الثوابت والمتغيرات في تاريخ البلاد الإسلامية الاقتصادي
عنوان الكتاب: الثوابت والمتغيرات في التاريخ الاقتصادي للبلاد الإسلامية.
المؤلف: عادل عبد المهدي.
الناشـر: الدار العربية للعلوم، بيروت، طبعة أُولَى، 2009م.
عدد الصفحات: 460 صفحة.
تتسم الدراسات الاقتصادية العربية المتناوِلة للتراث بالبحث والسبر والتحليل - غالباً - باستعارة الأدوات والمفاهيم العلمية المستخدَمة في تلك البحوث: من حضارات ومجالات غريبة عن مواطن البحث؛ وهو ما قد يفضي إلى نتائج لا تنسجم مع المعطيات المبحوثة أو تصدير تقييمات بعيدة عن الحقيقة والواقع. ويحاول كتاب (الثوابت والمتغيرات في التاريخ الاقتصادي للبلاد الإسلامية) تقديم رؤية تحاول صياغة منهج بديل لذلك، بالاستعانة بأدوات ومفاهيم ورؤى تُعَدُّ من نتاج التجربة الداخلية للمجتمعات الإسلامية.
يناقش المؤلِّف عدة مفاهيم يعتبرها من الثوابت المكوِّنة لهوية الاقتصاد السياسي للمجتمعات العربية؛ فيرى أن البيئة والموقع الجغرافي يمثلان أحد تلك الثوابت؛ إذ تتميز منطقتنا بمناخٍ متوسطيٍّ مع صيف حارٍّ طويل عموماً وشتاء قصير نسبياً. كما أن إحاطة الجبال بالأراضي المنخفضة توفِّر للمنطقة أنهاراً لها أهميتها الخاصة: كالنيل، ودجلة، والفرات، ونهر الأردن. وهذه السمات منحت المنطقة وسكانَها طابع التوسط والاعتدال، في لون بشرتهم وسلوكهم وواجباتهم ورؤيتهم لواجباتهم وأنماط تفكيرهم. وإذا كانت الوديان هي مراكز المنطقة ومستقراتها، فإن الصحارى والبوادي شكَّلت مسارح الأقاليم وامتداداتها.
فالبادية أصل العمران، والأمصار مدد لها؛ كما يقـول ابن خلدون؛ إذ دون أن يُعطَى سكان الواحات والبوادي مرتبة اقتصادية واجتماعية وخُلُقية وسياسية متقدمة وراقية، ستبدو الحواضر والمدن معزولة عن امتداداتها ومسارحها الطبيعية. وهـذا ما يفسر أن المقصـود بالعمـران هـو (العمـران البـدوي) و (العمران الحضري)، وكيف أن أرقى مراحل التاريخ الإسلامي وأكثرها عطاءً وازدهاراً قد تشكلت عندما اتحدت البداوة والحاضرة جغرافياً وسكانياً؛ لهذا يرى ابن خلدون أن (الجيل الأول في العمران الحضري هو أكثر الأجيال عطاءً؛ لأنه يحافظ على البداوة ويتعلم صنائع الحياة).
ومن الثوابت المطروحة: الظروف المحيطة؛ وتتمثل في كون المنطقة الإسلامية تقع وسط العالم وفي قلبه، وتعتبر المنطقة عقدة المواصلات الدولية بما يخدم التجارة والغزوات وانتقال الشعوب. لكنَّ ذلك لا يعني أنها أرادت أن تكون مجرد ممر أو جسر لكونها لم تكن تستطيع أن تلعب هذا الدور دون أن تكون قد أسست هي - أصلاً - دائرتها الداخلية التي اتسعت عبر الأجيال؛ فالفراعنة والفينيقيون والآشوريون وغيرهم طوَّروا التجارة ووسائط النقل البرية والمائية لحاجاتهم هم، كما أن بلاد الجزيرة العربية شهدت تطور الأسواق وطرق المواصلات التجارية.
