تسلُّط الأكثرية
كثيرة تلك الأنباء التي تقول: تقوم جريدة (كذا الغربية)، بطرح قضية التصويت التالية: (ثم تذكر قضية دينية خاصة بالمسلمين أو بهم وبغيرهم)، ومن أمثلة ذلك حظر المآذن في سويسرا، وحظر النقاب في غير دولة غربية، وحظر الحجاب في الأماكن الحكومية وذلك في أكثر من دولة، ومما لاحظتُه على الاستطلاعات المنشورة أن نسبة التصويت العليا أو الأكثرية المطلقة عادةً ما تكون مع حظر الحرية الدينية للأقلية الإسلامية في تلك الدول، هذا مع أن بعض الأفاضل ربما أدَّاهم نظرهم المستعجل المنفعل بالقضية إلى إرسال رابط التصويت الإلكتروني عبر البريد إلى عدد كبير ممن يحسنون برأيه الظن؛ طالباً للنجدة من أجل تغيير نتيجة التصويت، وربما أحرجوا الناس بدعوى أن إرسالها إلى آخرين أمانة في أعناقهم.
وبصرف النظر عن أثر أمثال هذه النتائج؛ فإن القرارات المتخذة في تلك البلدان تنسجم مع اختيار الأغلبية، وعادة ما تتم بوسائل برلمانية ديمقراطية؛ فَمَنْع المآذن، ومَنْع النقاب في أكثر من دولة، ومَنْع الرموز الدينية، وأشد من ذلك مَنْع الحجاب الذي لا خلاف فيه بين المسلمين كتغطية المرأة شعرها، والإذن في السخرية بالأنبياء، كل ذلك صادقت عليه مجالس تشريعية منتخبة، أو أقرَّته حكومات ديمقراطية منفِّذة لمرادات منتخبيها.
وهذه المشكلة (أعني تسلُّط الأكثرية) لاحظها دعاة الديمقراطية وأنصارها من كبار مفكري اللبراليين قديماً وحذَّروا منها، بَيْدَ أنهم مارسوها ونصروها؛ ولهذا وغيره استبعد أساطين الفلسفة الإغريقية - وهم أكثر ذكاءً وأثقب نظراً من متأخري الفلاسفة الغربيين - الذين كتبوا في الحكومة من أمثال أرسطوطاليس وأستاذه أفلاطون، استبعدوا أن تكون الديمقراطية هي النظام الأمثل للحكم بإطلاق؛ لكن في بعض الحالات، وفي بعضها الآخر قد تكون الدكتاتورية هي الأمثل، وفي حالات أخرى كثيرة اقترحوا نُظُماً أخرى معروفة لدى دارسي السياسة لم يكن بطبيعة الحال من ضمنها النظام السياسي في الإسلام الذي بحثه علماء الشريعة قديماً في السياسة الشرعية، وبحثه المعاصرون حديثاً في مؤلفات مستقلة لم يكن آخرها: (النظام السياسي في الإسلام) لستة من الدكاترة في جامعة سعودية.
وقد لاحظ كثيـر من منظِّري الديمقـراطية من الغربيين إشكالية تسلُّط الأكثرية بعد أن أصبحت الديمقراطية التمثيلية واقعاً معاشاً في الدول الغربية، منهم جون ستيوارت ميل الذي تحدث عن طغيان الأكثرية في كتابه: (عن الحرية)، فذكر أن رجال الفكر - وهو يعني الفكر اللبرالي الغربي - يرون أن المجتمع حين يكون نفسُه هو الطاغيةَ (أي حين يكون المجتمع بجملته ضد الفرد)؛ فإن ذلك يعني أن أساليب طغيانه لا تنحصر في الإجراءات التي يمكن أن ينفِّذها عن طريق موظفيه السياسيين؛ إن المجتمع قادر على إصدار الأوامر وعلى تنفيذها بنفسه؛ فإذا أصدر أوامر خاطئة أو أصدر أوامر في شؤون يجب ألاَّ يتدخل فيها، فإنه يمارس بذلك طغياناً اجتماعياً هو أشد عتواً من كثير من ألوان الاضطهاد السياسي؛ لأنه وإن لم تدعمه عادةً عقوبات شديدة، فإن وسائل النجاة التي يتركها قليلة، وهو يَنْفُذ إلى الصميم في كثير من نواحي الحياة، ويستعبد الروحَ ذاتَها؛ لهذا كان الاحتماء من طغيان الحكـام غيرَ كافٍ عنده، وكان لا بد من حماية ضد طغيان الآراء والمشاعر الشائعة.
