العدل صفة من صفات الإنسانية المستقيمة، جاء في لسان العرب: العَدْل: ما قام في
النفوس أَنه مُسْتقيم، وهو ضِدُّ الجَـوْر، وفي أَسـماء الله - سبحانه -: العَدْل
هو الذي لا يَمِيلُ به الهوى فيَجورَ في الحكم، والعَدْلُ من الناس: المَرْضِيُّ
قولُه وحُكْمُه، ورَجُلٌ عَدْلٌ: رِضاً ومَقْنَعٌ في الشهادة.
ومن الألفاظ الدالة على العدل لفظ القسط؛ فمعناهما واحد، وضد العدل ونقيضه: الظلم
والجور، والظُّلْمُ: وَضْع الشيء في غير موضِعه، والظُّلْم: المَيْلُ عن القَصد.
العدل والتوحيد:
إن مما يدل عليه القيام بالعدل وترك الظلم: التسوية بين المتمـاثلات والتفـرقـة بين
المختـلفـات، ولمـا كـان اللـه - تعالى - لا مِثْل له ولا نِدَّ له ولا كفؤ له كما
قال - سبحانه وتعالى -:
{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ
تَعْلَمُونَ} [البقرة: ٢٢]،
وقوله:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
[الشورى: ١١]؛
فكان التفريق بين الخالق والمخلوق - وهو التوحيد - من العدل؛ لذا كان توحيد الله -
تعالى - وإفراده بالعبادة أعلى مراتب العدل وأوضح صوره، وكانت المساواة بين الله -
تعالى - وخلقـه مـن أبين صـور الظلـم وأقبحـه. قـال الله - سبحانه وتعالى - في ذم
المشركين:
{الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ
وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}
[الأنعام: ١]،
يثني الله - تعالى - على نفسه ويحمدها معجِّباً خلقَه المؤمنين من كَفَرة عباده؛
حيث يعدلـون (يسوون) بربهـم ما يعبدون من الأصنام والأوثان وهو الذي خلق السموات
والأرض وجعل الظلمات والنور بما في ذلك من المنافع والحِكَم التي لا تحصى؛ لذا كان
العدل اسماً من أسماء الله الحسنى، وكان الكفر بالله - تعالى - والشرك أقوى مراتب
الظلم وأظهر صوره. قال الله - تعالى -:
{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِـمُونَ}
[البقرة: 254]،
وقال - تعالى -:
{إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
[لقمان: 13]،
والعدل في النصوص الشرعية جاء على عدة أوجه من التصرف؛ فمنها النصوص الآمرة به أو
المبينة لفضله، ومنها النصوص الزاجرة عن ضده أو المبينة لقبحه. قال - تعالى -:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ
وَالْـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}
[الحديد: 25]
فأرسل الله رسله بالبينات المفصَّلات الواضحات وأنزل معهم الكتاب والميزان ليعمل
الناس بينهم بالعدل؛ فكان العمل بالعدل من الثمار المرجوة من بعثة الرسـل - عليهـم
الصـلاة والسـلام - على امتداد التـاريخ؛ إذ لا تصلح الحياة ولا تستقيم إلا بالعدل؛
«فعن عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص
على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال: والله! لقد جئتكم
من عند أحب الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير وما
يحملني حبي إياه، وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السموات
والأرض»[1]،
وقال ابن تيمية: «... وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في
أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل:
إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة.
ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام. وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم: «ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم»؛ فالباغي يصرع في
الدنيا وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة؛ وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا
أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل
لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة»[2].
والعدل كما يتناول التوحيد فإنه يتعدى ذلك ليشمل السلوك الإنساني كله: في الفكر
والتصورات، وفي القول والعمل، مع الذكر والأنثى، والكبير والصغير، والقريب والبعيد،
والموافق والمخالف، والصديق والعدو، والغني والفقير؛ فالعدل قيمة مطلقة لا يدخلها
تقييد، وقد دلت النصوص الشرعية على ذلك كله.
العدل مع الأولاد: أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن الشعبي: (حدثني النعمان بن بشير أن
أمه بنت رواحة، سألت أباه بعض الموهبة من ماله لابنها، فالتوى بها سنة ثم بدا له،
فقالت: لا أرضى حتى تُشهِد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وهبت لابني، فأخذ
أبي بيدي - وأنا يومئذٍ غلام - فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول
الله! إن أم هذا بنت رواحة أعجبها أن أشهدك على الذي وهبت لابنها، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «يا بشير ألك ولد سوى هذا؟» قال: نعم. فقال: «أكلهم وهبت له
مثل هذا؟» قال: لا. قال: «فلا تشهدني إذاً؛ فإني لا أشهد على جور»)[3].
العـدل مع الغنـي والفقيـر، والقـريب والبعيد:
قال اللـه - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ
الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ
أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا} [النساء: 135].
قال ابن كثير في تفسيرها: «يأمر - تعالى - عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط؛
أي بالعـدل، فـلا يعدلـوا عنـه يمينـاً ولا شــمالاً، ولا تأخذهم في الله لومة لائم
ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه... قوله:
{وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ}؛ أي: اشهدِ الحق ولو
عاد ضررها عليك وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه؛ وإن كان مضرة عليك؛ فإن الله
سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه. وقوله:
{أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}؛ أي: وإن
كانت الشهادة على والديك وقرابتك، فلا تراعهم فيها، بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها
عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد، وهو مقدَّم على كل أحد. وقوله:
{إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى
بِهِمَا}؛ أي: لا ترعاه لغناه ولا تشفق عليه لفقره؛ الله يتولاهما، بل هو
أولى بهما منك، وأعلم بما فيه صلاحهما. وقوله: {فَلا
تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا}؛ أي: فلا يحملنكم الهوى والعصبية
وبغضة الناس
إليكم، على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال
- تعالى -:
{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}
[المائدة: ٨]»[4].
