غَلَب
على المكتوب والمنشور في هذه الأيام هشاشة العبارات وركاكتها، واستحوذ التكلُّف
والتصنُّع في الألفاظ، وساد التشقيق في الكلام والإسهاب؛ بل ربما تجاوزوا ذلك إلى
ابتذال الأسلوب، ومقارفة كلمات سوقية وأشباهها، ونال ذلك الرسائلَ الجامعية
والبحوثَ المحكَّمة.
قال
الشيخ محمد رشيد رضا: «أتى على الأمة العربية بضعة قرون وهي في تدلٍّ وضعف في
اللغة، لا يمضي عليهم قرن ولا عام إلا والذي بعده شر منه، وما سببه إلا تنكب سبيل
الأولين في حفظ الكثير من الكلام العربي الحرِّ الفصيح وفهمه»[1].
ولقد
كان قدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم أفصح الناس، كما كان أنصح الناس وأعلمهم؛ فقد
أوتي جوامع الكلم، فكان يبلِّغ المعاني الكثيرة الجليلة بألفاظ وجيزة بليغة، تمتاز
بالجزالة والسبك، والتنزُّه عن التكلُّف ومجانبة وحشي اللغة و شواذها[2].
وأهل
السُّنة والجماعة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففي تقريراتهم: الوضوح
والظهور، والإفصاح والبيان، ومن ذلك: أن السلف الصالح أثبتوا أن صفات الله - تعالى
- معلومة المعاني؛ فقد أمر الله - تعالى - بتدبُّر القرآن كله في عدة آيات،
والتدبُّر هو العقل والفهم. وجَانَب السلفُ تأويلات المتكلمين و تكلفاتهم،
وتحريفهم الكلم عن مواضعه، كما جانبوا جهالات المفوِّضة وضلالهم، والذين جعلوا
آيات الصفات - وهي ظاهرة الدلالة بيِّنة المعاني - مجرد «أمانيَّ» لا تُفهَم ولا
تُعلَم. فَرضي أهلُ التجهيل بالسفسطة وإنكار الحقائق البديهة.
ومما
يجدر ذكره أن مفوِّضة هذا العصر قد يشغبون على أهل السنة، فيطالبون بتعريف ما كان
بدهيّاً جلياً (كالسمع، والبصر، والنزول، واليد) مما لا يزيده التعريف إلا خفاءً
واشتباهاً، وكل ذلك من أجل أن يوقعوا مخالفيهم: إما في التمثيل والتكييف، أو
التفويض والتجهيل، وهذا شغب مكشوف وضلال مفضوح، وكما قال الإمام الذهبي: «السؤال
عن النزول ما هو عيٌّ؛ لأنه إنما يكون السؤال عن كلمة غريبة في اللغة؛ وإلا
فالنزول، والكلام، والسمع، والبصر، والاستواء، عبارات جلية واضحة للسامع؛ فإذا
اتصف بها من ليس كمثله شيء، فالصفة تابعة للموصوف، وكيفية ذلك مجهولة عند البشر»[3].
وتعويل
السلف الصالح على الألفاظ الشرعية، والعبارات الدينية حقق لهم بَرْد اليقين
والإجلال والتعظيم لشعائر دين الله - تعالى - وشرائعه، كما أورثهم الفهم والبيان
والبلاغة والإيجاز؛ فإن في الألفاظ القرآنية والنبوية من الغَناء والشفاء والحرمة
ما ليس لغيرها، وفيها من الحِكَم والمعاني ما لا تنقضي عجائبه[4].
بخلاف
أهل الزندقة والأهواء فهم في ريبهم يترددون، وفيهم من الاستخفاف بدين الله ما هو
مبسوط في موضعه، كما أنهم يتقصَّدون الإلغاز والتلبيس، والتعمية، والتأسي بالمذهب
الباطني في تحريفاته ونفاقه، وسرد ألفاظ طويلة لمعانٍ خفيفة[5].
