• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أنماط التطبيع بين العرب والكيان الصهيوني وتداعياتها

أنماط التطبيع بين العرب والكيان الصهيوني وتداعياتها


 هناك مفارقة تثير الاستفزاز والمرارة في آن معاً؛ ففي الوقت الذي يكشر فيه الكيان الصهيوني عن أنيابه ويغرسها في جسد الأمة ويواصل تدنيس مقدساتها ومسرى نبيها صلى الله عليه وسلم، يتجه مزيد من الدول العربية لتطبيع علاقاته مع هذا الكيان، لدرجة أنه لأول مرة بات الساسة الصهاينة يتحدثون عن كثافة اللقاءات والاتصالات السرية التي تجرى على أعلى المستويات مع صنّاع القرار في العالم العربي. المفجع حقاً أن المسؤولين الصهاينة هم الذين باتوا يبدون زهداً في عقد اللقاءات مع المسؤولين العرب؛ لأنهم يريدون أن تخرج اللقاءات بين الجانبين من السر إلى العلن. ففي كلمته أمام طلاب من «مركز هرتسليا متعدد الاتجاهات»، الشهر الماضي، أنذر وزير الخارجية الصهيوني أفيغدور ليبرمان المسؤولين العرب الذين يلتقونه وزملاءه سراً، بأن تل أبيب لا يمكنها أن توافق على تواصل «الدبلوماسية السرية»، ودعاهم إلى التواصل علناً مع ممثلي الكيان الصهيوني. وبلهجة لا تخلو من الصلف والعنجهية، قال ليبرمان: «لقد شبعت قليلاً مع هذه اللقاءات، ويتوجب أن نتوقف عن الاتفاقيات السرية». وواصل ليبرمان تضييق الخناق على قادة الدول العربية، حيث أوضح أن ممثلي هذه الدول لا يسدون للكيان الصهيوني في الواقع معروفاً، بل إن العلاقات السرية مع تل أبيب تخدم أيضاً مصالح أنظمة الحكم في هذه الدول، بسبب تعدد مواطن التقاء مصالحهم مع تل أبيب. ولكي يدلل على ما ذهب إليه، أوضح ليبرمان أن لكل من الكيان الصهيوني والأنظمة العربية في العالم العربي، مصلحة في مواجهة الحركات «السنية المتطرفة». ومما لا شك فيه أن ما يلفت بشكل خاص في كلمة ليبرمان، تشديده على أن ممثلي الدول العربية الذين يهتمون بلقائه في الخفاء لا يرون في الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية مشكلة حقيقية، ومن ثم فهو يرى أنه بإمكان الكيان الصهيوني الاستعاضة حالياً عن المفاوضات مع ممثلي منظمة التحرير بمفاوضات مع ممثلي الدول العربية، تنتهي بـ «تسوية إقليمية» تقوم على تطبيع كامل للعلاقات بين الكيان الصهيوني وهذه الدول، وبعد ذلك يمكن مناقشة الصراع مع الفلسطينيين.

التطبيع السياسي يعزز اليمين الصهيوني

ومن الواضح أن الرسائل التي تضمّنتها كلمة ليبرمان موجهة في الأساس للرأي العام الصهيوني والرأي العام العالمي.. فللصهاينة يريد ليبرمان أن يقول إن تهافت ممثلي الدول العربية على اللقاءات السرية مع ممثلي الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ الكيان الصهيوني، يضفي صدقية على الخط الأيديولوجي والسياسي والدعائي لليمين الصهيوني المتطرف من الصراع مع الفلسطينيين. ومن الواضح أن ليبرمان يريد أن يقول للصهاينة إن مظاهر الدفء في العلاقات الخفية مع دول عربية في الوقت الذي يتوسع فيه الكيان الصهيوني في الاستيطان والتهويد ويصر على تبني سياسات متطرفة تجاه الفلسطينيين؛ تعكس العوائد الإيجابية للرهان على خيار القوة، الذي تتشبّث به حكومته. وفي الواقع أن زعم ليبرمان بأن المسؤولين العرب الذين يلتقيهم في الخفاء يؤكدون أن المشكلة الفلسطينية لا تهمهم، لا يمثل جديداً. فقد سبقه مالكوم هولنين، من قادة منظمة «أيباك» - كبرى منظومات اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، الذي ادّعى أن جميع القادة العرب الذين التقاهم أكدوا له أنهم «قد ضاقوا ذرعاً بالقضية الفلسطينية» (صحيفة هآرتس، 1 - 2 - 2014). لكن النخبة الصهيونية الحاكمة، التي يمثلها ليبرمان، تعد أن غير مبالاة النظام الرسمي العربي تجاه القضية الفلسطينية، أحد مظاهر التحول في البيئة الإقليمية، التي باتت تسمح للكيان الصهيوني بمواصلة استراتيجية تكريس الوقائع على الأرض بما يتماشى مع الخط الأيديولوجي لليمين الصهيوني المتطرف.. فتواصل اللقاءات السرية بين ممثلي دول عربية وإسرائيل، يعني أن حكومات هذه الدول لا ترى مشكلة في سلسلة مشاريع القوانين التي يعكف عليها نواب اليمين، وضمنهم نواب حزب «إسرائيل بيتنا»، الذي يقوده ليبرمان، والتي تهدف إلى تفعيل السيادة الصهيونية على المسجد الأقصى، وتقاسم مواعيد الصلاة فيه بين اليهود والمسلمين، وصولاً إلى نقل الإشراف على الحرم القدسي من دائرة الأوقاف إلى وزارة الأديان الإسرائيلية.

