل الداخلية
والخارجية التي تكمن في طيات هذا الحدث، والموجهة إلى تركيا في ظل تغييرات إقليمية
كبيرة بالمنطقة.
تفاصيل الهجوم
في حادثة خطيرة شهدتها العاصمة التركية أنقرة تعرضت منشآت شركة الصناعات الجوية
والفضائية التركية "توساش" في منطقة "كهرمان كازان" لهجوم مسلح عصر يوم الأربعاء
الماضي، وبدأت الواقعة عندما نزل مسلحان (رجل وامرأة) من سيارة أجرة وبدآ بإطلاق
النار على الموجودين في مدخل مجمع الشركات، قبل التوجه نحو منشآت "توساش" التي
تعتبر مركزًا حيويًا لتطوير أنظمة الأسلحة المحلية.
وعلى الفور دوى انفجار أعقبه إطلاق نار كثيف استمر لفترة قصيرة، وذكرت مصادر محلية
أن أصوات الانفجارات وإطلاق النار استمرت حتى بعد الانفجار الأول، مما زاد من
التوتر والفوضى في المنطقة، وأفادت قناة "خبر ترك" بأن الانفجار قد يكون نتيجة هجوم
انتحاري، خاصة بعد الإعلان عن وجود رهائن بيد المسلحين.
ومع تسارع الحدث وضخامته انتقل إلى موقعه على الفور وزير الداخلية التركي "علي
يارلي كايا" لمتابعة المستجدات من هناك والتعامل مع الموقف وصعوبته، وقد تم استدعاء
القوات الخاصة إلى الموقع وإطلاق عملية أمنية واسعة للسيطرة على الموقف وتحييد
المهاجميْن، وقد تمكنت القوات من تحييدهما بعد مواجهات مسلحة داخل المنشأة وحولها.
ووفقًا لبيانات وزارة الداخلية فقد أسفر الهجوم عن مقتل 5 أشخاص وإصابة 16 آخرين
بجروح متفاوتة الخطورة، وقد تم نقل المصابين إلى مستشفيات قريبة لتلقي العلاج.
الخيوط الأولية للحدث
المهاجمان رجل وامرأة، ولم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الهجوم مباشرة عقب وقوعه، لكن
وسائل إعلام تركية أشارت إلى أن أصابع الاتهام تتجه نحو "حزب العمال الكردستاني"
الذي سبق أن نفذ هجمات مماثلة داخل تركيا.
|
خريطة
"إسرائيل الكبرى" التي نشرها عدد من المسؤولين والسياسيين الإسرائيليين منذ أسابيع
قليلة وتشمل مدن تركية هو مؤشر آخر يؤكد على مطامع إسرائيل التوسعية في المرحلة
المقبلة |
وكان آخرها الهجوم الذي وقع في الأول من أكتوبر من العام الماضي، حيث استهدف إحدى
بوابات مديرية الأمن التابعة لوزارة الداخلية في العاصمة أنقرة، وأسفر عن إصابة
شرطيين بجروح طفيفة ومقتل منفذي الهجوم.
وحسب صحيفة "خبر ترك" المحلية، فقد تم تحديد هوية أحد المهاجمين، وهو عضو في حزب
العمال الكردستاني، وقد انضم إليه عام 2016، وتم نشر صورة له في صفوف التنظيم
لإثبات انتمائه إليه بالأدلة الموثقة.
الجهة المنفذة تتبنى المسؤولية
في اليوم التالي للحدث أعلن "حزب العمال الكردستاني" مسؤوليته عن الهجوم الذي وقع
على شركة صناعات الطيران والفضاء التركية "توساش" في العاصمة أنقرة، ليؤكد التنظيم
بذلك صدق المؤشرات الأولية التي ذكرتها وسائل الإعلام التركية نقلًا عن مسؤولين
أمنيين بالبلاد.
طبيعة المكان المستهدف
تعد شركة الصناعات الجوية والفضائية التركية "توساش" من أكبر 100 شركة عالمية في
قطاع الدفاع والطيران، إذ تركز على تطوير الأنظمة الجوية والفضائية من خلال 6 مراكز
إستراتيجية تشمل الطائرات والمروحيات والطائرات المسيرة وأنظمة الفضاء.
والجدير بالذكر أنه قد تم تأسيس شركة ""TAI
تحت إشراف وزارة الصناعة والتكنولوجيا التركية في 28 يونيو 1973 بهدف تقليل اعتماد
تركيا على الدول الأجنبية في التسليح.
ومع توجه تركيا نحو استخدام طائرات "F-16"
لتلبية احتياجات القوات الجوية التركية، أسست "TAI"
شركة "TUSAS"
في عام 1984 كمشروع مشترك بين تركيا والولايات المتحدة لمدة 25 عامًا بهدف تصنيع
طائرات "F-16"
ودمج الأنظمة التكنولوجية في هذه المقاتلات وإجراء اختبارات الطيران، وقبل نهاية
الفترة المحددة للمشروع، تمت إعادة هيكلة شركة "TAI"
من خلال استحواذ مساهمين أتراك على الأسهم الأجنبية للشركة في عام 2005، لتصبح بذلك
الشركة محلية بالكامل.