وللتدليل على كون الدور العالمي الذي لعبته المنطقة هو بالأساس نتيجة ازدهار وتنامي الدور المحلي، نجد - مثلاً - شريعة حمورابي خصصت 120 مادة للتجارة ومعاملاتها، منها 26 مادة للشركات ونقل البضائع والصيرفة وإيداع الأموال. وبناءً على ذلك فإن المنطقة ما كان لها أن تلعب دور المركز العالمي والوسيط الدولي؛ لولا أنها سبقت ذلك بإقامة دائرتها الداخلية ونواتها الصلبة التي التفَّت حولها مكوِّنة كياناتها وهويتها الذاتية؛ دون أن ننفي الدور اللاحق الذي لعبته بين الأمم والشعوب والحضارات في تطوير شخصيتها وتكوينها.
ثم ينتقل الكتاب لبحث رابطة الدم معتبراً إياها واحدة من الثوابت الاقتصادية؛ إذ يقسِّم علماء الاجتماع والأنثربولوجيا الجماعات الإنسانية إلى جماعات تقوم على رابطة الإقليم أو على رابطة الدم والنسب. وترى معظم الأبحاث الغربية أن التشكيلات الأوروبية استطاعت مع نمو الـمُلْكية الفردية الرومانية والجرمانية تحطيم رابطة الدم، وأخذت تميز خط تطوُّرها عن خط تطوُّر بقية المجتمعات؛ وذلك بنمو الملكية الفردية وبتشكيل الجماعات من خلال الفرد على قاعدة الموقع والإقليم. إلا أن رابطة الدم بقيت أكثر اجتذاباً نظراً لطبيعتها العفوية والفطرية في المجتمعات الإسلامية؛ فالعائلة والعشيرة والقبيلة هي الوحدات الاجتماعية التي وُجِد الإنسان ضمنها تلقائياً؛ فهي مثَّلت المفهوم الفطري الأول للجماعة والاجتماع.
لكن المشكلة من وجهة نظر المؤلِّف لا تكمن في إثبات قوة رابطة الدم وتشكيلها شرطاً مسبقاً للتنظيم الاجتماعي في تاريخ البلاد الإسلامية، بل تعود إلى مغالاة بعضهم في الدور التاريخي لهذه الرابطة؛ إذ جعلوه المدخل الوحيد أو الأساسي؛ كما هو الحال في تفسير التاريخ الإسلامي استناداً إلى النظرية الخلدونية التي ترى العصبية بوصفها الرابطة الأساسية التي ضمنها تتكون دوافع الحركة، أو من نظرة أخرى تغالي في رؤية هذا الثابت لتصل إلى استنتاجات تؤدي إلى تبرير الاستعمار، من خلال تفسير التاريخ استناداً إلى (النظرية البنيانية) وبما أن القبيلة في أوروبا اعتُبرَت مرحلة متخلفة، والمنطق الغربي يعمم خصوصيته؛ فلذلك اعتُبرَت البنية الأساسية للمجتمعات الإسلامية بنية قَبَلية، رُبطَت بها صفة التخلف وصارت ذريعة للاستعمار.
ويرى المؤلف أن تشكيلات رابطة الدم ظلت تمثل شرطاً مسبقاً وثابتاً: اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وعسكرياً وتنظيمياً.
فعلى الصعيد العسكري، شكلت العشيرة والقبيلة الوحدة الأساسية في التجنيد. وفي المجال الاقتصادي كانت القبيلة والعائلة وحـدات إنتاج وتوزيـع قادرة على سد الاحتياجات الذاتية و (تصدير) الفائض للجماعات الأخرى، والقيام بالتبـادل والبيـع والشراء وَفْـقَ مصالحها ومتطلباتها. وهو ما يفسِّر أن احتواء رابطة الدم لرابطة الإقليم في المجتمعات الإسلامية يعود في أحد أسبابه إلى أن مَواطِن العيش لم تكن تتوسع في المنطقة بشكل حلزوني، بل بالقفز من مكان إلى آخر؛ وهو ما جعل من رابطة الدم - كتنظيم فطري - يلعب دوراً في الإبقاء على وحدة الجماعة التي لم تستطع رابطة الإقليم الإبقاء عليها.
