مستقبل السودان ... بين يدي الانتخابات والاستفتاء
تأتي الانتخابات السودانية في أبريل 2010م، لتكون إحدى الحلقات الفاصلة في تاريخ هذا البلد العربي المسلم في هويته وثقافته وحضارته، والإفريقي في انتمائه الجغرافي ومجاله السياسي والاقتصادي.
لا يُخفي أعداء هذا البلد الفريد رغبتهم في أن يخرج السودان من هذا الارتباط الحضاري ويلحق بحظيرة الدول الإفريقية التي مُسِخت هويتها الثقافية، وقد ارتفع صوت منكراً قبل سنوات. يقول: (آن لهذا البلد أن يحكمه حاكم غير عربي وغير مسلم)، ولا يضير أحداً من أهل السودان أن يتولى السلطة فيه غير العربي؛ فقد ألفوا ذلك وعرفوه؛ فقد حكم جعفر النميري (1969 - 1985م) وهو من نوبيي شمال السودان، وشهدت فترة حكمه إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية وإغلاق بيوت الخنا ومحالِّ الخمر.
صحيح أن الأسماء المرشحة لمنصب رئيس الجمهورية قد خَلَت من غير المسلمين، إلا أن القوى المشارِكة فيها، والتي تتخفَّى خلف أسماء مرشحين مسلمين لا تخفي رغبتها في تغيير السودان تغييراً جذرياً عن طريق الإحلال والإبدال:إحلال هوية أخرى غير الهوية التاريخية للسودان، وإبدال كل الأوضاع القائمة بأوضاع جديدة وشخصيات جديدة. وإن عجزت عن الوصول لذلك في الانتخابات القادمة، فإن الخطة (ب) ستتحول للخطة الأساسية وعندها سيبدأ الفصل الأخير في بقاء السودان موحداً، وقد لا يقف الأمر عند انفصال الجنوب الذي يشكل (ثلث مساحة السودان)، بل قد يمتد إلى تقسيم شمال السودان إلى دويلات عديدة.
تأتي الانتخابات المقبلة محمَّلة بأغلب مشكلات السودان المعاصر؛ فبعض المرشحين لمنصب رئيس الجمهورية ومنهم (ياسر عرمان) مرشح الحركة الشعبية لتحرير السودان نصَّبوا من أنفسهم لساناً للمهمَّشين هنا وهناك، وفي المقابل ما تزال الحركات المتمردة في دارفور تخوض حرباً ضد الحكومة المركزية. وبينما يفاوض بعضها في الدوحة منذ 24 يناير 2010م، يمضي (عبد الواحد محمد نور) زعيم حركة تحرير السودان مقاتلاً وهو يرفع شعار (تقرير المصير) لإقليم دارفور المسلم.
وفي المقابل يخوض الرئيس السوداني (عمر البشير) الانتخابات، وكأنه يقاتل على جبهتين: منافساً لمرشحي القوى والأحزاب الداخلية، وعلى الصعيد الآخر يقف المجتمع الدولي خصيماً للرئيس، وتلاحقه اتهامات المحكمة الجنائية الدولية بإرتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور.
ويمثل جنوب السودان جوهر أزمة السودان التاريخية، وفي هذه الانتخابات (في أبريل 2010) تمثل الحركة الشعبية وطبيعة مشاركتها في الانتخابات محدِّداً رئيساً لمستقبل السودان؛ لأن نتيجة هذه الانتخابات تؤثر بصورة مباشرة على استفتاء الجنوبيين على خيار الوحدة والانفصال في يناير 2011م.
بذور الأزمة:
بعد سنوات قلائل من انتصار قوات الاحتلال البريطاني على جيوش الدولة المهدية السودانية في سفح جبل كرري شمال أم درمان في سبتمبر 1898م، عمدت الإدارة الاستعمارية البريطانية أول الأمر إلى فصل السودان عن محيطه العربي من خلال فَصْله عن مصر بعد انفجار الثورة المصرية 1919م؛ خشية أن تنتقل روح المقاومة إلى شمال السودان، ومن ثَمَّ إلى جنوب القطر، ومنه إلى المستعمرات البريطانية في شرقي إفريقيا ومنطقة البحيرات، ثم عمل الاستعمار على إحداث فصل كامل بين الشمال والجنوب. ولإتمام ذلك أخذت إدارة المستعمر في نشر النصرانية في الجنوب ثم سدِّ الجنوب بسَنِّ قانون الجوازات الذي عُرِف بقانون المناطق المقفولة سنة 1922م، واتخذت سياسية تهدف إلى عزل الجنوب عن أي مؤثرات إسلامية وعربية لأَبْعَد حدٍّ ممكن؛ فلا تستخدم في المديريات الجنوبية من المآمير (ضباط الشرطة) غير السود؛ إلا إذا دعت الضرورة القصوى لذلك. وإذا تحتم استخدام مآمير مصريين في الجنوب، فإن الإدارة الاستعمارية كانت تتحرى أن يكونوا من الأقباط ما أمكن... وجعلت العطلة الأسبوعية يوم الأحد بدلاً عن يوم الجمعة وشجعت الجمعيات التبشيرية المسيحية، ومنعت السودانيين الشماليين والمسلمين من المصريين والنيجييرين من دخول الجنوب، وفي المقابل شجعت دخول الإغريق اليونانيين المسيحيين، بل منعت الشماليين من أصطحاب زوجاتهم الجنوبيات وأبنائهم منهنَّ إلى الشمال، وعملت الإدارة الاستعمارية أيضاً على محو اللغة العربية من الجنوب؛ بإجبار الجنوبيين الذين يحملون أسماء عربية على العودة إلى أسمائهم القَبَلية القديمة وعملت الكنيسة على تعميدهم ومَنْحهم أسماءً أوروبية وفضلت الإدارة بقاء الجنوبيين على عادتهم في التعري على تزييهم بالثياب العربية، بل كانت هذه الأزياء العربية تُحرَق علناً في الأماكن العامة.
