تغير العقل
العنوان: «تغير العقل.. كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا».
المؤلف: سوزان غرينفيلد.
الناشر: عالم المعرفة.
تاريخ النشر: فبراير 2017م.
في ديسمبر 2011م عقد مجلس اللوردات البريطاني حلقة نقاش حول تأثير التقنيات الرقمية على العقل، وشاركت المؤلفة (سوزان غرينفيلد) في هذه الحلقة بتقديم وجهة نظرها في هذا الصدد من منظور تخصصها في العلوم العصبية، وبدا كما تقول المؤلفة حماس معظم اللوردات للتأكيد على فوائد التقنية، وانبرى وكيل الوزارة البريطاني للمدارس حينها للقول إنه «ليس على علم بوجود قاعدة أدلة واسعة على الآثار السلبية للاستخدام المعقول والمتسق للتقنية»، وهذا ما استفز المؤلفة للرد، وفي هذا الوقت طُلب من المؤلفة تأليف كتاب عن الموضوع، فكانت الفرصة مواتية لتقديم مرافعة موسعة لنقض أطروحة الوزير المذكور، وتلبية الاحتياج المجتمعي لهذا النوع من الأبحاث.
يقع الكتاب في عشرين فصلاً، تستعرض المؤلفة من خلالها ملامح الثورة التقنية الرقمية الجديدة وآثارها، وقبل ذلك خصصت عدة فصول لشرح تركيبة الدماغ وطرق عمله، وتسعى لتدعيم القول بأن الدماغ يجري نحته ليس بفعل الجينات وحسب، بل وبسبب الخبرات المتراكمة، أي إن التغيرات السلوكية تعكس تغيرات في الدماغ، والعكس صحيح أيضاً، فمن الممكن أن يغيّر السلوك الدماغ. وفي الفصول نفسها تحاول المؤلفة تقريب ما تقوله العلوم العصبية بخصوص الأساس الفيزيائي المحتمل للعقل والوعي. وبعد ذلك يناقش الكتاب عبر فصوله العديدة ثلاثة موضوعات رئيسة:
تأثير الشبكات الاجتماعية في الهوية والعلاقات: وتشير المؤلفة هنا ابتداء لظاهرة الانغماس المفرط في شبكات التواصل، ففي 2011م اعترف 24% من مستخدمي مواقع شبكات التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة بأنهم غابوا عن فعالية رئيسة أو لحظة مهمة في حياتهم لأنهم كانوا مستغرقين تماماً في تحديث صفحاتهم على الشبكات حول هذه الفعالية أو اللحظة. كما تلاحظ ظاهرة التحول الكبيرة في الكيفية التي يتواصل بها البالغون اجتماعياً في العقدين الأخيرين، فبحسب بعض التقديرات كنا في العام 1978م نقضي في المتوسط 6 ساعات يومياً من التفاعل الاجتماعي وجهاً لوجه، و4 ساعات في التواصل عبر وسائل الإعلام الإلكترونية، وفي العام 2007م بتنا نقضي ما يقرب من 8 ساعات يومياً في التواصل عبر وسائل الإعلام الإلكترونية، وساعتين ونصف فقط من التفاعل الاجتماعي وجهاً لوجه. ويلخص عنوان كتاب عالمة النفس شيري تاركل (بمفردنا معاً) تأثيراً شائعاً لشبكات التواصل، وهو أنه كلما ازداد تواصل الناس عبر العوالم الافتراضية ازداد شعورهم بالوحدة. وتسهب المؤلفة في بيان مسببات انتشار الإفصاح عن الذات عبر شبكات التواصل ونشر المعلومات الشخصية، والتخفف من الخصوصية، ومن النتائج البحثية المهمة في هذا الصدد تلك التي ترى أن غياب التواصل وجهاً لوجه يؤدي إلى ارتفاع معدل الإفصاح الذاتي، لأننا لا نملك تلميحات بصرية، ولا نشاهد لغة جسد الطرف الآخر والتي قد تثنينا عن الاستمرار بالاعتراف والكشف عن ذواتنا، فلغة الجسد وتجنب التقاء العيون والمسافة المادية ونبرة الصوت قد تعمل جميعها بمنزلة تحذيرات تدعو لعدم إعطاء أكثر من اللازم في مرحلة مبكرة من العلاقة. وفي السياق نفسه تشير المؤلفة لظاهرة نقصان التعاطف و«التنمّر» في الشبكات التواصلية للسبب نفسه تقريباً الذي أدى لازدياد الإفصاح الذاتي، فعدم مشاهدة ردة فعل الطرف الآخر ولغة جسده وما يحتف بها قد يسهل من إيذاء مشاعره والتهجم عليه، كما يفتقر الفضاء الافتراضي للظروف التي تتيح الاعتذار أو القيام ببعض الإجراءات التعويضية. ويخبرنا الكتاب عن نتيجة لافتة في دراسة أجريت بجامعة هارفارد وهي أن مشاركة المرء للمعلومات الشخصية عن نفسه كما يحدث في شبكات التواصل ينشط أنظمة المكافأة في الدماغ بالطريقة نفسها التي يفعلها الغذاء والجنس.
