• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
"سايكس - بيكو".. بين الاستمرار والانهيار

"سايكس - بيكو".. بين الاستمرار والانهيار

 

التطورات الأخيرة التي تمرّ بها المنطقة العربية من دعوات داخل إقليم كردستان لتقرير مصير الإقليم، إضافة إلى الأحداث في سورية وليبيا واليمن؛ كل تلك التبعات دعت كثيراً من المحللين للتفكير في إجابة السؤال الذي يطرح نفسه: هل انتهت حدود سايكس - بيكو؟ هل نحن أمام مرحلة جديدة يعاد فيها تشكيل حدود الشرق الأوسط من جديد؟

في عام 1916م وقّع السير مارك سايكس عن الجانب البريطاني، ومسيو جورج فرانسوا بيكو عن الجانب الفرنسي؛ معاهدة بموجبها قسَّمت بريطانيا وفرنسا المشرق العربي إلى خمس مناطق، هي: السواحل السورية واللبنانية وأُعطِيت لفرنسا، والعراق والخليج وأُعطِيا لبريطانيا. وتم الاتفاق على إنشاء إدارةٍ دوليَّة خاصة بفلسطين، لكن ثبت أنَّ التدويل كان مجرَّد خطوة أولى، تبعَتْها خطوة «وعد بلفور» 1917م، ثم الانتداب البريطاني فيما بعد. أمَّا المنطقتان الرابعة والخامسة فقد اتَّفقت بريطانيا وفرنسا على الاعتراف بدولة أو حلف دول عربيَّة مستقلَّة برئاسة رئيس عربي فيها، على أنْ يكون لفرنسا في إحدى المنطقتين (المنطقة الداخلية السورية) حق الأولويَّة في المشاريع والقُروض المحليَّة والانفراد بتقديم المستشارين والموظَّفين، وكذلك الأمر بالنسبة لبريطانيا في المنطقة الداخليَّة العراقيَّة. هذا هو مضمون الاتفاقية التي عرفت تاريخياً بمعاهدة سايكس - بيكو، ولم يعلم العرب والمسلمون بمضمون هذه المذكرة التي حددت مصير المشرق العربي بعيداً عن مشاركة أهله ومواطنيه؛ إلا بعد قيام الثورة البلشفية عام 1917م، وإعلان الحكومة السوفيتية بنود هذا الاتفاق لفضح القوى الاستعمارية ومشاركة قيصر روسيا قبل الثورة.

واليوم يرى بعضهم أن تلك الاتفاقية، وبعد مرور مائة عام عليها، لم تعد صالحة، وأن قوى دولية وإقليمية جديدة أصبحت لها مصالحها ورؤيتها المختلفة للمنطقة عن تلك القوى التي خطت المعاهدة القديمة، وأن هناك جملة من العوامل الخارجية والدولية تدفع لإسقاط حدود سايكس - بيكو وإحلال غيرها بدلاً عنها.

العامل الخارجي: حدود الدم

في بداية القرن العشرين أطلق الصحفي المشهور توماس فريدمان قولته المشهورة: «إنَّ الدول العربيَّة هي مجموعةٌ من القبائل بأعلامٍ مختلفة».

وفي تموز من عام 2006م نشرت مجلة القوات المسلحة «أرميد فورسز جورنال» (AFJ) الأمريكية، تقريراً تحت عنوان «حدود الدم: كيف يبدو الشرق الأوسط أفضل؟». التقرير رغم نشره على شكل مقال، إلا أنه دراسة استراتيجية محكمة حازت اهتماماً واسعاً في أمريكا والعالم.

ويتحدث كاتب الدراسة، رالف بيترز، وهو من مواليد عام 1952م، وعمل ضابطاً في الجيش الأمريكي حتى وصل لمنصب نائب رئيس هيئة الأركان للاستخبارات العسكرية الأمريكية في وزارة الدفاع؛ عن ضرورة إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وتقسيم دوله إلى دول أو دويلات جديدة.

كما دعا إلى «تصحيح الحدود الخاطئة» في الحوض الإسلامي واستبدالها بحدود أخرى «صحيحة» يسميها «حدود الدم».

وبحسب كاتب الدراسة التي وُصفت بـ «الأخطر استراتيجياً»، تعد حدود إفريقيا والشرق الأوسط «أكثر الحدود الدولية تحكميةً وعشوائيةً وتشوهاً وظلماً في العالم»، فـ «الحدود» الدولية الراهنة القائمة بين دول الشرق الأوسط وإفريقيا، بحسب واضع «خريطة حدود الدم»؛ هي السبب، لا بل هي كلّ المشكلة، في صناعة «الجمود الثقافي» و«اللا مساواة» و«اللا عدالة» و«التطرّف الديني» بين شعوب المنطقة.

ورغم ضعف هذه النظرية، التي تحيل كلّ مشاكل المنطقة إلى «الحدود»، إلا أنّ تنبؤ الكاتب بحلول «خريطة الدم» محل الخرائط القائمة في المنطقة، ولو بشكل جزئي؛ كان هو محل الاهتمام بشكل قوي[1].

وضع مثل تلك الخرائط ونشرها وإثارة النقاش حولها واهتمام الإعلام ومراكز الدراسات بتلك الرؤية الجديدة؛ جعل منها أحد الكوابيس الكبرى التي تخشاها معظم أنظمة العالم العربي والإسلامي، وأحياناً يصبح تضخيم المخاوف والاهتمام بها إحدى الركائز الأولية في تحقيق تلك المخاوف على أرض الواقع.

