• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
انعكاسات الضغوط الشعبية على السياسة الغربية تجاه

"هل مثلت الضغوط الشعبية والمظاهرات ضد الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني تحولات مهمة في السياسة الغربية تجاه الكيان الصهيوني؟ وهل يمكن البناء عليها في المستقبل؟ أم ما حدث مجرد استجابات مؤقتة لا تمس حقيقة الموقف الغربي من "إسرائيل"؟


ينظر الغرب الى اليهود منذ القدم باعتبارهم وسيلة لا غاية، لا أهمية لهم في حد ذاتهم، إذ تعود أهميتهم إلى مدى نفعهم، فمنذ عهد الكنيسة في العصور الوسطى اعتبرهم الكاثوليكيين والبروتوستانت عنصرا أساسيا في عملية خلاص المسيحية، ويجب توطينهم في فلسطين للتخلص منهم، وفي إطار ذلك طرحت حلاً إمبرياليا وظيفيًا يتلخص في إخراج اليهود من الغرب وتوظيفهم في خدمته.

وقد تم ذلك عن طريق ربط المسألة اليهودية بالمسألة الشرقية في أواخر عهد الإمبراطورية العثمانية التي كانت تعاني من الضعف والانهيار، على أن يقوم الغرب بنقل الفائض البشري اليهودي الذي لا وظيفة له في الغرب إلى منطقة إستراتيجية في آسيا، وهي (فلسطين) تطل على البحرين الأبيض والأحمر، وتقع في قلب العالم العربي والإسلامي والدولة العثمانية، حيث يؤسس دولة استيطانية تضم هذا الفائض البشري وتقوم بوظيفة حيوية وهي الدفاع عن المصالح الغربية في المنطقة، نظير أن يقوم الغرب بالدفاع عن سكانها، وضمان رفاهيتهم وبقائهم واستمرارهم، ولأنهم عنصر بشري مستورد غريب فإنه سيظل في حال احتكاك مع سكان المنطقة الأصليين، وسيضمن الغرب ولاءه الدائم له، طالما أصبحوا جماعة وظيفية تعمل بالاستيطان والقتال في خدمة الحضارة الغربية خارج حدودها.

دعم غربي لامحدود:

لقد مهد الغرب وتحديدا بريطانيا لليهود احتلال أرض فلسطين من خلال منحها وعد بلفور المشئوم، وسخروا لها كل الإمكانيات من أجل ذلك، حتى تمكن اليهود من السيطرة على أرض فلسطين بالمجازر والقتل والتهجير أمام مرأى ومسمع العالم الغربي الذي كان وما يزال يدعي الحضارة، وأقاموا على أنقاضها دولتهم المزعومة التي سميت بأرض (إسرائيل) بعد أن ذبحوا شعبها وهدموا تراثها وأقاموا على أنقاض قراها الأصلية مستوطناتهم، واستبدلوا سكانها العرب الأصليين بمستوطنيهم وطردوهم خارج فلسطين، وكل ذلك كان بمباركة أوروبا والغرب بل وبمساندتهم ودعمهم، ومنذ ذلك الوقت ظلت تلك الدولة المنبوذة هي مصدر القلق والتوترات في المنطقة.

 

 إن هذا التحول الذي حدث لاحقًا ضد الرواية الصهيونية كان مرتبطًا بشكل جوهري بدموية الرد الإجرامي الانتقامي، الذي كان كافيًا لتوفير سردية إنسانية قوية للتضامن مع ضحايا الحرب الرهيبة ضد المدنيين العزل في الرأي العام الغربي

إلى اليوم ما زالت أوروبا ترى في القضية الفلسطينية أنها مسألة إنسانية، وتقلِّل من أهمية مناقشتها في إطار سياسي يؤدي لبلورتها كقضية لشعب ذي حقوقٍ وطنية، هذه الرؤية ذاتها تأتي في سياق تطور خطاب غربي يعترف بعدم شرعية الاحتلال لفلسطين، لكنه يرفض تناول استحقاقات مثل هذا الإقرار، كحق الشعوب التي تعيش تحت الاحتلال في أن تدافع عن نفسها أو تقرير مصيرها، وتجرم الشعب الفلسطيني ومقاومته وتنفي عنه حقه الشرعي في الدفاع عن نفسه وحقه في العيش بكرامة على أرضه كباقي الشعوب الحرة، أو تحميل دولة الاحتلال أكثر من الإدانات السياسية التي لا تصل حد إلزامها بتطبيق قوانين النزاع الدولي، والقيام بالتزامات القوة القائمة بالاحتلال.

تحول سياسي خجول:

في حرب غزة الدائرة اليوم والتي تدخل عامها الثاني من القتل والتدمير الصهيوني، حصلت الرواية الصهيونية في بدايتها على دعم غير مسبوق من مختلف الدول الأوروبية التي باركت الهجوم الصهيوني على غزة، بعد أن نجحت الرواية الإعلامية الصهيونية في تحشيد الرأي العام لها، إضافة إلى غطاء سميك من وسائل الإعلام الغربية التقليدية والكبرى التي روجت لهذه الرواية الصهيونية.

 ثم ما لبثت هذه الرواية أن بدأت تفقد زخمها مع تزايد القناعة الغربية بتجاوز الانتقام الصهيوني حدوده المعقولة، بعدما وفرت آلة القتل الصهيونية الفظيعة بحق المدنيين في غزة رواية بديلة للرأي العام المتضامن مع فلسطين، تتجاوز أحداث السابع من تشرين أول/ أكتوبر، وتقوم أساساً على وجود جريمة موثقة لا يمكن إنكارها بحق المدنيين.