ووَفْقَاً لرأي ستيوارت ومثله كثير من المفكرين اللبراليين، (فإن الغاية الوحيدة التي يمكن ممارسة القوة فيها بشكل شرعي على أي عضو في المجتمع المتحضر ضد إرادته، هي مَنْعُه من إلحاق الأذى بالآخرين... ولا يمكن إجباره بشكل شرعي على أن يفعل أو أن يتحمل أو يتسامح إزاء أمر لأنه أفضل بالنسبة له، أو لأن ذلك سيجعله أكثر سعادة، أو لأن ذلك سيكون - بحسب آراء الآخرين - حكيماً أو صحيحاً، بل هذه أسباب وجيهة لمجادلته أو النقاش معه أو إقناعه أو التوسل إليه؛ لكن ليست لإجباره).
وهذا المعنى أكده كثيراً في كتابه المذكور، كما ردد معنىً آخر يؤكد هذا؛ وهـو أن الأفعـال التـي تؤذي فاعلهـا بشـكل مباشـر ولا تؤذي غيره، لا ينبغي أن تُمنَع قانونياً، ومثَّل لذلك بأشياء ليس بأعجبها الإذن في بيع السموم القاتلة (التي قد يستفاد منها على نطاق محدود) شريطة التوعية بمضارها.
وهو في نظرته هذه مقارب لعصيره هربرت اسبنسر الفيلسوف الفكتوري الشهير، وقد تأثر هذان في هذه الرؤية بفلاسفة قبلهما من أمثال جوزيف بريستلي وإرن يوشيا، وقال بما قال هؤلاء جمٌّ غفير من رموز الثقافة الغربية: كاللورد أكتون، والكسندر هملتون والفرنسي ألكسس دي توكوفيل، ولولا أن المقالة لا تحتمل البسط لنقلتُ نصوصهم بخصوص موضوعنا، ومذاهبهم معروفة عند المعنيين بها. وما يعنينا هنا هو الجواب الذي ذكره ستيوارت ميل على المسألة الجدلية: لماذا كانت هذه الديكتـاتورية أخطـر من الديكتاتورية الفردية؟ وحاصله أن الفرد الديكتاتور الذي يفرض سلطته على المجتمع قد يفرض دكتاتوريته على من تنالهم يده وعساكره، ومهما كانوا فَهُم قِلَّة كما يقول الفرنسي ألكسس. أما ديكتاتورية الأكثرية فيصعب أن يفلت منها أحد من الأقلية؛ لصرامة الرقابة وشدة القناعة بها، بل التعصب لها، ولهذا كان قَمْع الثورة الفرنسية الديمقراطية لمخالفيها شديدَ الوحشية، وحسبك شعارها المقزز: (اشنقوا آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسيس) وبعض مماراستها كانت أشد تقزيزاً من الشعار.
وهذا الذي قرره ستيوارت مكرر عند أولئك الفلاسفة؛ فألكسس توكوفيل عندما عاد معجباً بالديمقراطية الأمريكية والمساواة السياسية، مع انبهاره لم يستطع أن يلغي عقله فيخفي تخوُّفه من استبداد الأكثرية، وقد نشر ذلك في ملاحظات اشتهرت بـ (الديمقراطية في أمريكا)، وقال كلاماً قريباً من كلام ستيوارت المشار إليه، وسجَّل ملاحظته الآتية على الحال الأمريكية، ولك أن تقارنها بالحال الفرنسية. قال: (إن أمريكا استطاعت أن تبيد العِرق الهندي من غير أن تنتهك مبدأً عظيماً واحداً من مبادئ الأخلاق في نظر العالَم)؛ يريد العالَم المتحضر في فهمه.
وعلى نطاق أقل خطراً يبيِّن لك خطـر ديكتاتورية الأكثـرية من جهة صرامة الرقابة. إذا تأمَّلتَ أحوال بعض مَنْ خُطِف منه ابنه في الغرب؛ لأنه أدَّبه أو تركه في المنزل وذهب ليقضي شأناً مهماً، أو تأمَّلتَ حال مسلمة رُفعَت عليها قضية لأنها ارتَدَت الحجاب أو أظهرت رمزاً دينياً، أقول: إذا تأمَّلتَ أمثال هذه القضايا – وما أكثرها - وجدت أن من أسباب ذلك احتسابَ الأكثرية في المجتمع الغربي؛ من أجل حماية ما يرونه نظاماً وتراه الأقلية تحكُّماً وتدخُّلاً في شؤونهم الخاصة.