ولم يتوقف التمييز بين جانبي القطر على هذه الرسوم الثقافية، بل تعدَّاها إلى تمييز في الأجور وشروط الخدمة في الوظائف العامة؛ حيث عمد المحتلون لإنقاص أجر الموظف أو العامل الجنوبي عن أجر نظيره الشمالي في المهنة ذاتها[1]. أما على المستوى الإقليمي، فالتباين بين الشمال والجنوب في التنمية والإعمار كان كبيراً؛ بحيث لا يمكن المقارنة بينهما في التعليم ومؤسساته والصحة ومرافقها والتنمية وبِنيَتِها التحتية وفي كل أوجه الحياة.
وقبل أن يخرج المحتل الإنجليزي بعام، بدأ التمرد المسلح الأول في جنوب السودان في عام 1956م؛ فلم يستقر قرار الحكومات الوطنية بسببه. وتقوم الحكومات في شمال البلاد وتسقط والتمرد ماضٍ في اشتعاله، ملتهماً موارد البلاد وبَنِيها من الشمال والجنوب... وأخذت الأطراف الدولية تتدخل في هذا الصراع الداخلي، واستعانت الحركات المتمردة بالشرق الشيوعي (سابقاً) حيناً من الدهر ثم أخيراً ارتمت في الحضن الأمريكي.
أما الحكومات الوطنية، فقد سقطت الحكومة الديمقراطية الأولى قبل أن تُكمل عامين وأعقبتها حكومة عسكرية في نوفمبر 1958م، وبدأت هذه الحكومة برئاسة الفريق إبراهيم عبود مشاريعاً للتنمية، وبذلت جهداً مقدَّراً في توحيد النظام التعليمي وتعميم اللغة العربية في جنوب السودان، وتنظيم التبشير المسيحي في البلاد وطَرْد القساوسة الأوروبيين، وسرعان ما هاج عليها الغرب؛ حتى سقطت في عام 1964م، ومضت الدائرة الشريرة بانتخاب حكومة ديمقراطية عاجزة عن إيقاف نزيف الحرب وعن الوفاء باحتياجات التنمية؛ فعاد العسكر إلى السلطة في 25 مايو 1969م، ولكن هذه المرة بتأييد من الحزب الشيوعي السوداني، ثم انقلب قائد الثورة جعفر النميري على الحزب الشيوعي فأعدم قادته وشرَّد عضويته ثم انقلب على طائفة أنصار المهدي السوداني؛ فقضى على إمام الطائفة الهادي المهدي - رحمه الله - وأقبل على جنوب السودان ووقَّع مع الحركة المتمردة برئاسة جوزيف لاقو اتفاقية أديس أبابا للسلام عام 1973م وأُوقفت الحرب 10 سنوات، ثم اندلع التمرد في الجنوب من جديد وسقطت حكومة النميري بانتفاضةٍ التحم فيها الشعب مع القوات المسلحة بقيادة محمد حسن سوار الذهب 1985م، ثم عادت السلطة للأحزاب التي عادت لفوضاها وضعفها، واستأسد التمرد وأصبح يستولي على المدن في جنوب السودان ويُسقط الطائرات السودانية وهُرعَت الجبهة الإسلامية القومية (حزب المعارضة آنذاك) إلى الجيش وتمكَّنت من الاستيلاء على السلطة وتنصيب العميد عمر البشير رئيساً للجمهورية.
وخلال عشرين عاماً أمضتها في السلطة تمكَّنت الحكومة من إحداث بوادر نهضة اقتصادية وصناعية؛ باستخراج النفط وإيقاف الحرب عبر اتفاقية السلام الشامل بين الشمال والجنوب 2005م.
وقد سُمح للسودان بالوصول إلى حالة السلام الهش بعد سلسلة طويلة من إجراءات الاحتواء من خلال جيرانه، والإضعاف الداخلي، والعزل عن محيطه العربي والإسلامي، وقد ألقت هذه الإجراءات الثلاثة بظلالها على تفاصيل اتفاقية السلام التي توصلت إليها الحكومة السودانية في مدينة نيفاشا الكينية.
وقد مُنِحَت الحركة الشعبية المتمردة حكم جنوب السودان بصورة شبه كلية وتشارك في الحكومة الاتحادية بنسبة 28 %، وأضافت الحركة إلى نفسها وظيفة زعيم المعارضة.
والآن بعد مرور أربع سنوات على هذه الاتفاقية، يخوض الرئيس البشير وحزبه أول انتخابات تعددية حقيقية، وهي انتخابات فاصلة في تحديد مستقبل التجربة ومستقبل الوطن.