العدل مع الأعداء والأصدقاء: قال الله - تعالى -:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ
بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ}
[المائدة: ٨].
قال ابن جرير الطبري: «وأما قوله:
{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا}
[المائدة: ٨]
فإنه يقول: ولا يحملنكم عداوةُ قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم،
فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة
{اعْدِلُوا}أيها
المؤمنون، على كل أحد من الناس وليّاً لكم كان أو عدوّاً، فاحملوهم علـى ما
أمرتُكـم أن تحملـوهم عليه من أحكـامي، ولا تجوروا بأحد منهم عنه، وأما قوله:
{هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}
فإنه يعني بقوله:
{هُوَ}
العدلُ عليهم أقرب لكم - أيها المؤمنون - إلى التقوى؛ يعني: إلى أن تكونوا عند الله
باستعمالكم إياه من أهل التقوى، وهم أهل الخوف والحذر من الله أن يخالفوه في شيء من
أمره، أو يأتوا شيئاً من معاصيه»[5].
العدل مع القوي والضعيف، والشريف والوضيع: سرقت امرأة قرشية من بني مخزوم فطلب
أهلها من أسامة بن زيد(حب رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يتوسط لهم عند رسول
الله في ترك إقامة الحد عليها فأبى الرسول العظيم ذلك وقال قولته المشهورة التي
تبيِّن إصرار الرسول صلى الله عليه وسلم على إنفاذ الحدود على كل أحد بلا تفـرقة
بين شـريف ووضيـع أو قوي وضعيف علـى ما تبينه الرواية التالية؛ فعن عائشة - رضي
الله عنها - «أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم
فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أتشفع في حد من حدود الله، ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم
كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم
الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»[6].
وقد أمر الله بالعدل في أكثر من موضع من كتابه الكريم فقال - تعالى - آمراً بالحكم
بالعدل:
{إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإذَا
حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}
[النساء: 58]،
وقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على الحاكمين بالعدل فقال: «المقسطون عند الله
يوم القيامة على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل - وكلتا يديه يمين - الذين
يعدلون في حكمهم، وأهليهم وما ولوا»[7].
وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضيلة الحاكم العادل فقال: «سبعة يظلهم
الله يوم القيامة في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل...» الحديث[8]،
وقال: «وإنما الإمام جُنَّة يقاتَل من ورائه ويُتقَى به؛ فإن أمر بتقوى الله وعدل،
فإن له بذلك أجراً وإن قال بغيره فإن عليه منه»[9].
وقال - تعالى - آمراً بقول الحق:
{وَإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}
[الأنعام: 152]،
وقال آمراً بالعدل في الصلح بين الفئات المتقاتلة:
{فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا}
[الحجرات: ٩]،
وقال في كتابة الدين:
{وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}
[البقرة: ٢٨٢]،
وقال في إملاء الدين:
{فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}
[البقرة: ٢٨٢]،
وقال آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم في ما يقوله في دعوته لأهل الكتاب:
{وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ
بَيْنَكُمُ}
[الشورى:15]،
وقال آمراً بالعدل في كل شيء أمراً مطلقاً:
{إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ}
[النحل: 90].
وهكذا نجد العدل قد انتظم كل أحوال المسلمين: في سلوكهم وأنشطتهم، في أقوالهم
وأفعالهم مع الخلق طراً.
وقد منع الله - تعالى - ما يقابل العدل ويناقضه وهو الظلم فقال في الحديث القدسي:
«يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرَّماً، فلا تظالموا»[10]،
وقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم محذراً من الظلم: «اتقوا الظلم؛ فإن الظلم
ظلمات يوم القيامة»[11].
وقد أثبت التاريخ القديم والحديث أن غياب العدل وشيوع الظلم كان سبباً رئيساً في
انهيار الحضارات، وسقوط أنظمة حُكْم دولٍ قويةٍ لم يكن يتصور أحد من الناس سقوطَها
بسهولة في أيام معدودات، وفي هذه الأيام انهارت أنظمة حكم انهياراً تاماً ولم
ينفعها ما تحصنت به من السلاح والرجال؛ وذلك لشيوع الظلم في جنباتها وغياب العدل
فباءت بالخسران في الدنيا مع ما ينتظرهم من عقاب الله الجبار المنتقم في الآخرة.
[1] تفسير ابن كثير ط1 1419هـ، دار الكتب العلمية: 2/383 - 384، وأخرجه أحمد في
المسند، رقم 14953، وقال الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم.
[2] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص29، ط1 وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف.
[3] أخرجه مسلم، رقم 1632 بلفظه وأخرج البخاري نحوه.
[4] تفسير ابن كثير مرجع سابق: 2/383.
[5] تفسير ابن جرير الطبري ط1 1420هـ، مؤسسة الرسالة: 10/95 - 96.
[6] أخرجه البخاري، رقم 3475، وأخرج مسلم بنحوه، رقم 1688.
[7] أخرجه أحمد في المسند برقم 6492، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
[8] أخرجه البخاري، رقم 6806.
[9] أخرجه البخاري، رقم 2957.
[10] أخرجه مسلم في صحيحه، برقم 2577.
[11] خرجه مسلم في صحيحه، رقم 2578.