والجدير بالذكر أن شركة "توساش" تُنتج حاليًا طائرات مسيرة مثل "أنكا"، ومروحيات
مثل "أتاك" و"غوكباي"، وطائرات تدريبية مثل "هوركوش"، والمقاتلة الحربية الوطنية
"قآن"، وكلها منتجات محلية الصنع وتمثل طفرة في مجال الصناعات الدفاعية التركية.
الدلالة المكانية والزمانية للهجوم
بالنسبة للدلالة المكانية للهجوم على مجمع الصناعات الجوية والفضائية فهو يحمل
رمزية كبيرة؛ لأن هذا الموقع هو في الأساس "قلب صناعة الدفاع التركية"، والهجوم على
هذه المنطقة المعزولة والمخصصة للصناعات الدفاعية الجوية كان مفاجئًا وغير متوقع
بالمرة، حيث يقع المجمع الخاص بشركة "توساش" على بعد 40 كيلومترًا من مركز العاصمة
أنقرة.
كما أن المجمع الذي تعرض للهجوم يُعد أحد الشركات الكبرى لإنتاج المسيرات المحلية،
التي أثبتت فعاليتها الهائلة في مكافحة الإرهاب، والتي أعطت تركيا شهرة في
تكنولوجيا الطائرات بدون طيار.
وترى مديرة مكتب صحيفة "ديلي صباح" في أنقرة، أن اختيار حزب العمال الكردستاني
(لتوساش) كهدف هو رسالة واضحة؛ لأن الجيش التركي يستخدم الطائرات التي تصنع في
الشركة لقصف أهدافه في سوريا والعراق بدلًا من العمليات العسكرية البرية.
وبالحديث عن الدلالة الزمانية للهجوم نجد أن الهجوم جاء بعد 24 ساعة فقط من مبادرة
استثنائية -أثارت الرأي العام في تركيا- وجهها زعيم حزب "الحركة القومية" والحليف
المقرب لأردوغان "دولت بهتشلي" لمؤسس حزب العمال الكردستاني "عبد الله أوجلان"
المسجون على ذمة قضايا تتعلق بالإرهاب، والذي يقبع في سجن بجزيرة "آمرلي" الواقعة
في بحر مرمرة منذ عام 1999، ويخوض حزبه تمردًا مسلحًا ضد الدولة التركية منذ عام
1984.
وتقوم المبادرة الاستثنائية التي طرحها "دولت بهتشلي" في جلسة للبرلمان على معادلة
من شقين، وقد لخصها بقوله إنه إذا تم رفع العزلة عن زعيم الأكراد المسلحين
"أوجلان"، فليأتِ ويتحدث في اجتماع حزب المساواة وديمقراطية الشعوب (الذراع السياسي
الحالي للأكراد) في البرلمان، وليعلنها صراحة بأن الإرهاب انتهى تمامًا وأن تنظيمه
"حزب العمال الكردستاني" المسلح تم حله للأبد.
وأكمل بهتشلي حديثه بأنه إذا ألقى أوجلان مثل هذا الخطاب، فقد يكون هناك سبيل
لإطلاق سراحه من السجن بموجب المادة الثالثة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان،
المعروفة باسم "الحق في الأمل"، والتي تحظر أحكام السجن لأجل غير مسمى وتحددها بـ25
عامًا.
زيارة أوجلان وتصريحاته
اللافت أنه في أعقاب مبادرة "بهتشلي" والهجوم الذي استهدف "توساش"، أعلنت عائلة
أوجلان عن إجراء زيارة له لأول مرة منذ 4 سنوات، وكتب ابن أخيه عمر أوجلان عبر منصة
"إكس" صباح الخميس الماضي أن "الزيارة جرت في إطار عائلي".
وأوضح عمر أن عمه أوجلان أجرى تقييمًا للتطورات السياسية العامة وطلب إيصال رسالة
للجمهور مفادها أن: "العزلة مستمرة ولكن إذا توفرت الظروف، فإنه يوجد القوة النظرية
والعملية لنقل العملية (في إشارة لمبادرة بهتشلي وإتمام عملية المصالحة مع الدولة)
من أرضية الصراع والعنف إلى الأرضية القانونية والسياسية".
وتعتقد مديرة مكتب صحيفة "ديلي صباح" بأنقرة أنه يمكن اعتبار هجوم (توساش) قرارًا
فرديًا، أي أنه لم يكن بقرار حزب العمال الكردستاني بأكمله، بل عمل استفزازي من
جناح متمرد داخل التنظيم يعمل لصالح دولٍ لا تريد لعملية المصالحة أن تتم، بسبب
مصالحها التي تتعارض مع مثل هذه المبادرات التي توفر السلام لتركيا وأمنها القومي.