ويرى المؤلف أن النزعة القوية للجماعة في المجتمعات الإسلامية - سواء في ممارسة العقيدة والدين، أو في الحياة الاقتصادية والاجتماعية - تمثِّل ثابتاً آخر؛ فتلقائية المجتمع واستمراريته تضغطان في اتجاه الجماعة بعكـس النـزعة الفردية في البلدان الأوروبية التي تطوَّرت على أساس النزعة الفردية. فكانت (الثورة) تعني في أوروبا إحلال الملكية العامة باللجوء إلى دكتاتورية (الطبقة) أو (الدولة)؛ لتحطيم الـمُلْكية الخاصة وإحلال الاشتراكية التي فشلت أمام ضغط القوى العفوية والقديمة لعودة الفردية.
ويحاول المؤلف التدليل على هذه النزعة من خلال دراسته لمؤسسة الوقف؛ حيث تتخذ هذه المؤسسة أشكالاً معيَّنة في المجتمعات غير الإسلامية، لكنَّ شيوع الأوقاف بما يحمله من دلائل لنزعة الجماعة قد أصبح إحدى الممارسات المميِّزة للمجتمعات الإسلامية؛ إذ لعب الوقف دور الأسلوب المقاوم لمنع طغيان الاستيلاء الفردي على الممتلكات العامة، وحماية الحق الخاص باللجوء إلى الحمايات العامة أو الدين.
وشاع اللجوء إلى الحبس أو الوقف انطلاقاً من العهد الأموي؛ فأُنشئ للأحباس ديوان مستقل عن بقية الدواوين، وبلغت ذروتها في العهد العثماني؛ إذ شكلت في مجال الأراضي الزراعية منتصف القرن التاسع عشر ما يعادل ثلاثة أرباع أراضي تركيا، ونصف الأراضي المزروعة في الجزائر. إلا أنه جرى تحطيم الوقف مباشرة من قِبَل القوى التي استعمرت هذه البلدان بعدد من الذرائع، لتعبر عن مركزية أوروبية أساسها النزعة الفردية واستغلال المنطقة.
ومن الثوابت المطروحة أيضاً: نزعة التنظيم والانتظام في المجتمعات الإسلامية؛ فثمرة هذه النزعة يلخصها مفهوم الولاية بالحقوق والواجبات التي يمثلها، والمفاهيم الملازمة لها كالخلافة والإمامة وما يعكسه كل ذلك من تنظيمات وبُنَى فكرية. فأساس الدولة تاريخياً في الغرب تطور من الـمُلكية الإلهية ثم المطلقة التي تعتبر الرعية عبيداً، إلى فكر التعاقد الاجتماعي كما عند جاك روسو، أو إلى علاقات اجتماعية بين قوى متناقضة متحدة تقوم على رابطة الإقليم والمواطنة.
وقد جرت دراسة مفهوم الدولة بهذا المفهوم كأداة مفاهيمية دون أن تغطي تجربة رابطة الدم التي لم تدمَّر لمصلحـة رابطـة الإقليم؛ حيث إن المفهوم الرئيس للإنسان تنظمه أساساً روابط العقيدة أو الولاء للجماعة (دينية أو قبلية) بغضِّ النظر عن الثروة والموقع الاجتماعي، ثم إن هذه الرؤية كانت عاجزة عن إدراك وجود تنظيمات بجانب الدولة قد تتقدم عليها، كمؤسسات الوقف وحقوقها أو تنظيمات القبائل.
أما العوامل الرئيسة التي تدفع باتجـاه نزعة التنظيـم والانتظام فهي عـديدة، منها: أن الطبيعة الصـحراوية وأوضاعها الصعبة تتطلب اللجوء إلى تنظيم دقيق بسبب ضيق مجالات العيش وضرورة التعاون للاشتراك في مصادر محدودة.
يؤكد المؤلف بالمقابل، على ندرة الدراسات التي اعتبرت نزعة الشرع والدين من أهم النزعات التي طبعت الحياة الاجتماعية والعقلية والمسلكية؛ ففي مجتمعات ما بين النهرين قبل الإسلام - على سبيل المثال - نجد قِدماً وتواصلاً في التاريخ التشريعي هو - بلا شك - من أكثرها تقدُّماً على الصعيد العالمي: كشريعة عشتار أو حمورابي؛ فالمنطقة كانت مهبط الديانات السماوية الثلاث التي انتشرت لتشمل قارات المعمورة دون استثناء، وهذه ليست مصادفة أو حقيقة عابرة. وارتباط الشرع الديني بالغيب والتجريد لا يجعله غير واقعي كما يقول أصحاب النظرية الوضعية؛ بل أكثر علمية وعقلانية وواقعية وإنسانية إذا تمَّت ملاحظة مواقع كلية وعامة وإنسانية؛ فالنزعة الوضعية تنطلق من زمن فردي آني ومن العفوية والغريزة مباشرة، في حين تنطلق نزعة الشرع من زمن جماعي طويل ممتد ومن العقل والحكمة.