أما الآثار في مجال الهوية، فتتحدث المؤلفة عن مفارقة تستند لأبحاث أجريت على طلاب الجامعات لاستكشاف دوافعهم لاستخدام الفيسبوك، وهي أن أشد الناس رغبة في التعبير عن هويتهم الحقيقية في الفضاء الشبكي هم أولئك الذين يعتمدون بشدة على العلاقات في الفضاء الإلكتروني. وتظهر الأبحاث أن هوية الأفراد الذاتية التي يقدمونها عن أنفسهم عبر شبكات التواصل ليست هي الذات الحقيقية التي كانت تعرض سابقاً في البيئات الحاسوبية مجهولة الهوية (المنتديات مثلاً)، وإنما هي ذات مصممة بقصد ومرغوبة اجتماعياً، يطمح إليها الأفراد وإن لم يتمكنوا من تحقيقها. أو بعبارة أخرى يمكن القول أن صورة الذات المقدَّمة في شبكات التواصل هي نسخة مبالغ فيها من الذات الحقيقية. وتذهب المؤلفة للاعتقاد بأن ثقافة التواصل الاجتماعي قد تؤهل المستخدمين لامتلاك عقلية نرجسية، وهذا يفرض بدوره تدني احترام الذات، ومن خلال الاعتماد على شبكات التواصل لتلبية الحاجة للاستحسان فإن نظرة المستخدمين لأنفسهم تتضاءل بصورة مطردة، كما يستميتون في الآن ذاته لأن يلاحظ الآخرون وجودهم ويتفاعلوا معهم. إن التعلق المفرط باللحظة الحاضرة وبصورة متزايدة مع ما يرافقه من تكريس الوقت الطويل لمتطلبات العالم الخارجي يضعف من الشعور الحقيقي بالهوية الداخلية، فالاستمرار في نشر صورة المطعم الذي تزوره الآن أو المكان السياحي الذي تقطن فيه الآن وتلقي التفاعلات حيالها في اللحظة نفسها، والتوق للإعجابات والتعليقات، يفضي إلى توليد قدر من الإثارة أكبر من التجربة الحياتية نفسها. وتتحدث المؤلفة عن تزايد السطحية في التفاعلات الشبكية والتقييمات بسبب السرعة العالية اللازمة للاستجابة وتناقص الوقت المتاح للتأمل. ومع توافر بعض الأبحاث التي تحاول اكتشاف آثار التواصل الشبكي على بنية الدماغ إلا أنه لا ينبغي الإفراط في تأويلها في رأي المؤلفة، وبدلاً من ذلك علينا التفكير في الطرق المعقدة التي يستجيب بها الدماغ لهذه التطورات الرقمية، «من لحظة تفعيل نبضة من الدوبامين بفعل الاستجابة لأحدث تغريدة وحتى التشكيل الطويل الأجل لارتباطية الخلايا الدماغية، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى إعادة ترتيب للمشابك العصبية تستمر طوال الحياة في أدمغة أولئك الذين قد يعتبرون نرجسيين أو قليلي الثقة بالنفس».
تأثير ممارسة الألعاب الإلكترونية على الإدمان، والانتباه، والعدوانية: لقد ساعد ظهور الهواتف الذكية ربما على زيادة الإقبال على الألعاب الإلكترونية، وتشير بعض الدراسات إلى أن 36% من اللاعبين الأمريكيين يمارسون ألعابهم عبر هواتفهم الذكية. تتحدث المؤلفة باستفاضة في هذا السياق عن ظاهرة الإدمان على الألعاب الإلكترونية، ثم تطرح السؤال التالي: هل تركيبة الدماغ (تحديداً كبر منطقة المخطط البطني في الدماغ) لها تأثير على ميول أصحابها نحو ممارسة الألعاب أم أن الإفراط في ممارسة الألعاب قد ترك بصمته على الدماغ؟ وتقدم جواباً محتملاً وذلك أنه يمكن فهم كلا الأمرين بلا تعارض، فالهوس بالألعاب يؤثر في الحالة الدماغية، كما أن نمط تركيب الدماغ قد يوفر استعداداً خاصاً يزيد من احتمال الوقوع في إدمان الألعاب. وإن كانت الإجابة تحتمل أطروحة تفسيرية أكثر تعقيداً وتركيباً كما تلمح المؤلفة.