وإذا كانت مصادرة بعض الأملاك طغياناً يقوم به بعض المستبدين في بلدانهم إذا رأوا شيئاً أعجبهم، فـإن هـذا الطغيان يظـل محـدوداً جداً فـي كَمِّـه ونوعـه إذا ما قورن بطغيان الأكثرية التي يسهم مجتمعها كله في مصادرة فلذات الأكباد لمجرد اختلافٍ في وجهات النظر التربوية، ولعله نمى إلى علمك شيء من أخبار من صودر أولادهم؛ لأسباب هي في اعتقادنا تافهة إن لم تكن المصادرة خاطئة.
وحتى لا يُفهَم أن ملاحظة شناعة تسلط الأكثرية إنما سجَّلها اللبراليون الكلاسيكيون أو اللبرتاريون الأوائل، فإني أذكر كذلك أن غير واحد من ذوي الميول الاشتراكية قد أقر بالمبدأ العام؛ وهو أن طغيان الأكثرية قد يكون في بعض الأحيان ذا نتائج كارثية تفوق استبداد النظم السلطوية، وممن أشار إلى هذا جوزيف شومبيتر في كتابه الشهير: (الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية) الذي انتصر فيه للاشتراكية انتصاراً وديعاً، ويبقى الأمر المهم الذي ينبغي أن نعيه: هو أن أشهر مفكري العقد الاجتماعي من أمثال جون لوك، وجان جاك روسو ومَنْ تبعهما يؤكدون على قضية الحرية، ويرون أن من وظيفة الدولة حماية الحرية ليستقيم العقد الاجتماعي.
وقد حاول كثير من الفلاسفة المذكورين معالجة إشكالية طغيـان الأكثـرية هـذه بعـد أن قـرروا خطرها، بتقديـس قضية الحرية واحترام حدوها ودعوا لوجوب الوقوف عندها، ثم وقع الاختلاف بينهم في ترسيم تلك الحدود، والقَدْر المخوَّل للدولة التدخل فيه، وفي تفسير مفاهيم أساسية ينبني عليها فَهْمُ إذا كـان التشريع الفلاني يُنقِص من الحريات التي يجب أن تُكفَل أم لا؟ كمعيار الأذى المتعدي للغير - مثلاً - في تشريعات متناقضة قد تختلف في الدولة الواحدة من مقاطعة إلى أخرى اختلافاً عجيباً. وليست فرنسا التي تحظر النقاب اليوم، وتمنع تغطية الرأس في الأماكن الحكومية العامة، وتجرِّم التعدد، إلا نموذجاً واقعياً حيّاً بشعاً يمثل لك ديكتاتورية الأكثرية وإخفاق الديمقراطية الغربية في علاجها، كما أنها تبيِّن من جهة أخرى درجة التباين في الأهواء البشرية والآراء الأرضية إذا قارنتَ الموقف الفرنسي بالتصريحات الرئاسية الألمانية المخالفة، بل إذا حاكمت قرارها هذا لمبادئها التي قامت عليها، وليس ذلك ببدَع من تناقضاتها.
فمع أن فرنسا يتبنى دستورها إعـلان حقـوق الإنسان والمواطن، وهو الوثيقة الحقوقية الأساسية المعرِّفة بالحقوق الفردية والجماعية، تبنَّتها فرنسا إبَّان الثورة الدموية الفرنسية؛ فقد سحلت آلياتها القليلة (الكثيرة جداً) المتغلِّبَ عليها بمن فيهم الملك لويس السادس عشر وزوجته النمساوية ماري أنطوانيت، ولم ينجُ من مقصلتها حتى العلماء التجريبيون من أمثال أنطوان لافوازيي فضلاً عن قتل ثلاثمائة ألف إلى نصف مليون (رجعي ضد الحرية) في فندييه بطرق وحشية، لا تَقِل في نظري عن وحشية المستشار المنتخب ديمقراطياً الذي جاءت به صناديق الاقتراع في ألمانيا: أدولف هتلر.
وبالمناسبة فإن هذا الرجل قال عن تصرفاته العنيفة أعظم فلاسفة ألمانيا وأشهر مفكري الوجودية مارتن هايدجر: (على ألمانيا الآن أن تحبط خطر هبوط الظلام على العالم خارج حدود ألمانيا التي تحامي عن أسمى إمكانات الكائن البشري كما جسَّدها الإغريق... فألمانيا بطاقتها الروحية الجديدة التي انتعشت في ظل الحكم النازي باتت قادرة أخيراً على الاضطلاع برسالتها التاريخية في إنقاذ العالم من الفناء على أيدي جماهير غير مكترثة في أمكنة أخرى؛ ولا سيما في الولايات المتحدة وروسيا).