الحركة الشعبية والأجندة الاستئصالية:
هي حركة بدأت ذات توجهات اشتراكية في مايو من عام 1983م قبل إصدار القوانين الإسلامية في سبتمبر 1983م، ولكن بعد انهيار الماركسية العالمية وسقوط نظام منغستو هايلا مريام الشيوعي في إثيوبيا، تحولت إلى مخلب أمريكي تنتاش به السودان، ومن أول بيان أصدرته الحركة بيَّنت غايتها النهائية وهدفها الكبير فيه؛ ففي المادة (22) الفقرة (ج) كتبت: (إن قوة الجيش الشعبي لتحرير شعب السودان ستنمو وتتعاظم؛ لتصبح قوة تقليدية قادرة على تحطيم جيش السودان الرجعي). وهو يمثل تصريح قرنق الذي ذكرناه آنفاً عن خروج العرب والمسلمين من السودان ذاته، كما خرجوا من الأندلس، وقوله: «هدفنا ليس احتلال أجزاء من الجنوب أو في الشرق، بل تحرير البلد ككل[2].
ولهذا السبب وحده لم يضع قرنق السلاح بعد سقوط حكومة النميري وقيام حكومة الانتفاضة: «وكان من المؤمَّل والمتوقع أن تضع الحركة الشعبية السلاح وتأتي قيادتُها للجلوس حول مائدة التشاور مع قوى الانتفاضة الأخرى... ومن ثَمَّ دخولها التجربة الديمقراطية بوسائلها المعروفة، باعتبار الحاجة لتطور العمل الوطني نحو الأهداف التي أعلنت عنها (الحركة) سابقاً، وما كان لها - بالضرورة – أن تلبِّي بالوسائل نفسها بعد تغيُّر الأوضاع السياسية في البلاد إلى الشكل الديمقراطي. ولكن فوجئت قوى التجمع الوطني وهي تستمع إلى رأى العقيد جون قرنق في 9/4/1985م وهو يصف السلطة العسكرية الجديدة بـ «مايو 2» ويعلن استمراره في رَفْع السلاح رغم إعلان وَقْف إطلاق النار الذي أصدره المجلس العسكري في حينها»[3].
ولما جاءت الإنقاذ أصبحت الحركة الشعبية هي القاسم المشترك والقبلة الوحيدة التي تتلاقى عندها الأحزاب وتتوجه إليها، واستطاعت لأول مرة المشاركة في حلف مع المعارضة الشمالية؛ لتُسبَغ عليها الشرعية وتسوَّق عربياً وإسلامياً، ولتجد التعاطف داخلياً من أتباع تلك الأحزاب والمتظلمين من الحكومة.
وفي 16/5/2000م حدد جون قرنق مسارات لحركته، وهي:
الأول: ضمُّ جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق ومنطقة أبيي للجنوب وإخضاع الجنوب الموسَّع لحكم الجيش الشعبي واقتسام السلطة المركزية بالتساوي مع السلطة الحالية لمدة عامين ثم يمارس الجنوب حق تقرير المصير.
الثاني: إسقاط النظام في الخرطوم واستلام التجمع الوطني الديمقراطي السلطة (قوات التجمع الوطني الفعلية هي الجيش الشعبي).
الثالث: أن تعم المناطق «المحررة» كل السودان بفعل الزحف، وتصبح الحركة الشعبية الحزب الحاكم في البلاد وجيشها جيش البلاد.
ويُلاحَظ أن هذه المسارات صالحة لأن تتحقَّق عبر انقلاب عسكري أو بالتفاوض السياسي أو بالتحالف الانتخابي مع استصحاب كافة التغييرات الاجتماعية والسياسية السودانية، وأنه بتوقيع الحكومة والحركة لاتفاق الترتيبات الأمنية في ضاحية نيفاشا الكينية، نجد أن الحركة استطاعت دفع عجلة السياسة في مساراتها تلك، ولقد سألت مسؤولاً حكومياً كبيراً: هل الاتفاق الأمني يسير وَفْق محددات قرنق؟ فأجاب: (الاتفاق الأمني فيه ثغرات خطيرة جداً ويكاد أن يضع الحالة السياسية والعسكرية في هذه المسارات)؛ إذ ضَمِنت الحركة استيعاب جيشها في الجيش السوداني عبر ما يُعرَف بالجيش المشترك الذي قِوامه 39 ألف مقاتل، والذي تُمَثَّل الحركة فيه بـ: 19.5 ألف جندي بالإضافة لباقي قوَّاتها جنوب خط 10 شمال (حدود الجنوب في 1/1/1956) وإذا أخذنا في الاعتبار أن نسبة مقدرة من جنود الجيش السوداني الحالي من جنوب السودان، فإنه إذا استقر الاستفتاء على وحدة السودان وتم استيعاب كل ذلك العدد وخُفِّض الجيش السوداني كما قُرِّر في اتفاق نيفاشا، فإن نسبة الانتساب الجغرافي للجيش ستكون مختلة لصالح جنوب السودان بالجملة.
مصادر دعم الحركة:
هي الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا، كما أسلفنا. يقول الأستاذ (علي عثمان محمد طه) النائب الأول لرئيس السودان: (إن السياسة الأمريكية حيال السودان يحركها تياران:
الأول: يدعو للتدخل المباشر في السودان.
والثاني: يديره الكونغرس، ويتخذ خطاً يركز على دعم المتمردين)[4].