وفي مجال تأثير الألعاب الإلكترونية على الانتباه، تشير إحصاءات ودراسات عديدة إلى وجود علاقة سببية بين ممارسة ألعاب الفيديو ومشكلات الانتباه، بل توضح الدراسات وجود علاقة تبادلية، وتلخص المؤلفة هذه العلاقة بالقول: «إن الشخص المندفع الذي يتشتت انتباهه بسهولة قد يجد في ألعاب الفيديو الوسيلة المثالية للتعبير عن نزعاته، في حين أن اعتياد قضاء الوقت في عالم يفرض ردود فعل سريعة واستجابات فورية يضمن تكيّف الدماغ مع تلك البيئة». وإلى جوار الآثار السلبية تسرد المؤلفة بعضاً من الآثار الإيجابية المحتملة لهذه الألعاب سواء للفرد العادي أو للمسنين أو لبعض من يعانون أمراضاً نفسية أو عصبية. بل تشير لدراسات تؤكد الأثر الإيجابي لألعاب الفيديو في تحسين الانتباه، إلا أنها تعود للقول بأنه برغم إمكانية تحسين الانتباه البصري الانتقائي للتركيز على جسم يتحرك على الشاشة فمن الممكن أن يتم ذلك على حساب النوع المستدام والمهم من الانتباه الطويل المدى وهو نوع الانتباه اللازم للتفكير ولفهم شيء ما بصورة معمقة.
محركات البحث وتأثيراتها في التعلم والذاكرة: تفتتح المؤلفة حديثها في هذا الشأن بالإشارة لما يسمى بـ«تأثير جوجل» وهو تعبير متداول يعود في أصله للتجارب التي قام بها باحثون في جامعة هارفارد، والتي أفضت لنتيجة مفادها أنه إذا رسخ في العقل سهولة الوصول للمعلومة لاحقاً فمن المرجح أن نتذكر طريقة الوصول إلى المعلومة أكثر من تذكرنا للمعلومة ذاتها، فالمجموعة الأولى التي خضعت للتجربة وظنت إمكانية التأكد من المعلومة بعد تلقيها كان أداؤها في الاختبار أسوء من المجموعة التي اعتمدت كلياً على الموارد المخية الخاصة، وهذا بالضبط ما يمكن أن تؤثره محركات البحث على مستوى استقبال المعلومة واستيعابها، وهذا يذكر بنصيحة الشيخ محمد بن عثمان الحنبلي لتلاميذه ونقلها عنه ابن بدران رحمه الله في المدخل: «لا ينبغي لمن يقرأ كتاباً أن يتصور أنه يريد قراءته مرةً ثانيةً، لأن هذا التصور يمنعه من فهم جميع الكتاب، بل يتصوّر أنه لا يعود إليه مرةً ثانيةً أبداً».
كما تنقل المؤلفة نتائج بحثية استقصائية حول كيفية استخدام الإنترنت في البحث عن المعلومات عند الشباب، والتي منها الميل للاندفاع والاعتماد على الإجابات السريعة وعلى أولى النتائج التي تظهر على جوجل، مع تزايد عدم الرغبة في تناول الفروق الدقيقة أو الشكوك، وعدم القدرة على تقييم المعلومات، فعصر المعلومات يدفع الشباب في كثير من الأحيان للتضحية بالعمق مقابل الاتساع.
وفي آخر الكتاب تقدم المؤلفة بعض التوصيات وتؤكد الحاجة لمزيد من البحوث والدراسات حول موضوع الكتاب، كما تقترح أهمية اختراع برمجيات جديدة تعوض القصور الناجم عن الإفراط في الوجود أمام الشاشات، كما تلفت النظر لضرورة إدراك حجم التعقيد في ملف التقنيات الرقمية وآثارها، مكررة الاستشهاد بالاقتباس الطريف والشهير لهنري لويس مينكن: «لكل مشكلة معقدة إجابة واضحة وبسيطة.. وخطأ!».