فرأينا  بعض تحولات تحت تأثير الضغط الشعبي، منها تصويت فرنسا إلى جانب إسبانيا لاحقًا بنعم على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي طالب بوقف إطلاق النار في غزة، وتحول خطاب الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بعدها باتجاه المطالبة المباشرة بوقف قتل دولة الاحتلال للنساء والأطفال وهدم البيوت، ويمكن فهم أسباب تحول هذا الموقف الفرنسي عندما نعلم أن نسبة التعاطف العام في أوروبا مع الفلسطينيين هي الأعلى بين الجمهور الفرنسي، بنسبة صاعدة لا تقل عن (47٪) منذ 2007، وهي نسبة لا تزال تتفوق على نسبة المتعاطفين مع دولة الاحتلال، وانخراط شرائح كبيرة من اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية في الحركة التضامنية مع فلسطين خلال هذه الحرب، وهو ناتج عن تنامي التيارات التقدمية داخل الجالية اليهودية، إضافة لموقف التيار الديني الأرثوذكسي المناهض للصهيونية، وتسارع الدعوات إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية من العديد من الدول الأوروبية، مثل إسبانيا وإيرلندا والنرويج، وتعاطف الكثير من الدول الأوروبية التي انضمت لدعوى جنوب افريقيا ضد دولة الاحتلال، لاتهامها بارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين في غزة، واستعدادها لتقديم أدلة أكبر وأكثر في اطار ذلك، وهو ما يبرز حجم التحول في السياسة الغربية تجاه دولة الاحتلال وممارساتها الفاشية والنازية. 

أسباب التحول وتداعياته:

إن هذا التحول الذي حدث لاحقًا ضد الرواية الصهيونية كان مرتبطًا بشكل جوهري بدموية الرد الإجرامي الانتقامي، الذي كان كافيًا لتوفير سردية إنسانية قوية للتضامن مع ضحايا الحرب الرهيبة ضد المدنيين العزل في الرأي العام الغربي، كما أن العديد من الأحزاب الحاكمة في بعض الدول الأوروبية بدأت تتساوق مع مواقف التيارات اليسارية والتقدمية والشعبية التي أحدثت صدى كبيرا داخل بلادها، عندما تضامنت بشكل كبير مع القضية الفلسطينية، وتساوقت مع الرواية الفلسطينية، وكان لها تأثير كبير في تغيير سياسة الأنظمة الحاكمة تجاه القضية الفلسطينية وحرب الإبادة على غزة، بل وساهمت في سقوط أحزاب حاكمة كما حدث في بريطانيا، وأظهرت أعمق أزمات اليسار في العديد من الدول كفرنسا، وبريطانيا وإسبانيا، ويمكن اجمال أسباب هذا التحول وتداعياته فيما يلي:

الدور الكبير والحيوي الذي لعبته الدبلوماسية الشعبية والرقمية، ووسائل الاعلام والسردية الفلسطينية والحملات الإعلامية ومنظمات الدعم الفلسطيني في إظهار الحقائق عالميًّا، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، والذي كان لها التأثير الأكبر في هذا التحول في الرأي العام الغربي تجاه القضية الفلسطينية.

المظاهرات والاحتجاجات الشعبية وثورة الجامعات العارمة التي اجتاحت العالم الغربي، والتي جاءت لتدلل على قوة التضامن الشعبي الغربي بعيدا عن الموقف الرسمي للحكومات الغربية مع القضية الفلسطينية، ومظلومية الشعب الفلسطيني، والتي أصبح لها أكبر الأثر فيما بعد بتحول الموقف الرسمي لبعض البلاد الغربية تجاه القضية الفلسطينية ضد دولة الاحتلال، وذلك حسب استطلاعات اليهود أنفسهم بداية الحرب على غزة والي أظهرت أن (69%) من المظاهرات والاحتجاجات في أوروبا جاءت مؤيدة لفلسطين، مقابل (31%) لدولتهم، وبعد 13 تشرين أول/ أكتوبر ارتفعت النسبة لتصل إلى (95%) لفلسطين.

الصدع الكبير الذي ضرب سمعة الدول الغربية التي تدعي الديمقراطية فيما يتعلق بالقيم والأخلاق، بسبب انحيازها السافر إلى دولة الاحتلال في حربها البربرية على غزة، مما فتح نقاشًا غربيًا حول ازدواجية المعايير لديهم، وفضح عنصريتهم وزيف ديمقراطيتهم وهم يدعمون الإبادة الصهيونية بحق الأبرياء والضحايا من ابناء الشعب الفلسطيني وينكرون حقهم في الدفاع عن أنفسهم وينصرون الجلاد على الضحية.

ضحد الدعاية الصهيونية التي أصبحت أقل قابلية للتصديق بالنسبة للرأي العالمي الغربي، والتي بنيت على الادعاءات الكاذبة والتظليل، وأحداث حالة جدلية عالمية حول القضية الفلسطينية، وتعزيز الرواية والسردية الفلسطينية التي أفقدتها الكثير من التأييد الغربي.

ومع ذلك يبقى هذا التحول ضعيفا في مردوده لا يخرج عن بعض تصريحات عاطفية دون أي رد مؤثر على الأرض يردعها عن الولوغ في الدماء الفلسطينية الطاهرة، والتي ما كانت أن تصل إلى هذا المستوى الرهيب من العنف والوحشية لولا صمت العالم الغربي.

ويبقى أن نشير أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تقود العالم الغربي اليوم أعطت الضوء الأخضر بالكامل للإبادة التي تحدث للشعب الفلسطيني، ولم تخرج بعض الإدانات إلا من بعض الدول الأوروبية التي يحكمها اليسار أو أرقتها المظاهرات، فلا يمكن وصفها بتحول حقيقي أو يقظة فعلية بل استجابات لفظية للضغوط الشعبية والإعلامية.

أعلى