بالإضافة للدعم الإسرائيلي للحركة، كما صرح بذلك أمين الجامعة العربية؛ إذ يقول: «إننا نملك أدلة موثقة على التدخل الإسرائيلي والتورط الصهيوني في دعم حركة التمرد»، ويقول الدكتور حسن مكي: «إن إسرائيل مدت التمرد بـ 200 ألف رشاش عوزي و50 مليون دولار»[5]. ويؤيد ذلك ما نقلته جريدة أخبار اليوم في 5/1/2001م عن الأهرام العربي، من تدفُّق ثمانية ألاف خبير إسرائيلي إضافة إلى أجهزة المخابرات إلى حوض النيل والقرن الإفريقي وكذلك تَمَثَّل الدعم الإسرائيلي للحركة في تسليحها وتدريب أفرادها ومدِّها بالمال وتوفير الدعم الأدبي لها في إفريقيا؛ لمتانة علاقتها بيوغندا وكينيا وإرتريا التي أجَّرت 6 جزر لها، ورواندا وبوروندي لمدها لهما بالأسلحة، ويقال: (إن التوتسي هي القبيلة التي تاهت من بني إسرائيل في إفريقيا) ويطلَق الآن على رواندا: «إسرائيل منطقة البحيرات».
والهدف من الدعم الإسرائيلي للحركة تأمين منطقة البحيرات؛ حيث منابع النيل، وتأمين منطقة البحر الأحمر من خطر الأصولية الإسلامية، كما جاء في الواشنطن بوست على لسان مسؤول إسرائيلي.
والهدف الثاني: أن إسرائيل تعتقد أن منطقة أعالي النيل هي المكان الذي دُفِن فيه (تابوت موسى)، وأن المنطقة بين الخرطوم وملكال، هي منطقة مقدسة؛ لأن التابوت جرى عكس تيار النهر من الخرطوم (مجمع البحرين) جنوباً حتى منطقة ملكال؛ حيث دُفن هناك وذكر الخبير السوداني الفلسطيني الأصل الدكتور «أسامة الأشقر» أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم أن هنالك محاولات استكشاف بالإشعاع بحثاً عن التابوت جرت في المنطقة في عام 1998م وهو ما أدى إلى نفوق الحيوانات المائية.
الحركة سياسياً:
من أخطر تحولات السياسة السودانية في هذه المرحلة بروز الحركة وتمركزها كقطب الرحى لبقية الأحزاب السودانية، بل حتى منظمات المجتمع المدني وكافة الفصائل الفكرية العَلمانية: إبتداءً من تحالفها مع أحزاب المعارضة الشمالية فيما عُرف بـ (التجمع الوطني الديمقراطي) مروراً باتفاق شقدوم ومذكرة التفاهم مع (حزب الأمة) وإعلان لندن مع (المؤتمر الشعبي) المحسوب على الإسلاميين ومروراً بإعلان القاهرة مع (حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي) ثم المشاركة السياسية الآن مع (المؤتمر الوطني). وإذا كان حزب المؤتمر الوطني برئاسة الرئيس البشير هو المحور الذي تدور حوله السياسة السودانية في هذه الفترة، فإن الحركة الشعبية أصبحت قطب الرحى النظير الذي يدور حوله المعارضون للحكومة السودانية القائمة والراغبين في إلحاق هزيمة ساحقة بالمؤتمر الوطني.
الانتخابات ومستقبل السودان:
في أبريل 2010م الذي لا تفصلنا عنه إلا بضعة أيام، سيدخل السودان مرحلة جديدة بلا شك، تختلف كلياً عن كل تاريخ السودان السياسي المديد.
والأبواب مفتوحة على كل الاحتمالات، والتحالفات بين القوى السياسية السودانية، وتُعَد القوتان المحوريتان في الاستحقاق الانتخابي القادم، هما: حزبا المؤتمر الوطني برئاسة الرئيس السوداني (عمر البشير)، والحركة الشعبية الجنوبية (المتمردة سابقاً).
وعلى أساس مواقف هذين القطبين ستتحدد طبيعة المرحلة المقبلة، وهناك أربعة سيناريوهات متوقعة في الانتخابات المقبلة، تختلف في كلٍّ منها النتائج الكلية والمخرجات النهائية اختلافاً جذرياً باختلاف اختيارات القطبين:
السيناريو الأول: تحالف القطبين:
وهو أمر وارد بالنظر للتجربة السياسية للحزبين؛ فالحركة الشعبية قَبِلت التحالف مع المؤتمر الوطني وإلقاء السلاح والعودة للداخل بعد أكثر من 22 سنة من التمرد على السلطة المركزية، وشاركته في تقاسم الثروة والسلطة والنفوذ في السودان، طوال الأربع سنوات الماضية، واستطاعا - رغم المناوشات بينهما - تجاوز كثير من العقبات التي وقفت أمام تنفيذ اتفاق السلام بين الشمال والجنوب.
وقد صرح وزير الدولة بوزارة الإعلام د. كمال عبيد القيادي بالحزب الحاكم بأنه: من غير المستبعد أن يتحالف المؤتمر الوطني والحركة الشعبية. وبمثل هذا التصريح تحدَّث الأمين العام للحركة الشعبية باقان أموم.
وهذا السيناريو، يجد قبولاً من الحادبين على وحدة البلاد، والحفاظ عليها من الانزلاق في حرب أهلية مرة أخرى، حال سفور الانتخابات عن نتائج لا ترضي القوتين السياسيتين الكبيرتين في السودان: المؤتمر الوطني والحركة الشعبية.
