الحالة الإنسانية في الفلوجة
الحياة البشرية بلا رحمة وتعاطف تتحول إلى غابة تُقتل فيها كافة معاني الإنسانية،
ويتحول البشر إلى وحوش كاسرة تعيش وتعمل وتكافح من أجل البقاء والانتقام وإشباع
الرغبات الحيوانية، وفي عالم الغابة يذبح القوي الضعيف، ويموت الفقراء جوعاً، وتذبل
أرواح المرضى لانعدام الدواء، وتجف ينابيع العطاء لأن الناس ينظرون للحياة على أنها
قضية غالب ومغلوب، وربح وتجارة، وحينها تنحر الإنسانية وتدفن في مقابر الخزي
والعار.
هذه المقدمة أردت بها الوصول إلى نقل بعضاً من المأساة المؤلمة الجارية في مدينة
الفلوجة، التي تنحر على أسوارها وفي داخلها قيم الإنسانية بحجة مقاتلة تنظيم
«داعش».
الفلوجة مدينة عراقية تقع ضمن محافظة الأنبار، وتقع المدينة على بعد 60 كم شمال غرب
العاصمة العراقية بغداد، وتسكنها عشائر عربية، عرفت بكرمها وطيبها، وبمقاومتها
الشرسة لقوات الاحتلال الأمريكي، واليوم تعرف بالحصار الظالم المفروض عليها من قبل
القوات الحكومية المدعومة بمليشيات الحشد الشعبي.
يقطن المدينة وضواحيها قرابة نصف مليون شخص، أكثر من نصفهم هاجروا داخل البلاد
وخارها نتيجة العمليات العسكرية، وبقي فيها من لا يستطيعون الخروج لضعف ذات اليد،
ولإيمان بعضهم أن الموت في مدينتهم أفضل من الموت في دروب الهجرة والفقر والعوز
والحاجة!
منذ أكثر من عام ونصف العام تعاني الفلوجة من حصار حكومي شديد القسوة، لكنه في
الشهرين الأخيرين - وبالتزامن مع بدء العمليات العسكرية الحكومية ضد المدينة لإنهاء
سيطرة تنظيم داعش عليها، على اعتبار أن ذلك جزء من الخطط الحربية لإضعاف الطرف
المقابل - أصبح الحصار أشد ضراوة، وسنحاول في هذا المقال الابتعاد عن الجانب
السياسي والعسكري في قضية المعارك الجارية في الفلوجة، وسنركز على القضية الإنسانية
والحصار الظالم المفروض على المدينة.
وهنا أرى من الضرورة بمكان محاولة إثبات الحقائق الآتية:
- هل جميع من هم داخل المدينة من مقاتلي داعش ولا يوجد بها مدنيون؟
- هل هناك حصار حكومي ومليشياوي حقيقي على المدينة، وأن آثار الحصار قد بدأت تسحق
المئات من الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، أم أنها خدعة عسكرية من مقاتلي تنظيم
داعش؟
بالنسبة للقضية الأولى سنحاول إثباتها بتصريحات لمسؤولين محليين هم جزء من الحكومة
الموجودة في الأنبار، ومرتبطون بحكومة بغداد، وهؤلاء لا يمكن الطعن في شهادتهم
لأنهم جزء من الفريق السياسي والحكومي.
التصريح الأول للسيد سعدون الشعلان، قائم مقام قضاء الفلوجة، الذي حذر فيه من أن
«نحو خمسة آلاف عائلة محاصرة داخل مدينة الفلوجة مهددة بالموت، بعد نفاد الأدوية
والمواد الغذائية، نتيجة عدم سماح قوات الأمن بدخول المساعدات للمدينة التي يسطر
عليها تنظيم داعش، والقوات الأمنية العراقية التي منعت دخول المواد الغذائية
والأدوية إلى الفلوجة لمنع استغلالها من تنظيم داعش، لكن بالمحصلة النهائية المتضرر
الوحيد من الإجراء هم المدنيون الذين بات الموت يتهددهم بشكل حقيقي».
وفي بداية شهر أبريل الحالي، صرح صباح كرحوت رئيس مجلس محافظة الأنبار لقناة
العربية الفضائية بتصريحات خطيرة، جاء فيها أن «2% من الفلوجة مع داعش، وأن الأطفال
يموتون بالعشرات يومياً، والغذاء والدواء غير موجود بالفلوجة، وأناشد المجتمع
الدولي لإنقاذ 150 ألف نسمة سوف يموتون بالفلوجة».
التصريح الثالث في التاسع من فبراير الماضي، والذي أعلن فيه رئيس مجلس قضاء الفلوجة
الشيخ طالب حسناوي أن «أكثر من عشرة آلاف عائلة محتجزة داخل القضاء».