ومهما
يكن فإن الاحتفاء والتعويل على العبارات المجهولة الغامضة هو جادة سلكها
المتكلِّمة والمتفلسفة ومن نحا نحوهم من منافقي هذا الزمان؛ حتى قال ابن تيمية
عنهم: «كلما كانت العبارة أبعد عن الفهم كانوا لها أشد تعظيماً، وهذا حال الأمم
الضالة؛ كلما كان الشيء مجهولاً كانوا أشد له تعظيماً؛ كما يعظِّم الرافضة
المنتظَر الذي ليس لهم منه حسٌّ ولا خبر، ولا وقعوا له عيناً ولا أثراً.
وكذلك
تعظيم الجهال من المتصوفة ونحوهم للغوث وخاتم الأولياء، ونحو ذلك مما لا يعرفون له
حقيقته، وكذلك النصارى تعظِّم ما هو من هذا الباب، وهكذا الفلاسفة»[6]. بل زعم الفخر الرازي أن
وقوف الناس على معاني القرآن يُسْقِط وقعها عن القلب. وهذا كلام في غاية البطلان
والتهافت؛ فإن الشخص يجد في نفسه أنه كلما كان أكثر فهماً للقرآن كان أشد تعظيماً
وإجلالاً لكلام الله تعالى. قال - تعالى -: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
ولما
تحدَّث ابن القيم عن منزلة التعظيم قال: «هذه المنزلة تابعة للمعرفة، فعلى قَدْر
المعرفة يكون تعظيم الربِّ - تعالى - في القلب، وأعرَف الناس به أشدهم له تعظيماً
وإجلالاً»[7].
ثم
إن من دسائس المبتدعة ومن سلك سبيلهم من العصريين: أنهم يعشقون العبارات الغامضة
الشائكة ويخدعون الناس بتلك الألفاظ العويصة؛ فهذه الألفاظ المشتبهة المشكلة قد
عظَّموا من شأنها، وهوَّلوا في نفوس من لم يفهمها.. وإذا اعترض عليهم معترض قالوا:
أنت لا تفهم هذا، فعندئذ يلحق ذلك المعترض ما في النفوس من الأنفـة والحميَّـة،
فيسلِّم بألفـاظهم الغامضـة حتى لا يتهم بنقص في فهمه وعقله[8].
واسترواح
الغموض والشذوذ نابع عن كِبْر وعُجْب وحبِّ التفرُّد والتمايز عن الآخرين؛ وإلا
فهذه الألفاظ التي بهرجوها وهوَّلوها «من باب القعقعة بالشنان لمن يفزعه ذلك من
الصبيان، ومَن هو شبيه بالصبيان»[9].
والحاصل
أن هذه الألفاظ لا حقيقة لها عند الإنسان، بل هي هذيان وإفك وبهتان، نظير منتظِرِ
الرافضة، وغوث الصوفية، ومعصوم النصيرية[10].
لقد
كان وضوح تقريرات السلف، وجلاءُ عباراتهم من أعظم الأسباب في قبول مذهب السلف
وانتشاره؛ حتى اعترف بعض المبتدعة بذلك قائلاً: «هذا إذا سمعه الناس قبلوه
وتلقَّوه بالقبول، وظهر لهم أنه الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن
إذا أخذنا الشخص فربَّيناه وغذَّيناه ثلاثين سنة، ثم أردنا أن ننزل قولنا في
حَلْقه، لم ينزل في حَلْقه إلا بكلفة»[11].
[1] فتاوى محمد رشيد
رضا: 4/1386.
[2] انظر: الحديث النبوي
من الوجهة البلاغية لكمال عز الدين ص62، ووحي الرسالة للزيات: 3/105.
[3] العلو: 2/1229.
[4] ينظر: النبوات لابن تيمية: 2/876.
[5]
ينظر: الانحرافات العقدية في الأدب العربي لسعيد الغامدي ص (690 - 691).
[6] الدرء: 5/315 - 316.
[7] مدار السالكين: 2/495.
[8] انظر: الدرء: 1/295.
[9] الدرء: 4/181.
[10] ينظر: بيان تلبيس الجهمية: 4/118.
[11] الدرء: 5/62.