وتشير طبيعة ترشيحات الطرفين للمناصب الرئاسية (رئاسة الجمهورية، ورئاسة حكومة الجنوب) إلى إمكانية حدوث هذه التسوية؛ حيث ترشح الرئيس عمر البشير رئيس حزب المؤتمر الوطني لمنصب رئيس الجمهورية مرة أخرى بينما انسحب سلفاكير جنوباً وفضَّل الاحتفاظ بمنصب رئيس حكومة الجنوب وترشيح ياسر عرمان ذي الأصول العربية المسلمة لمنصب رئاسة الجمهورية عن الحركة الشعبية؛ وهو ما يجعل التسوية ممكنة.
ويحفظ هذا السناريو حال اختياره ونجاحه الأجواءَ سلميةً وإيجابيةً عند قيـام استفتاء الجنوبيين على الوحدة أو الانفصال في يناير 2011م.
السناريو الثاني: تنافس الشريكين وتكتلهما:
وهو السناريو الجاري على السطح السياسي الآن؛ حيث يعمل كلٌّ من المؤتمر الوطني والأحزاب الموالية له على زيادة فرص فوزه بأكبر قَدْر من المقاعد في البرلمان الاتحادي والبرلمانات الولائية.
ويعتمد المؤتمر الوطني الآن على الاستنصار بكل القوى الاجتماعية والدينية والسياسية في الشمال، وفي الوقت ذاته يحشد أصدقاءه في جنوب السودان؛ لمنافسة الحركة الشعبية في جنوب السودان ومقاسمتها أصوات الجنوبيين المقيمين في شمال السودان، والذين لهم أشواق وتوجهات وحدوية.
بينما تعمل الحركة الشعبية على تجميع بعض الأحزاب الجنوبية حولها، ويدعو «باقان أموم» الأمين العام للحركة الشعبية إلى ما أسماه: (تحالف عريض يضم النوبة، والجنوبيين، والانقسنا، والفور، والحلفاويين، في أقصى الشمال، والهدندوة في الشرق؛ لانتزاع حقوقهم كاملة من الجلابة)، بجانب دعوة الحركة الشعبية للأحزاب السياسية لتكوين تحالف معارض وقد عُرفَت نواة هذا التحالف بـ: (تحالف جوبا).
والحركة الشعبية تسعى للاستعانة بالأحزاب السياسية الشمالية الكبرى المعارضة واختبار إمكانية تأسيس تحالف انتخابي معها، ولا يُخفي قيادات بالحركة الشعبية قلقهم من هذا الاتجاه باعتبار أن القوى السياسية الشمالية الكبرى (حزب الأمة والحزب الاتحادي والمؤتمر الشعبي) لا تُخفي تحفظاتها على اتفاقية السلام، كما لا تشعر بضرورة الالتزام بمقرراتها التي لم تشارك في صياغتها.
ومع ذلك فإن هذا السناريو مغـرٍ للحـركة الشـعبية؛ لأنه قد يمكِّنها - بالتعاون مع القوى السياسية الشمالية - من هزيمة المؤتمر الوطني الحزب الحاكم، وقَطْع الطريق أمام محاولات أسلمة الدولة والمجتمع ثم فرض نموذج السودان الجديد، وهو: سودان عَلماني ذو توجهات إفريقانية.
وخطورة هذا السناريو تتمثل في موقف الطرف الخاسر، سواء أكان المؤتمر الوطني أو الحركة الشعبية؛ فمن الممكن جداً خسارة حزب المؤتمر الوطني الذي يقوده الرئيس البشير للأغلبية البرلمانية ولرئاسة الجمهورية نفسها، وتتقدم قوى سياسية أخرى معادية للتوجه الإسلامي في البلاد، وموالية للغرب، كالحركة الشعبية لتحرير السودان.
وفي حالة خسارة المؤتمر الوطني؛ فإنه لا يمكن أن يسلِّم بالهزيمة وهو الذي سعى لإعادة تشكيل الدولة، بل الاستيلاء على السلطة في يونيو 1989م. وكان السبب في الانقلاب هو ضعف الحكومة الحزبية في التصدي لتمرد الحركة الشعبية؛ فلا يُعقَل أن يسلِّمها السلطة اليوم على طبق من ذهب؛ بعد أن استخرج النفط وحققت البلاد واحداً من أفضل معدلات النمو لعدد من السنين، وهو أيضاً الحزب الذي يتبع له كبار قادة الجيش والأمن والمخابرات ورجالات الاقتصاد؛ أي: ستُفتَح كل الخيارات أمام الإسلاميين للتعامل مع الواقع الجديد.
وفي المقابل، فإن الحركة التي ألفت التمرد على الدولة المركزية في السودان لن تتعامل بالقبول والرضا مع نتيجة الانتخابات؛ إن لم تكن في صالحها، وهي الحركة التي رفضت نتيجة التعداد السكاني التي أُعلنت في مايو 2009 حينما أظهرت أن عدد الجنوبيين في العاصمة الخرطوم (وهي الثقل السكاني في السودان) أقل مما توقعت.
إن الحركة الشـعبية مؤسسة عسكرية ضخمة في مبدئها، وما تزال كذلك، ومن باب خلفي بعيد عن عين الخرطوم، بدأت حكومة الجنوب «الحركة الشعبية لتحرير السودان» في توظيف أكثر من 60 % من عائدات البترول (أي: 600 مليون دولار تقريباً) في إعادة تأهيل جيشها؛ بتزويده بكل المعدات الحربية التي كانت تنقصها من قَبْل؛ لحسم معركتها الشاملة لتحرير السودان القديم من حكم الجلابة (ذوي الأصل العربية والإسلامية)، وإحلال السودان الجديد محله، وقبل عام كشفت كينيا أنها أوقفت شحنات أسلحة في ميناء مامبسا، وتتضمن: أسلحة ثقيلة متطورة (50 دبابة) كدفعة أولى لصفقات سلاح عقدتها الحركة الشعبية مع دول شرقية وغربية تشمل أيضاً: راجمات وطائرات ومدفعيات، والحركة الشعبية ماضية في عزمها العسكري؛ فقد نقلت صحف الخرطوم أن الحركة اتفقت مع شركة دينيل (من جنوب إفريقية) لتدريب 180 طيار و 120 مهندس طيران؛ ليكونوا نواة لقوات الجنوب الجوية.