وعلى الرغم من استهجان فلاسفة أمريكا ومثقفيها لموقف هايدجر هذا فإنَّا لا نزال نسمع بين فينة وأُخرى كلمات مقاربة لكلماته من شخصيات مرموقة؛ لكن في تسويغ تدخُّلات أمريكا الديمقراطية الدموية في مناطق شتى، بل في تسويغ تدخُّلات إسرائيل من أجل الاعتداء على (الحرية) في عُرْض البحر.
ومن التناقضات أيضاً أنه لم تمنع بريطانيا فلسفةُ جون ستيوارت ميل قديماً من البطش بالهنود الآسيويين في أرضهم المحتلة وكذلك الصينيين، بل من التناقضات التي ينبغي الاعتبار بها كذلك أن ستيوارت اللبرتاري كتب في تلك الحقبة يدافع عن بريطانيا التي كانت تخالفها أوروبا في سياستها القمعية؛ فحث (في مقالته الكلاسيكية عن التدخل الإنساني) بريطانيا على غزو مزيد من مناطق الهند لتحقيق سيطرة أكبر على مناطق إنتاج الأفيون اللازم لفتح الأسواق الصينية بالقوة وتسديد نفقات الإمبراطورية، وقال: إن على بريطانيا أن تسلك ذلك؛ ولو نالها قَدْح وذمٌّ من الأوروبيين الرجعيين.
وليس ستيوارت بأوَّل متناقض؛ فجون لوك الذي أفنى الأقلام يرد على توماس هوبز تارة، ويكتب عن الحرية والتسامح أخرى، كانت له أسهمه في أكبر شركة اتجار بالرقيق، وكثير من الناس يعرف رسالته في التسامح ورسالتيه في الحكومة ويشيد بما فيهما من مبادئ الحرية والمساواة؛ لكنَّ ما يجهلونه أن هذا الرجل هو نفسه السكرتير الخاص لأنطوني أشلي كوبر، وشريكه في وضع أحد أسوأ الأنظمة السلطوية الإقطاعية في كارولينا يوم كانت في قبضة الإنجليز، وهو الأمر الذي حدا ببعضهم إلى وصفه بالنفاق.
وتناقضُ هؤلاء لا ينتهي... واليوم لم يمنع فرنسا دستورُها ولا تلك الوثيقة التي جعلت الحريات حقوقاً مكفولة لا حدَّ فيها (لحقوق الإنسان الأول غير حقوق الإنسان الثاني) بنصِّهم، لم يمنعها اليوم من تحجير ما يراه ملهمو الثورة ومن اقتفى أثرهم حريات؛ فالحد من تعدد الزوجات حتى في نظر ستيوارت تعدٍّ على الحريات، فضلاً عن روسو الذي يُعَد ملهِم الثورة، وقد كانت له رؤيته المغايرة تماماً لِـمَا تبنَّته الثورة في قضية المرأة.
وكذلك الشأن في النقاب، وتغطية الرأس؛ والشعائر الدينية والحريات الشخصية التي تحاربها فرنسا اليوم بدعوى المساواة، تلك الدعوة السخيفة في مضمار اللباس، يريدون أن يقيدوا بها حرية اللباس، وحرية الممارسة الدينية، والحجة المساواة؛ يعني إذا كنت في باريس ومر بك الطريق على حدائق بولونيا فأبصرت العراة كيوم وُلِدوا، فخذ الأمر بسهولة (take it easy) كما يقول الإنجليز؛ فتلك هي الحرية. أما إذا كان الجو بارداً على شرقيٍّ مثلِك تتدفق في عروقه الدماء الحارة فضربْتَ اللثمة، أو لبست ما تقي به وجهك تيارَ الهواء أو سَتَرته بشيء مما تُستَر به الرؤوس وكانت بجوارك زوجك المنتقبة – وفي رواية محلَّ دراسة المختمرة - فلا تأمن أن تمر سيارة هيئة الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف الفرنسية متفادية أجساد العراة (الذين احتسبوا بالتبليغ عنكما حفظاً لقانون الأكثرية طبعاً) ويتجاوزوك أنت أيضاً ليقولوا لزوجك: اكشفي أو فُكِّي الخمار؛ هذا إن سلمتما من الاعتقال.
وبَعْدُ أخي الكريم!