إن السلوك الرسمي العربي، كما يصوره ليبرمان، يدل على أن الدعوات التي يطلقها زملاء ليبرمان في الحكومة والكنيست لضم مناطق «ج» التي تمثل أكثر من 60 ٪ من الضفة الغربية للكيان الصهيوني؛ لا تثير حساسية النظام السياسي العربي، ومن ثم لا داعي للتردد في وضعها موضع التنفيذ. وفي الوقت ذاته، فإن ليبرمان من خلال حديثه غير المسبوق عن اللقاءات السرية مع ممثلي الدول العربية، يريد محاصرة الانتقادات الدولية لسياسات حكومته.. فليبرمان يقول في الواقع إنه لا يمكن للعالم أن يكون «ملكاً أكثر من الملك»؛ فإن كانت سياسات حكومته تجاه الفلسطينيين لا تؤثر سلباً في تواصل اللقاءات الحميمية مع ممثلي الدول العربية، فالأجدر ألا تثير حنق وغضب غيرهم. ومما يثير المرارة أن بعض نخب اليمين المتطرف في الكيان الصهيوني، وظف بالفعل ما كشف عنه ليبرمان من لقاءات مع ممثلي «الاعتدال» العربي في مهاجمة القوى التي تقف خلف حملة المقاطعة الدولية للكيان الصهيوني «BDS»، حيث اتهمت هذه القوى بـ «معاداة السامية».

إن ليبرمان الذي سمح لنفسه بتوبيخ قادة الدول العربية الذين يلتقونه واستبد به الصلف إلى حد التعبير عن زهده في مواصلة اللقاءات معهم؛ هو ذاته الذي دعا يوماً إلى تدمير السد العالي، وهدد بضرب غزة بالنووي، وهو الذي سخر مراراً من «بدائية» العرب. ويصفه المعلق الصهيوني بن كاسبيت بأنه الذي ارتبط أكثر من أي قائد إسرائيلي آخر بالتقليل من شأن العرب وتحقيرهم علناً واستسهال المس بهم.

التطبيع الأمني

وإلى جانب التطبيع السياسي، فإن هناك أنماطاً متعددة من التطبيع، على رأسها وأخطرها: التطبيع الأمني، حيث إن هناك العديد من أنماط التعاون الأمني بين الكيان الصهيوني وعدد من الدول العربية. وفي الوقت الذي يلوذ فيه الجانب العربي بالصمت، فإن الصهاينة يتحدثون ويكشفون عن خفايا التطبيع الأمني؛ فعلى سبيل المثال: يؤكد الصحافي الصهيوني آفي سيخاروف أن التعاون الأمني بين الكيان الصهيوني وكل من مصر والأردن لم يكن أفضل مما هو عليه الآن. وهناك أنماط تعاون أمني وتبادل معلومات استخبارية وتنسيق بين تل أبيب وعدد من الدول العربية.

التطبيع الاقتصادي

إن هناك العديد من أنماط التطبيع الاقتصادي، بعضها علني وبعضها الآخر سري؛ فعلى سبيل المثال: أعلنت مصر أنها ستعتمد الآن بشكل جزئي على الغاز الذي يستخرجه الكيان الصهيوني من البحر الأبيض المتوسط، مع العلم أن حقول الغاز الصهيونية تقع ضمن المياه الاقتصادية المصرية. وهناك تبادل تجاري نشط ومعلن بين الكيان الصهيوني والمغرب، لدرجة أن ممثلي الشركات الصهيونية يزورون الرباط بشكل دائم لمتابعة أعمالهم، حيث يستغلون رخص المواد الخام في المغرب. في الوقت ذاته، فإن يوئيل جوزينسكي، الباحث في «مركز أبحاث الأمن القومي» الصهيوني، يؤكد أن التبادل التجاري بين الكيان الصهيوني ودول الخليج تعاظم بشكل كبير خلال الأعوام الثلاثة الماضية، منوهاً بأنه يتم بشكل سري.

قصارى القول: التطبيع الصهيوني مع العالم العربي يتعاظم لدرجة دفعت القادة الصهاينة إلى كثير من الصلف والغرور، بحيث باتوا يوظفون التطبيع لتحقيق مكاسب سياسية داخلية وخارجية، في الوقت الذي يزداد فيه الكيان الصهيوني تطرفاً وفاشية.

:: مجلة البيان العدد  326 شوّال 1435هـ، أغسطس  2014م.

أعلى