ولشركة دينيل قدرات عسكرية عالية في مجالات متعددة وقد طورت مؤخراً صواريخ مضادة للمدرعات كما أن لها علاقات واسعة مع المؤسسات الأمريكية والبريطانية: كوكالة ناسا وبريتش إيرسبيس.
إنه أمر يدعو للقلق إذا ما نظرنا إلى احتمال خسارة الحركة الشعبية للانتخابات القادمة في ظل الحشد الكثيف للبارود، ولن تكون الحرب بين الشمال والجنوب حرباً قليلة الخسائر لأيٍّ من الطرفين هذه المرة.
كما أن الأوضاع في الشمال والجنوب قد تنفجر؛ حتــى لو أعلن الجنوب انفصاله من جانب واحد من برلمانه بعاصمة الجنوب جوبا:
ففي الجنوب ما تزال القبيلة هي الوعاء السياسي والمؤسسة العسكرية، كما يبدو ذلك من شكل التكتلات السياسية داخل الحركة الشعبية (الوعاء السياسي الأبرز الآن في الجنوب)؛ حيث تصطرع القوى القبلية داخل أبنية الحركة الشعبية: كالصراع بين أبناء القبيلة الواحدة، مثل: صراع أبناء قبيلة الشلك، بين الأمين العام للحركة الشعبية باقان أموم ووزير الخارجية السابق د. لام أكول، والصراع بين دينكا بحر الغزال ودينكا بور، وينتسب رئيس حكومة الجنوب سلفاكير لدينكا بحر الغزال وينتسب زعيم الحركة الشعبية السـابق جون قرنق موالاييه - في الغالب - إلى دينكا بور، وهناك صراع دموي بين الدينكا وقبيلة المورلي، ويدور القتال الآن بين النوير والدينكا وهناك صراع تاريخي بين الاستوائيين والدينكا؛ وقد سقط خلال عام 2009م فقط أكثر من 2500 قتيل في جنوب السودان، وهو معدل يفوق معدل القتلى أيام الحرب الأهلية.
أما الشمال؛ فالوضع ليس بأحسن حالاً من الجنوب؛ فدارفور قد تمزقت وستصبح بطاقة التصويت هناك هي القنبلة الموقوتة التي قد تنفجر عند إعلان أول نتيجة، وخاصة في المناطق التي تشهد اختلاطاً قبلياً، وخاصة المدن الكبرى: كنيالا والفاشر والجنينة وبقَدْرٍ ما العاصمة (الخرطوم)، وكذلك جنوب كردفان والمناطق المتاخمة لدارفور منها، ومثلها النيل الأزرق؛ حيث ما يزال في النفوس هناك بقايا صراع بين أهل المنطقة الأصليين كما يسمون أنفسهم وبين الوافدين، مع أَخْذنَا في الاعتبار تدفُّق السلاح لكل الأطراف والقوى (القبلية - السياسية).
السناريو الثالث: تأجيل الانتخابات:
وهو مطلب قوى المعارضة المتعددة، وقد قدَّمت المعارضة مقترحاً يوم السبت 23 يناير 2010م إلى لجنة حكماء إفريقيا بقيادة رئيس دولة جنوبي إفريقيا (ثابومبيكي)، ولم يجد هذا الطلب قبولاً عند لجنة الحكماء الأفارقة، كما لم يحظَ بقبول الحكومة السودانية أيضاً. ويقضي مقترح المعارضة بتأجيل الانتخابات إلى نوفمبر 2010م، من أجل إحداث أوضاع تسمح بقيام انتخابات حرة ونزيهة.
عددت القيادية بحزب الأمة (د. مريم الصادق المهدي) في تصريح لها لـ: ^ مطالب المعارضة، وقالت: «إن قوى المعارضة أجمعت على أن استحقاقات قيام انتخابات حرة ونزيهة غير متوفرة، وهي: تصحيح عيوب السجل الانتخابي، وتأكيد مشاركة دارفور في الانتخابات القادمة ورَفْع حالة الطوارئ بها، وتكوين مجلس قومي للإشراف على الإعلام الرسمي، ومراجعة تكوين المفوضية، واستدامة السلام في الجنوب، والتحول الديمقراطي، وتجميد البنود القمعية في قانون الأمن الوطني»، على حد وَصْفها.
ولم تستبعد مريم الصادق «أن تلجأ قوى المعارضة لمقاطعة الانتخابات في حال عدم استجابة الحكومة لهذه المطالب»؛ ولهذا السبب ظل هذا الخيار قائماً، كما أنه راجح أيضاً في حال فشل قوى المعارضة في الوصول لتحالف انتخابي مع الحركة مقبولاً في شروطه لدى الأحزاب الشمالية التاريخية، وهو أمر صعب.