أنا لا أُلقِـي باللائمة على النظـم الديمقـراطية المكرِّسة لديكتاتورية الأكثرية، المبدِّدة لأوهام الحرية، على الرغم من رسالة المنظِّر جون لوك في التسامح الديني، وعلى الرغم من أطنان الأوراق المسوِّدة في محاولةِ معالجةِ هذه المعضلة التي أفرزتها الديمقراطية؛ لا لأن (نقد التسامح الخالص) الصادر عام 1965م لثلاثة من كبار الفلاسفة وهم: روبرت بول فولف وهربرت ماركوزه وبارنجتون مور، لا لأنه كان مقنعاً في الرد على أمثال لوك وستيوارت، ولا لحجية الكتابات الغربية التي ردَّت على فلاسفة الفوضوية؛ بل لأني أعلم أنه لا حل لتلك المعضلة في ظل أنظمة خالفت شرائع السماء وبَنَت نظرتها للإنسان على ترَّهاتٍ وأهواءَ وأوهام، لم تعرف لِمَ خُلق؟ ولماذا أتى كل هذا الوجود؟ وادِّعاء بعضهم المعرفة، لو اختبرتَه لوجدته هو نفسه إعلان الجهل المركَّب.
والتناقض عند أولئك في التشريعات التفصيلية بدهي طبعي؛ لاختلاف الأذواق والأهواء والمشاعر والميول، والرؤى والآراء والأفكار والعقول، ولا حدود تضبط ذلك، ومن عجائب النفس البشرية أنه قد يؤذي أحدَهم هدفٌ يدخل في شباك فريقه وقد يموت من جرائه مشجع حزناً، بينما يرقص فرحاً مشجع الفريق الثاني، أحياه الـذي قتـل أخاه. وتلك سجية البشرية التي لم تعتصم بعاصم أو معصوم؛ بل التناقض في مواقف الفرد الواحد - ولو كان منظِّراً كبيراً كلوك أو رسو أو ستيوارت - طبعي متوقَّع؛ ولماذا لا يتخبط في الظلام ذكي يسير بغير نور ولا هدى ولا كتاب منير؟
بَيْدَ أني أحذِّرك - يا عبد الله - من المسلمين الذين غفلوا عن الذي من أجله خُلقُوا، وقادتْهم عقولهم إلى أنَّ الحرية المقدسة قد تتحقَّق بنظام استعباد الأقلية وإخضاعها لتشريعات الأكثرية؛ فنظريتهم دائرة بين الاستعباد وعبادة الذات، ومع ذلك يعتقدون فيها الخلاص من الديكتاتورية كاعتقاد النصارى في نزول المخلِّص المزعوم، وهؤلاء خير من الذين أرسلوها إرسالاً بدعوى حماية الأقلية؛ فشريعتهم هي الحرية، وبينهما يتردد مكرِّسو الاستبداد للإمام المعصوم أو المشؤوم.
وعلى قارعة الطريق طائفة تدعو إلى ما تسميه حرية محكومة بدولة إسلامية ناظرة قاضية في تشريعات الأكثرية وتُصِر على تسمية هذه حريةً وديمقراطيةً؛ بينما تراها الأمم صاحبة الديمقراطية أسوأَ حالاً من بعض النظم الاستبدادية القمعية التي تُصِرُّ على وصف نفسها بأنها نزيهة ديمقراطية. وليتهم اعتبروا بإيران التي كان تقييمها من قِبَل جهات دولية مرموقة: أنها معنيَّة بالحقوق المدنية والسياسية؛ وهي الأسوأ بين عدد من الدول الـمَلَكية والنُّظم الرئاسية الاستبدادية في المنطقة؛ ولو سَمُّوا الأمور بأسمها ودعوا إلى توليتها أهلها لكان خيراً لهم من افتعال المشكلات الجانبية مع من أعلنوها إسلامية، ولم يروا في سوى الاستسلام والعبودية لرب البرية مخرجاً للإنسانية من العبودية للآراء البشرية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
وستبدي لأولئك جميعاً الأيام عاقبة الإعراض عن مقررات حَمَلَة الشريعة الأعلام.
وإلى ذلك الحين لا بأس في أن تدافِع بمنطق القوم باطلَهم، وأن تحتجَّ عليهم بقول دهاقنتهم، دون أن تستهويك تلك الأقوال؛ فتحيدَ بها عن جادَّة الكتاب والسُّنة؛ فربك أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير.
وختاماً أخي اللبيب! اعلم بأن الجيفة لا يسعَد بها سَويٌّ، وقد يأكلها اضطراراً آدمي؛ فإن اضطر وتعددت الجيف فليوازن بينها؛ لكن أن يدعو لها أهله وعنده الحلال الطيب، فذلك ضرب من اللؤم يمارسه اليوم أصحاب اتجاهات شتى، عصمك الله منهم.