معارض الكتاب واشكالية الكتب المنحرفة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
تشهد هذه الأيام في أكثر من عاصمة عربية افتتاح أكثر من معرض دولي للكتاب، وهي فرصة للمهتمين والباحثين في العلم والثقافة للاطلاع على الجديد والقديم من الدراسات التي يعز وجودها خارج مثل هذه المعارض، وهي من جهة أخرى دافع محفز للقراءة والاطلاع يحرك الهمم في زمن هجران القراءة الجادة.
وفي أثناء هذه المعارض تثار عادةً إشكالية الكتب المنحرفة التي تقدم تصورات مناقضة لأصول الإسلام وقطعياته والتي تحرض على الإلحاد وتثير الشكوك أو تحرض على الشهوات، وللأسف فإن إدارات هذه المعارض تعاني من تقصير كبير في القيام بالواجب الشرعي عليها، حتى على الحد الأقل من الكتابات التي يتفق الجميع على نكارتها وتطاولها، بينما تجتهد في منع كتابات شرعية معتدلة لدوافع ومبررات مختلفة.
وقد كُتب في هذا السياق الكثير، وهو بحاجة لعناية أكثر، إلا أننا نحب النظر في هذا الموضوع من زاوية أخرى.
فلا شك أن للكتاب أثرًا في تغيير التصورات والقيم بما يخالف القيم الإسلامية ويوقع في الانحرافات المصادمة للشريعة الإسلامية، إلا أن الواقع أن أثر الكتاب محدود مقارنة بأثر غيره؛ وهو ما يحتم أهمية النظر إلى الأسباب جميعًًا بشكل معتدل. والذي يدفع إلى محدودية تأثير الكتاب مقارنة بغيره أن واقع كثير من المنحرفين أنهم لا يقرؤون، وعلاقتهم بالكتاب علاقة ضعيفة ولا تتجاوز غالبًا الشكليات والقراءة المحدودة التي لا تحدث تأثيرًا حقيقيًا. كما تجد الشاب الذي يتغير موقفه نحو القرآن والسنة وعلماء الأمة وتراث السلف بشكل جذري خلال فترة يسيرة لا يمكن أن يكون للقراءة الأثر المباشر؛ فحصيلة القراءة كلها لا تستطيع أن تحدث هذا الانقلاب السريع، إنما ثَم دوافع وعوامل خارجية هي المؤثر الأكبر، ومن أهم هذه العوامل:
الأهواء والشهوات الذاتية، فهي من أعظم الدوافع للانحراف، وأعمقها تأثيرًا، وما ضل أحد بعد هدى كان عليه إلا بهوى عميق في نفسه - شعر بذلك أم لم يشعر - كما قال تعالى: {فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]، ولأن سنة الله في الحياة أن من قصد الحق بصدق وفقه الله له: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وأن من زاغ عن الهدى أزاغ الله قلبه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: ٥].
فالعناية بعلاج هذه الأهواء، وتقديم المنهج الشرعي في كيفية التعامل معها، وتعميق حاجتنا جميعًا إلى مراقبة أنفسنا، هي من أعظم الضمانات للابتعاد عن الانحراف؛ فالهوى هو الباب الحقيقي الذي تلج منه بقية الأسباب، بل إن المقروء لا يؤثر بإضلال قارئه غالبًا إلا بأثر أهواء اندفعت من داخله. وهو ما يفسر لك أن بعض الناس قد يقرأ من الشبهات ضد الإسلام ومصادره وأصوله فلا يزيده هذا إلا ديانة وتمسكًا واستشعارًا بأهمية الدفاع عن قيم الإسلام وضرورة إشاعة أحكامه، بينما يقرأ آخر ما هو أقل بكثير من هذه الشبهات فتكون سببًا لأن ينقلب على عقبيه، وما ذاك إلا للأثر العميق لهذه الأهواء.
والأخطر في أمر الأهواء أنها خفية، دقيقة، قد تخفى حتى على صاحبها، وقد تلتبس بالصدق والإخلاص، وهذا ما يحتم ضرورة الالتجاء إلى الله، وبراءة الإنسان من أي حول وقوة، وهي معانٍ إيمانية عظيمة تثبت قلب المسلم على دينه.
أثر الإعلام المفتوح من قنوات وصحف ومواقع وشبكات تواصل، فهي أدوات سهلة التناول، واسعة الانتشار، وتأثيرها في نفس المتلقي عميق وبشكل غير مباشر، مما يحدث تغييرًا للقناعات، وتشويهًا للقيم، وإرباكًا للثوابت؛ فلا يكون موقف الإنسان مبنيًا على قراءة علمية موضوعية مركزة بقدر ما هو نتاج لأثر غير علمي لمشاهدة طويلة متعددة للأفلام والمقاطع والبرامج.
التواصل المباشر مع الثقافات والمجتمعات المختلفة عبر الدراسة أو العمل أو السفر، وهذا تأثيره في نقل التصورات أعمق بكثير من تأثير المقروءات.
حالة الإحباط من الواقع، والتسخط من الحال السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية في واقعٍ معين، بما يغذي في نفس الشخص رفضًا لبعض الأحكام والتصورات والقيم لكونها مرتبطة لديه بهذا الواقع، فالموقف منها لم يقم بناءً على رؤية موضوعية في دراسة هذه الأحكام بقدر ما هو موقف نفسي جاء كردة فعل لواقع معين، وهذه الحالة النفسية هي من جنس الأهواء التي قد تُضل الإنسان، كأن يسخط على شخص فلا يقبل ما عنده مما يأتيه منه من نصح وتذكير، أو حين يرفض أخطاء في مجتمعه أو سلوكيات معينة فيتجاوز ذلك إلى رفض تصورات وسلوكيات صحيحة في هذا المجتمع.
فأثر المقروء على كثيرٍ من الشباب أنه يغذي الحالة النفسية الساخطة فيكون سببًا لانحراف البعض منهم، ولو أن هذا المقروء وافق نفسية معتدلة متزنة لضعف أثره كثيرًا.
وتقابل هذه الحالة النفسية الساخطة على واقع المجتمعات المسلمة حالة الانبهار بالثقافة الغربية، والانكسار أمام طغيانها العسكري والمادي؛ ما يحدث زلزالًا في أبنية التفكير والاتزان في داخل الشخص.
هذه بعض العوامل المؤثرة في حالات الانحراف التي يقع فيها كثير من الشباب مع كل موجة فكرية معينة، فلكل موجة فكرية مزاج معين يتسبب في خلخلة تصورات وسلوكيات عدد من الشباب، وهذا لا ينفي دور القراءة المنحرفة في ذلك، إنما المقصد التأكيد على أمرين:
الأمر الأول: ضرورة النظرة الشمولية في فهم ظاهرة الانحراف، وعدم التركيز على دافع معين بما يحجب العين عن فهم المشكلة بشكل جيد.
الأمر الثاني: الاعتدال في تحديد دور الكتاب في الموضوع، فلا يبالغ في تقدير أثره بما يعيق عن معالجة إشكاليته، وربما يكون سببًا لمنع القراءة النافعة أو التزهيد من الاطلاع الإيجابي المثمر، أو الانفتاح الواعي على التجارب والخبرات النافعة.
:: مجلة البيان العدد 333 جمادى الأولى 1436هـ، فبراير - مارس 2015م.