وفي المقابل، يستبعد خبراء في الشأن السوداني، مقاطعة قوى المعارضة الشمالية للانتخابات القادمة، في حال مشاركة الحركة الشعبية. يقول (د. حسن حاج علي) عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة الخرطوم لـ ^: «إن أحزاب المعارضة السودانية ستشارك في الانتخابات القادمة مكرهة بعد إعلان الحركة الشعبية (القطب الرئيس في تحالف المعارضة) عن خوضها الانتخابات القادمة في كل المستويات وبدأت بإعلان أسماء مرشيحها.
ويقول أيضاً: «إن أحزاب المعارضة ظلت تهدِّد بمقاطعة الانتخابات ولكنها؛ كما في تصريحات (د. حسن الترابي) زعيم المؤتمر الشعبي تربط موقفها من مقاطعة الانتخابات بموقف الحركة الشعبية، وهو ما انتفى الآن، وهو ما يعني بالضرورة مشاركة هذه الأحزاب مكرهة في الانتخابات القادمة» وأضاف: «إن أي مقاطعة في هذه الانتخابات، تعني: استمرار عزلة المعارضة عن التأثير في الأوضاع لأربع سنوات قادمة؛ أي: ربع قرن من وصول الرئيس البشير للسلطة في 1989م».
ويضيف حاج علي: «الحركة الشعبية لا تريد تأجيل الانتخابات؛ لأنها لا تراهن عليها إنما على استفتاء سكان جنوب السودان في نوفمبر 2011م» وأضاف أيضاً: «إن أي تأخير في الانتخابات يعني بالضرورة: تأجيل الاستفتاء، وهو ما تريده الحركة الشعبية».
ويقول القيادي بالحركة الشعبية (أتيم قرنق) نائب رئيس البرلمان السوداني: «إن الحركة الشعبية ما زالت على موقفها من خوض الانتخابات المقبلة في كل المستويات».
ونبَّه المحلل السياسي السوداني (الحاج وراق) أبرز رموز التيار الليبرالي الجديد في تصريحات لـ ^ إلى أن تأجيل الانتخابات إلى نوفمبر 2010 سيجعل هذه الانتخابات غير ذات جدوى باعتبار أن الاستفتاء على استقلال الجنوب مقرَّر في يناير 2011م.
وأكد الحاج وراق وجود تيارين داخل المعارضة: تيار يرى المقاطعة، وتيار يدعو للمشاركة في الانتخابات القادمة رغم غياب الضمانات الديمقراطية، والاستفادة منها في تعبئة الجماهير للانتفاضة على حكومة الرئيس عمر البشير. وأشار أيضاً إلى أن مقاطعة الأحزاب في ظل مشاركة الحركة الشعبية لا معنى لها.
وقد يخفف من تعظيم هذا الخيار عند أحزاب المعارضة الشمالية، قدرة حزب المؤتمر الوطني الحاكم الآن على تقديم صيَغ تحالفية مغرية ومرنة لحزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي والحزب الاتحادي الديمقراطي برئاسة محمد عثمان الميرغني، ويجمع التاريخ الديني بين الأحزاب الثلاثة.
السناريو الرابع: انتخابات مركبة متزامنة مع الاستفتاء:
هذا السيناريو، هو قراءة خاصة للخبيــر الاستراتيجـــي (د. حسن مكي محمد) مدير جامعة إفريقيا العالمية بالخرطوم؛ حيث يرى أن هناك مساعياً من قِبَل أمريكا لتأجيل الانتخابات إلى نوفمبر القادم، وهو ما تقترحه المعارضة أيضاً؛ «وذلك لأنهم يعتقدون أن الانتخابات سيفوز بها المؤتمر الوطني في الشمال والحركة الشعبية في الجنوب، ولن يكون هناك تغيير في الشكل السياسي، بل ستُعطَى الشرعية للنظام وستعطَّل مسارات المحكمة الدولية التي تلاحق الرئيس عمر البشير»؛ ولذلك يرى د. مكي أن الأمريكان «ينادون بتأجيل الانتخابات إلى نوفمبر، أو أن تكون الانتخابات مركبة وتجري في يناير القادم 2011 متزامنة مع استفتاء تقرير المصير؛ حتى إن جاء الاستفتاء لصالح الانفصال، يجب أن تكون هناك فترة انتقالية لقيام الدولة؛ حتى يجري تأسيس البُنى التحتية؛ حتى لا تدخـل الدولـة الجنـوبيـة في حـرب مع مكـوناتها، وحتى لا تولد فاشلة، وحتى يتم استيفاء معادلات النفط».
جنوب السودان... إلى أين؟
من المسلَّم به الآن، أن بقاء السودان ضمن حدود السودان التاريخية المعروفة أصبح من المستحيلات، وخاصة بعد إصرار الحركة الشعبية على إجازة قانون استفتاء يجيز للجنوبيين (51 % من المستحقيين المشاركة في الاستفتاء) اختيار الانفصال إذا صوتت الأغلبية البسيطة (50 % + 1) لصالح الانفصال عن السودان، بدلاً من مقترَح المؤتمر الوطني الذي أعلنه الدكتور (غازي صلاح الدين العتباني) مستشار الرئيس البشير، وهو يقضي بضرورة مشاركة 70 % من الجنوبيين في عملية الاستفتاء، وألا يقع الانفصال إلا إذا صوت 70 % لصالح الانفصال.
وصرح السياسي الأمريكي ومبعوث الرئيس الأمريكي السابق روجر ونتر مستشار حكومة الجنوب بأن: 94 % من الجنوبيين مع الانفصال. وتشهد مؤشرات عديدة بذلك، منها:
- افتتاح حكومة الجنوب مكاتب (سفارات) لها في العديد من العواصم الغربية والعربية.
- تغيير المناهج التعليمية ولغة التعليم بجنوب السودان.
- تفاوُض حكومة الجنوب مع شركات اتصالات للحصول على كود دولي مختلِف عن كود السودان الموحَّد.
- ترخيص المركبات العامة والخاصة في الجنوب بلوحات تحمل رمز NS (وهو اختصار لـعبارة: «السودان الجديد» أو New Sudan)، تخالف فيه الترخيص المعمول به في شرطة المرور لكافة أنحاء السودان؛ حيث تحمل كل ولاية رمزاً معيَّناً لها.
- سعي حكومة الجنوب إلى إيجاد منفذ إفريقي لتصدير البترول المنتَج في جنوب السودان، لا يمر بشماله.
- حِرْص الجنوب على ضم منطقة أبيي الغنية بالنفط إليه، وضَمِّ المناطق المتاخمة وغيرها، من المؤشرات السالبة.
ومع ذلك كله، توجد مؤشرات أخرى، تبشر ببقاء السودان موحداً، منها:
- رغم سيطرة الحركة الشعبية على الجنوب الآن، إلا أن الحركة الشعبية نفسها تموج بتيارات متباينة قَبَلياً ومصلحياً؛ فأبناء قبيلة النوير يرون أنهم الأحق بقيادة الحركة لوجودهم الكثيف في جيش الحركة على مستوى المقاتلين، ولأن أغلب البترول المنتَج في الجنوب، والذي يُعَدُّ المصدر الأوحد للمال في الجنوب يُنتَج في أراضي القبيلة. وقد برزت هذه الخلافات للسطح حينما أرادت الحركة الشعبية اختيار مرشحيها لمنصبَي: رئيس الجمهورية، ورئيس حكومة الجنوب؛ حيث يشعر النوير بالإقصاء بعد إبعاد ابن القبيلة (د. رياك) مسشار نائب رئيس حكومة الجنوب الآن من الترشيح لأيٍّ من المنصبين.
- كما أن هناك النزاعات التقليدية والمخاوف التقليدية بين الاستوائيين والقبائل الأخرى تجاه نوايا قبيلة الدينكا التي تقود الحركة الشعبية، وهو ما يدفع بالقبائل الأخرى لتعظيم خيار الوحدة.
- كما يجد خيار الوحدة قبولاً عند الزعماء التقليديين في جنوب السودان (السلاطين)، وعند الجنوبيين الذين يعيشون في الشمال أيضاً (ويتراوح عددهم بين مليوني جنوبي إلى ثلاثة ملايين).
- ويمثل فشل حكومة الجنوب في تحقيق نجاح في إعادة بناء ما دمَّرتْه الحرب، وتأسيس بِنْية تحتية مناسبة، وتوفير الأمن، من أكبر العوامل المؤيدة لاختيار الجنوبيين للوحدة.
- وفوق ذلك وجود تيار سياسي كبير له آفاق وحدوية، وقد تمثل هذا التيار مؤخراً في ترشيح الدكتور (لام أكول) وزير الخارجية السابق لمنصب رئيس حكومة الجنوب، ممثِّلاً لتحالف بعض الأحزاب الجنوبية، في الانتخابات المقبلة، ومنافساً لسلفاكير ميارديت رئيس حكومة الجنوب ورئيس الحركة الشعبية، وقد انشق لام أكول من الحركة الشعبية التي يقودها سلفاكير، وأسس حركة حملت اسم: (الحركة الشعبية – التغيير الديمقراطي).
ويضم تحالف د. أكول نحو 12 حزباً جنوبياً، من بينها قطاع الجنوب بحزب المؤتمر الوطني بزعامة الرئيس البشير وحزب يوساب 2، و«سانو 2»، والمنبر الديمقراطي بزعامة بونا ملوال، وجبهة الإنقاذ المنبر الديمقراطي، والجبهة الديمقراطية المتحدة.
والمؤشر الأشد تأثيراً، هو المؤثر الخارجي ممثَّلاً في الولايات المتحدة؛ حيث اعترف مبعوث الرئيس أوباما للسودان غرايشون بأن الجنوب يفتقر إلى مقومات تأسيس دولة.
إن يناير 2011م، يعدُّ مرحلة فاصلة في تاريخ هذا البلد المسلم، وآمل أن ينجو هذا البلد من شبح التقسيم الذي ضرب بلاداً إسلامية مرت بظروف أقل خطراً مما مرَّ به السودان: كأندونيسيا - مثلاً - ونأمل أن يتوافق أهل السودان على نمط أوسط يحفظ لبلادهم وحدتها، وأن تُسفِر انتخابات أبريل 2010م عن نتائج تُعِين على اختيار الوحدة.
[1] للمزيد راجع كتاب: الإسلام في السودان، ورقة: سياسة الإدارة البريطانية والجمعيات التبشيرية المسيحية في مديريات السودان الجنوبية، البروفيسور مدثر عبد الرحيم، ص 231 - 255، دار الأصالة ، الخرطوم، 2004، ط2
[2] الشرق الأوسط: 11/9/1417هـ.
[3] مجلة الثقافة الوطنية السودانية: مارس 1989م.
[4] مجلة السنة، العدد 91 شعبان 1420 هـ.
[5] مجلة دراسات إفريقية، العدد 18 يناير 1998م.