ينتقل الكتاب بعد ذلك إلى بحث المتغيرات، فيجد أنها تتمثل في العوامل التي تتكامل مع عوامل الاستمرارية التي تمثلها الثوابت، لتشكل: إما عناصر تأكيد وتعجيل لها أو عنصر عرقلة وصدام، وهي التي تتولد من عمل الثوابت والرغبة في إعادة صياغتها أو بسبب ظهور حقائق جديدة تتأتَّى من عامل خارجي بأوسع معانيه، وهو ما قد يعيد صياغة الثابت ويخل بالتوازن العام بينها ويعيد صياغة الوضع من جديد.
ويضرب مثالاً على ذلك بنزعة الشرع من حيث استنادُها إلى مصادر ثابتة كالقرآن الكريم والسُّنة الشريفة، ولكنها أخذت تواكب أيضاً التطور والتغيير من حيث الممارساتُ والاجتهاداتُ الشرعية التي فرضتها سنن الحياة المتشعبة المتجددة، أو ما تتعرض له نزعة رابطة الدم أحياناً من روابط تحاول الإحاطة بها وإخفاءها: كرابطة القومية والأقاليم.
من وجهـة نظرنا، يمكـن اعتبار الكتاب محـاولة جادة لتأسيس مدخل جديد لدراسة تاريخ البلاد العربية والإسلامية من ناحية الاقتصاد السياسي؛ وذلك عبر محاولته دمج الأبعاد الثقافية والحضارية في حقل العلوم الاقتصادية، وليس كما تسلكه اليوم بعض الدراسات والأبحاث أثناء دراستها لتاريخ المنطقة؛ إذ تنطلق من الأفكار الليبرالية في تفسيرها لطبيعة علاقات الإنتاج والتوزيع والتجارة؛ خاصة بعد فشل نظريتها عن (نمـط الإنتـاج الآسـيوي) التـي أظهـرت - كمـا يرى إدوارد سـعيد - ماركس بوصفه أستاذاً من أساتذة المستشرقين القدامى؛ وهو الأمر الذي بدأ يتجلى في دراسات بعض الباحثين العرب ممن ينتمون إلى ما يمكن تسـميته (الليبـرالية الجهـادية)، وهم الذين يرون أنـه لا يمكن فهم دور (مكة) التاريخي إلا بوصفها تشبه إلى حد كبير هونغ كونغ.
كما أن الكتاب يحاول تصحيح مسار اتجاهٍ آخر يدعو بعضُ كتَّابه لتطبيق الرؤية الإسلامية في مجال الدراسات الاقتصادية. ولا تعكس هذه الدعوة (إرادة معرفة)، بل (إرادة أيديولوجيا) تسعى إلى تصفية حساباتها مع الآخر (الغربي) دون توضيح لأسس وثوابت رؤيتها؛ لتساهم في خلق مناخ من (سِحْر القول في الاقتصاد الإسلامي) الذي هو بحاجة ماسَّة الآن إلى تأسيسه لمدرسة تساهم في تمتين وتأصيل رؤاه الاقتصادية انطلاقاً من بُعْد إنساني؛ كون رسالة الإسلام في عمقها رسالة إنسانية، تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه؛ وخاصة للواقع الذي تمر به جامعاتنا العربية التي وصل بها حد التسطيح الفكري والسذاجة إلى حد اعتبار الزكاة مجرد ضريبة دخل.
ويبقى أن يجري تعميق هذه الدراسات ورفدها بمزيد من الأبحاث التي تنهل من التاريخ الإسلامي دون أنْ تحاول تأطيره أو أدلجته، وأنْ تراكم المعرفة التي أسس لها الكتاب ومؤلِّفه، وأن يجري دعمها من قِبَل مؤسسات بحثية علمية تقارب المنهج الذي تبنَّاه الكتاب.