هذه التصريحات الحكومية الصريحة والواضحة تؤكد أنه يوجد أكثر من 150 ألف مدني داخل
المدينة، وهذه الأعداد الهائلة اليوم ربما يمكن أن نقول عنها إن نصفهم - لا قدر
الله - في عداد الأموات، نتيجة استمرار العمليات العسكرية، والحصار الاقتصادي، ثم
لا ننسى تصريح رئيس مجلس محافظة الأنبار الذي أكد فيه أن داعش تمثل 2% فقط من أعداد
السكان، فهل يعقل أن يقتل 98% من أجل القضاء على 2% من مقاتلي داعش؟!
وبعد أن أثبتنا أن 98% من الموجودين في الأنبار هم من المدنيين وفقاً لتصريحات
حكومية، نعود للتساؤل الثاني الذي طرحناه في بداية الكلام وهو:
هل هناك حصار حكومي ومليشياوي حقيقي على المدينة، وأن آثار الحصار قد بدأت تسحق
المئات من الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، أم أنها خدعة عسكرية من مقاتلي تنظيم
داعش؟
وبالأسلوب ذاته سنحاول الاعتماد على التصريحات الحكومية بالدرجة الأولى ثم ندلل على
هذه الحقائق أيضاً بتقارير المنظمات المحلية والإقليمية والدولية.
حقيقة وجود حصار ظالم على الفلوجة أكدها السيد صباح كرحوت، رئيس مجلس محافظة
الأنبار في حواره مع قناة العربية الفضائية آنف الذكر، والذي بين فيه أن «العشرات
من المدنيين يموتون نتيجة شح الغذاء والدواء».
كرحوت قال أيضاً لموقع السومرية الإخباري إن «اثنين من الأطفال الرضع ورجلاً مصاباً
بمرض السكر توفوا في مدينة الفلوجة بسبب عدم وجود حليب الأطفال والغذاء ودواء
الإنسولين لمرضى السكر في مستشفى المدينة، وإن اثنين من كبار السن من أهالي الفلوجة
تم إنقاذهما بعدما حاولا الانتحار بإلقاء نفسيها من فوق جسر الفلوجة في نهر الفرات
بسبب الجوع».
هذه الحقائق أكدتها في الوقت ذاته لجنة حقوق الإنسان في أكبر مؤسسة حكومية، وهو
مجلس النواب العراقي، حيث أعربت اللجنة، وعلى لسان رئيسها النائب أرشد الصالحي «عن
قلقها من الحصار الذي تفرضه قوات الأمن على مدينة الفلوجة في محافظة الأنبار غرب
العراق لأجل استعادتها من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية، وأن تأخر القوات في استعادة
المدينة وحصارها خلفا نقصاً في الغذاء والدواء».
وبهذا يمكن أن نجزم أن ما يجري في الفلوجة هو حرب إبادة للأهالي بحجة محاربة داعش،
وإلا فإن تصريحات أعضاء المجالس المركزية والمحلية آنفة الذكر كافية لإثبات أن
الحصار على الأهالي وليس من أجل المعركة مع داعش!
السؤال الذي يطرح هنا، وعلى جميع العقلاء والحكماء في العالم أن يحاولوا إيجاد
الجواب الشافي له، هو: هل صباح كرحوت رئيس مجلس الأنبار، وسعدون الشعلان قائم مقام
الفلوجة، والشيخ طالب حسناوي رئيس المجلس البلدي في الفلوجة، وأعضاء لجنة حقوق
الإنسان البرلمانية، هل هؤلاء جميعاً من الدواعش حتى يحاولوا تضليل الرأي العام؟ أم
إننا أمام حقيقة مرة وهي أن المدينة تتعرض لجريمة قتل متعمد؟!
حصار الفلوجة أكدته كذلك العديد من المنظمات غير الحكومية، وبينت أن الحصار على
المدينة وصل لدرجات لا يمكن تحملها، ومن بين هذه المنظمات المرصد العراقي لحقوق
الإنسان الذي أكد في تقرير نشر في فبراير الماضي أن «مدينة الفلوجة تعيش منذ أسابيع
وضعاً إنسانياً صعباً، بسبب شح في الغذاء، في ظل الحصار المفروض عليها».
وكذلك الهيئة العراقية للإغاثة أكدت على لسان رئيسها مكي النزال «أن عدد ضحايا
الحصار المفروض على مدينة الفلوجة منذ سنتين وصل نحو أربعة آلاف قتيل وستة آلاف
جريح، قضوا نتيجة القصف والمجاعة والنقص الحاد في الأدوية، وأن الوضع الإنساني في
العراق سيئ من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه، لكن المنطقة الشمالية (إقليم شمال
العراق) تنعم بأفضلية نسبية عن الوسط والجنوب، وهناك إفقار متعمد للجنوب لكي يضطروا
للانخراط في الجيش والشرطة، وما يسمى الحشد الشعبي، ويوجد عندنا مرضى ومصابون كثُر،
ولا نستطيع إنقاذهم، والناس تموت بالجملة بحجة مقاتلة داعش، ونعلن النداء لكل
العالم بمدِّ يدِ العون لإغاثة العراق عامة، والفلوجة خاصة».