الرسائل الخارجية للهجوم
حمّل هذا الهجوم في تفاصيله وإشاراته الكثيرة أبعادًا ورسائل مختلفة تنوعت بين
الخارجية منها بخلاف الرسائل الداخلية المتعلقة بإتمام المصالحة مع الأكراد
المسلحين.
ومن هذه الرسائل الخارجية المراد إيصالها لتركيا أنه قد أتى الهجوم بعد يوم واحد من
افتتاح معرض "SAHA
EXPO"
الدولي للصناعات الدفاعية والجوية والفضاء في إسطنبول، والذي تشارك به 1478 شركة
صناعات دفاعية من أكثر من 120 دولة حول العالم.
وهذا يحمل دلالة أن ثمة استهدافًا لقطاع الصناعات الدفاعية في تركيا، الذي بات
القطاع الأكثر توسعًا في البلاد، والذي رفع سمعة تركيا دوليًا وأدخلها نادي الدول
المصدرة للسلاح بقوة، إضافة إلى أنه أصبح يؤمّن أكثر من 80% من احتياجات تركيا من
السلاح في السنوات القليلة الأخيرة، فضلًا عن أن المسيّرات شكلت نحو 80% من
صادراتها في عام 2023.
وهذه الرسالة تجعلنا نعيد للأذهان تصريح أردوغان بضرورة اعتماد تركيا على نفسها في
مجال الصناعات الدفاعية حتى لا تستطيع إسرائيل فعل ما تقوم به الآن، وقد أكد حينها
على مساهمة بلاده عسكريًا في كل من ليبيا وجنوب القوقاز، وإلى إمكانية تكرار ذلك في
فلسطين، وهو التصريح الذي ردّ عليه وزير خارجية الاحتلال بتهديد أردوغان بمصير
"صدام حسين".
كما أن
خريطة "إسرائيل الكبرى" التي نشرها عدد من المسؤولين والسياسيين الإسرائيليين منذ
أسابيع قليلة وتشمل مدن تركية هو مؤشر آخر يؤكد على مطامع إسرائيل التوسعية في
المرحلة المقبلة،
كما أن العلاقة الجيدة بين حزب العمال الكردستاني من جهة وأمريكا وإسرائيل من جهة
أخرى، تؤكد أنه سيتم استخدام التنظيم بصورة غير مباشرة في وجه تركيا لتحقيق وهم
"الأرض الموعودة" الذي تحلم به إسرائيل، وذلك مقابل وعد التنظيم بإقامة دولة كردية
مستقلة على حدود تركيا، وكل ذلك يؤكد أن الهجوم الذي وقع هو رسالة بأن إسرائيل تسعى
وراء حلمها وتحاول إفساد كل المحاولات التي تقف أمام تحقيقه.
هذا البعد الخارجي يتعزز كذلك مع توقيت الهجوم الذي تزامن مع مشاركة الرئيس التركي
في قمة مجموعة "بريكس" في مدينة "كازان" الروسية، والتي ينظر الكثيرون لها كتكتل
اقتصادي منافس أو بديل عن مجموعة الدول السبع، حيث يضم دولًا مثل (روسيا والصين
والهند)، والتي تسعى تركيا لنيل عضويتها، لتصبح بذلك تركيا أول دولة في حلف الناتو
تسعى لهذه العضوية، وهو الأمر الذي يزعج الغرب ويرى فيه توسعًا غير مقبولًا.
وربما يجب هنا الإشارة إلى التطابق بين اسم المدينة التي تحتضن قمة بريكس (كازان)
والمنطقة التي وقع بها الهجوم الإرهابي في أنقرة (كهرمان كازان)، بغض النظر عن مدى
التعمد أو المصادفة في ذلك.
كلمة أخيرة
لا شك أن هذا الهجوم لم تمكن أهميته في حجم خسائره البشرية والمادية بقدر ما حمله
من رسائل داخلية وخارجية هامة في وقت صعب على المنطقة بأكملها، في ظل تغيرات
استراتيجية وجيوسياسية تتعرض لها دول كثيرة منذ بدء عملية "طوفان الأقصى" في
الأراضي المحتلة، ولذلك فقد حمل هذا الهجوم الإرهابي دلالات واضحة على ارتباطه
باحتمالات العودة لمسار سياسي داخلي فيما يتعلق بالمسألة الكردية، وحمل كذلك إشارات
واضحة على رسائل ضغط خارجية تتعلق بذات الملف، ثم بملفات أخرى في مقدمتها الصناعات
الدفاعية ومحاولات الاستقلال في مجال صناعة السلاح، ناهيك عن الموقف من الحرب على
غزة واحتمالات تصعيد الاحتلال الحرب في المنطقة، فضلًا عن علاقات تركيا مع الولايات
المتحدة وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي.