تزايدت الدعوات الصهيونية في الآونة الأخيرة إلى ضرورة التوصل لتهدئة طويلة الأمد مع حركة حماس في قطاع غزة، في ضوء فشل الحرب الأخيرة عليه، وعدم قدرة الجيش الصهيوني على تحقيق الردع المطلوب تجاه الحركة.
دعت أوساط عسكرية لتغيير طريقة التعامل مع قطاع غزة، والتوقف عن النظر إليه بعين واحدة، وضرورة خلق واقع جديد فيه يجعل لدى سكانه ما يخسرونه، لأن بقاء الواقع الحالي في القطاع لا يخدم الكيان الصهيوني، وبدلًا من التفرج على ضائقته، ينبغي المبادرة لإعماره كي يكون لدى الفلسطينيين هناك ما يخسرونه في حرب قادمة، وبالتالي سيردعون من المبادرة إليها.
وتطرقت لأعداد المتسللين من القطاع حيث بلغوا 301 فلسطيني قدموا بهدف الاعتقال فقط، في حين حمل بعضهم السكاكين لزيادة مدة الاعتقال، لأن السجن في الكيان الصهيوني أرحم من العيش داخل سجن غزة الكبير، مع تلقيهم الرواتب من السلطة الفلسطينية.
وكان واضحًا أن نقاشًا حادًا يجري بين القيادتين السياسية والعسكرية في حماس حول السياسة التي يتوجب عليها أن تتخذها في القطاع، بعد المواجهة الطويلة مع الكيان الصهيوني والتوتر مع مصر، مما يجعل من الصعب الوصول لتوافقات مبدئية على وقف نار طويل المدى، ومن شأنه في ظروف معينة أن يشجع مبادرات هجومية ذاتية من الذراع العسكرية دون تنسيق مع القيادة السياسية.
كما تتواصل الاتصالات غير المباشرة في محاولة لترتيب وقف نار إنساني بعيد المدى في القطاع، ويحاول وسطاء أجانب، من الأمم المتحدة ومن سويسرا، حمل الكيان الصهيوني وحماس على اتفاق يوقف النار لسنوات.
وفي هذه اللحظة يرفض الطرفان التعهد، ولكن هناك احتمالًا ما لتطور دراماتيكي، ومثل هذه المهلة الزمنية ستسمح لحماس بأن تنتعش من أضرار الحرب الأخيرة في الصيف، فيما سيفرغ الكيان الصهيوني اهتماماته ومقدراته للتركيز على إمكانية المواجهة في الساحة اللبنانية، الأخطر من ناحيته.
لكن هاجس الحرب مع حماس في قطاع غزة لا يفارق مخيلة قيادة الجيش، ولعل ما يدل على عظم هذه الهواجس تخصيص رئيس الأركان «غادي آيزنكوت» زيارته الأولى لفرقة غزة بعد أيام من توليه منصبه قبل فترة قليلة، حيث أشار إلى تصورات الجيش لشكل المواجهة المقبلة مع حماس.
ومع ذلك، فإن هذه الحرب ستبدأ من النقطة التي انتهت منها الحرب الأخيرة الصيف الماضي، لأن حماس استفادت من أخطاء الحرب السابقة، واستخلصت العبر، وقد تفاجأ الجميع بضربة عبر 30 مسلحًا من جناحها العسكري يقتحمون إحدى المستوطنات المحاذية للقطاع، ويسعون لقتل المستوطنينوخطف وقتل الجنود، في زيادة مضاعفة لأعداد مسلحيها الذين دخلوا خلف خطوط الجيش خلال الحرب الأخيرة، خاصة أن حماس نجحت في تنفيذ سلسلة عمليات نوعية في الحرب الأخيرة بالتسلل خلف خطوط الجيش وقتل وإصابة عشرات الضباط والجنود، منبهًا لحصر العمليات التي نفذت عبر أنفاق حفرت مسبقًا لمهاجمة المواقع العسكرية فقط برغم أن عناصرها كان بإمكانهم مهاجمة المستوطنين في المستوطنات القريبة من القطاع.
الكيان الصهيوني يصف تهديدات حماس بتوجيه ضربات خلف الخطوط بأنها جادة وقابلة للتنفيذ لأن تجربة الحرب الأخيرة تثبت أن حماس تقوم ببعض العمليات من هذا القبيل، وأن رسالة «آيزنكوت» لقيادة المنطقة الجنوبية في الجيش خلال زياراته المتكررة كانت واضحة بأن عليهم البحث عن الطريقة الأنجع لتنفيذ المهام التي سيكلفون بها، وعدم الانشغال بنوايا حماس من عدمها، فحماس ذاتها تعلم جيدًا أن الحرب القادمة مسألة وقت، وقد قام جناحها العسكري بما يلزم من التحقيقات المعمقة للكشف عن مواطن الفشل في الحرب الأخيرة، وعلى الجميع أن يعلم أن مقاتليها يحفرون أنفاقًا كبيرة في هذه الأيام، ولا يتفاجأ أحد إذا نفذوا هجومًا عبر أحد الأنفاق بواسطة دراجات دفع رباعي.
كما قامت حماس بتطوير قدراتها الصاروخية، عبر كثرة التجارب الصاروخية التي تنفذها مؤخرًا، وادعى أن كتائب القسام فشلت في الكثير من الهجمات خلال الحرب الأخيرة، لكنها نجحت بتسجيل العديد من النقاط الجوهرية خلال المواجهة.
ونجح قادة حماس في تحليل الواقع وقراءة نهاية المعركة جيدًا، ورأوا في مواقع الجيش والمستوطنات القريبة من الحدود الخاصرة الضعيفة للجيش، واستهدفوها بشكل مركز، أما النقطة الثانية فقد تمثلت في إثبات قدرة صمود عالية على الصمود على مدار أكثر من 50 يومًا من القتال، بخلاف التقديرات الاستخبارية التي توقعت عدم وجود نية لحماس للمواجهة، وأنها غير جاهزة لها.
في السياق ذاته، تسربت معلومات بأن الكيان الصهيوني يجري حوارًا مع حماس للوصول لاتفاق تهدئة طويل الأمد بين الطرفين، وبرغم تنفيذ الجيش عدة غارات على مواقع في قطاع غزة مؤخرًا لكن ممثلين عن تل أبيب وأجهزة الأمن فيها أجروا في الأسابيع الماضية حوارات مع حماس، قسم منها بشكل مباشر وآخر بطرق غير مباشرة، سعيًا للوصول لاتفاق تهدئة طويل الأمد، فقد عرضت حماس على الكيان الصهيوني قبل 3 أشهر من الانتخابات اقتراحًا عينيًّا مفصلًا لترتيب تهدئة بين الطرفين لمدة 15 عامًا، لكن الحكومة لم ترد على الاقتراح، وهذا الحوار، الذي يتناول مسألة إعادة إعمار قطاع غزة، وبناء البنى التحتية، وتحسين شبكات الكهرباء والماء، وبناء ميناء بحري، يثير عدم رضا مصر والولايات المتحدة بسبب الالتفاف على دور السلطة الفلسطينية.
هذه المباحثات يضطلع فيها مسؤولون كبار من قطر وأوربا، عرضوا التوسط بين الطرفين، كما أن البعثة السويسرية في رام الله تظهر نشاطًا في هذا السياق، ناهيك عن وصول مبعوثين، ليسوا من حماس، من غزة للكيان الصهيوني لهذه الغاية، لأن عدم الحوار مع حماس سيؤدي لاندلاع مواجهة عسكرية جديدة في الصيف القادم، وسيظهر حرب غزة الأخيرة فشلًا ذريعًا.
الحكومة الصهيونية بسبب المعركة الانتخابية سعت للتخفيف من حجم الحوار مع حماس، حتى لا يعرقل ذلك الجهد الانتخابي، لأنه يضر بصورتها، ويضر بالسعي الصهيوني المتواصل لتعريف حماس كمنظمة إرهابية، فيما يسيطر الغضب على السلطة الفلسطينية في رام الله، حيث تتهم الكيان الصهيوني بالسعي لتكريس سلطة حماس في غزة كقيادة منافسة لها.
لكن الحوار بين حماس والكيان الصهيوني منح الأولى دافعًا لمنع تدهور الأوضاع الأمنية وتصعيدها على الحدود مع غزة، وحال دون سعيها لمحاولة نقل المواجهة للمخيمات الفلسطينية في لبنان، وعلى الحدود السورية، موضحًا أن عدم وصول غالبية أموال التبرعات لإعادة إعمار القطاع، لم يمنع 85% من السكان الذين هدمت بيوتهم خلال الحرب، من استلام المواد الخام لإعادة بناء بيوتهم.
:: مجلة البيان العدد 336 شعبان 1436هـ، مايو - يونيو 2015م.