هذه الحقائق أكدها كذلك مركز جنيف الدولي للعدالة بتصريحه أن «صمت الأمم المتحدة عن
الحصار الشامل الذي تفرضه السلطات العراقية على الفلوجة منذ أشهر يجعلها مشاركة في
ما يحصل من موت جماعي لسكانها وجريمة الإبادة الجماعية التي تحصل فيها، وإن تواصل
القصف اليومي أدى إلى جريمة إبادة لعدد كبير من السكان المدنيين، في حين تلوذ أجهزة
الأمم المتحدة بالصمت، ولا تتخذ الإجراءات اللازمة لمواجهة مثل هذه الحالات كما
يجري في أماكن أخرى من العالم».
وقبل يومين دقت منظمة هيومن رايتس ووتش الدولية ناقوس خطر كارثة تواجه مدينة
الفلوجة، وأكدت أن «حصار القوات الحكومية ومنع سكانها من مغادرتها تسبب بمقتل 140
شخصاً أغلبهم مسنون وأطفال، بسبب نقص الغذاء والدواء، وأن سكان الفلوجة يواجهون
الجوع بسبب الحصار الذي تفرضه الحكومة وداعش، وعلى الأطراف المتحاربة ضمان وصول
المساعدات إلى المدنيين».
وقبل ذلك دعت منظمة هيومن رايتس ووتش على لسان جو ستورك نائب رئيس المنظمة في الشرق
الأوسط «الحكومة العراقية إلى السماح عاجلاً بدخول المساعدات لمدينة الفلوجة، وأن
سكان الفلوجة المحاصرين يتضورون جوعاً وتهددهم كوارث، وأنهم محاصرون من قبل
الحكومة، وهم يعانون من الجوع».
ونقلت المنظمة عن ناشطين عراقيين على اتصال بسكان الفلوجة قالوا إن «السكان بدؤوا
يتناولون الخبز من طحين مصنع من نوى التمر ويطبخون حساء من العشب».
وفي السياق ذاته، قالت ممثلة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق ليز غراندي
إن «الوضع في مدينة الفلوجة مقلق ومعقد للغاية، بسبب استمرار حصار المدينة الذي
يحول دون وصول المواد الغذائية إلى الأهالي».
المنظمة الدولية ذكرت في بيان جديد لها - بعد تواتر أخبار حصار الفلوجة - أن
«السكان المدنيين في الفلوجة يواجهون الخطر وأنهم بحاجة للإغاثة».
حقيقة حصار الفلوجة أكدته رئيسة بعثة الصليب الأحمر في العراق كاترينا ريتز التي
قالت:
«إن
الأوضاع في الفلوجة بدأت تشكل مصدر قلق، وإن الحاجة إلى إيصال مساعدات للأهالي
أصبحت ملحة أكثر من أي وقت مضى».
إن القيمة الإنسانية تتطلب من الحكومة أن تقف موقفاً صحيحاً وصريحاً يقضي بفتح
ممرات آمنة لدخول المواد الغذائية للمدينة، حتى لو افترضنا وصول قسم منها لداعش،
وذلك لأن فرضية قتل
98%
من أجل قتل
2%
فرضية مليئة بالظلم والاستخفاف بالنفس البشرية.
وأخيراً يمكن أن نختم حديثنا عن مأساة الفلوجة الإنسانية المركبة بإحصائية مستشفى
الفلوجة التعليمي حول مجمل الخسائر البشرية نتيجة استمرار القصف البري والجوي، فقد
ذكر المستشفى نهاية شهر مارس الماضي أن
«الحصيلة
الكلية لأعداد ضحايا القصف العشوائي المتواصل على مدينة الفلوجة منذ سبعة وعشرين
شهراً قد ارتفعت إلى تسعة آلاف ومائة وتسعين مدنياً بين قتيل وجريح».
وأكدت إدارة المستشفى
«مقتل
ثلاثة آلاف وأربعمائة وستة وأربعين مدنياً من بينهم خمسمائة وستة عشر طفلاً
وثلاثمائة واثنين وعشرين امرأة، فضلاً عن إصابة خمسة آلاف وسبعمائة وأربعة وأربعين
مدنياً بجروح من بينهم تسعمائة وثلاثة عشر طفلاً وسبعمائة وأربعة وستين امرأة
جميعهم سقطوا جراء آلة الحرب والعمليات العسكرية التي تستهدف الأحياء السكنية وسط
المدينة منذ الثلاثين من شهر ديسمبر عام ألفين وثلاثة عشر ولغاية الآن».
فهل بعد هذه الإثباتات والحقائق من حجة لأدعياء الموت والظلم والخراب؟!
الفلوجة مدينة المساجد والتضحيات، ستبقى صامدة على الرغم من هول التحديات، وسيكتب
التاريخ بمداد الذل والعار جريمة مغول العصر العصر من المليشيات الذين يذبحون
الإنسانية مرة بالسلاح، وأخرى بالغذاء، وثالثة بالدواء، فهل هؤلاء وحوش بشرية، أم
مجاميع انسلخت من إنسانيتها؟!
:: مجلة البيان العدد 348 شـعـبـان 1437هـ، مــايو 2016م.