ويصبح هناك كمّ ضخم من الدلائل على صدقية تنفيذ تلك الرؤية على أرض الواقع، فيتم تحليل وتفسير أي حركة تغيّرية اجتماعية أو سياسية في اتجاه مرحلية تنفيذ خريطة الدم؛ فالثورات العربية عند بعضهم تم تحريكها من قبل الغرب تمهيداً لإحداث فوضى وصولاً لتنفيذ خريطة المنطقة الجديدة وتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ. وظهور أي حركة مسلحة في أي دولة عربية بصرف النظر عن الموقف السياسي منها، يصبح هو الآخر أحد الدلائل على تنفيذ خريطة الدم. كذلك ما يحدث في إقليم كردستان وما حدث في السودان؛ كل ذلك من خلال نظر بعضهم إحدى خطوات ومراحل خريطة الدم... وهكذا يتم تثبيت الخريطة في العقول قبل وقوعها على الأرض.

وهي أشبه بعملية انتحار يقوم بها شخص خوفاً من مؤامرة تستهدف قتله.

فالتهديد الحقيقي لنظام سايكسبيكو يأتي ممن يصرّون على إعادة تصوير مجتمعات المنطقة بأنها قبائل وطوائف وحركات لا بد لها من الانفصال. وهذا الأمر يدفعهم إلى قبول ترتيبات سياسية جديدة تتجاهل الحقائق الاجتماعية والاقتصادية، فتولد خاطئة وغير مستقرّة.

والذي يقرأ كمَّ المقالات العربية التي تحدثت عن خريطة رالف بيترز، يعلم مدى صدقية ما أقول، وأغلب الدراسات والمقالات العربية تتحدث بشكل مبالغ فيه عن المقدرة الأمريكية الكبيرة على التحكم في المشهد السياسي العربي والقدرة على تحريك كافة أوراقه. ولا يكاد صاحب دراسة يضع الخطوات العملية للخروج من تلك الأزمة إلا بسطر واحد أو سطرين يشير فيهما إلى ضرورة أخذ الحذر والحيطة.

العامل الداخلي: الدولة القومية ومؤشرات الإخفاق

في خضم ما يحدث في المنطقة العربية من العراق إلى مصر إلى ليبيا واليمن وسورية ولبنان، ليس في الإمكان بلورة ما يحدث في كل دولة على حدة بعيداً عن نظرة كلية شاملة، وأول تجليات تلك النظرة أن هناك حقيقة واضحة هي أن مطالب الشعوب التي خرجت في المنطقة العربية لم تكن فقط بسبب فقدان الحرية والكرامة الإنسانية، بل كانت بسبب إخفاق الدولة الإقليمية ذاتها في تأكيد دورها.

لقد بُنيت الدولة القومية في أوروبا منتصف القرن الثامن عشر، على أنقاض سلطة الإقطاع والكنيسة، وكانت أفكار الفيلسوف الألماني (هيغل) المرجعية الأساسية لها، وقد عدَّ هيغل أن الطبقة الجديدة الناهضة (البرجوازية) هي من يضطلع ببناء هذه الدولة المحكومة بكونها وريثة النظام الإقطاعي في حقوق الملكية (وسائل الإنتاج)، ومن ثم اشتراطات هذه الملكية التي تتطلب أسواقاً موحدة وآمنة، وتسهيلات في نقل منتجات وسائل الإنتاج الجديدة، وحزمة واسعة من القوانين لحمايتها وترسيخ دورها في المجتمع الجديد، وكانت تلك القوانين نقطة البداية في قطع الصلة بالماضي الفكري وتعاليمه، وقد حسم هذا الأمر الفيلسوف الألماني (نيتشه)[2].

أما في عالمنا الإسلامي والعربي فقد بُنيت حدود الدولة القطرية أو القومية على حدود مصطنعة أنشأها الاستعمار؛ لذلك فإنها لم تكن إفرازاً طبيعياً لحركة الشعوب بقدر ما كانت تسلطاً وقهراً وإذلالاً لها.

لقد نشأت الدولة القطرية عقب الاجتياح الاستعماري الغربي للعالم العربي والإسلامي، الذي فكك الإمبراطورية العثمانية، وعلى أرضية التوازنات الدولية الناشئة بعد تجزئة البلاد العربية وتقسيمها بموجب اتفاقية سايكس - بيكو.

إن صيرورة تشكل الدولة القطرية العربية الحديثة في علاقتها بالمجتمع المدني من جهة، وبالقوى الاجتماعية من جهة أخرى؛ لم تتم إلا من خلال ميراث الدولة الكولونيالية، التي تمثل الاستمرار التاريخي للدولة البيروقراطية الحديثة، التي ولدت في أعقاب الثورة الديمقراطية البرجوازية في الغرب.

وبعد مائة عام من سايكس - بيكو بدأت إرهاصات سقوط الدولة القطرية، وكانت آخر تجليات تلك الإرهاصات الثوراتُ العربية التي اجتاحات المنطقة، وكان ذلك مؤشراً على أن نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى وصل إلى نهاية الطريق.

أسباب إخفاق الدولة القومية:

نستطيع أن نقول إن فشل النخب المدنية والعسكرية الحاكمة، التي عجزت عن الاستجابة لآمال الشعوب والقيام بواجباتها التي يفترض بنظام الدولة الحديثة القيام بها؛ كان أول أسباب فشل الدولة القطرية؛ فلقد تراجعت الدولة عن توفير الخدمات العامة الحيوية، مثل: الصحة والتعليم، وغيرها من أشكال الرعاية الاجتماعية وشبكات الأمان، في خضمّ أشكال مشوّهة من التحرير الاقتصادي لم تصحبها عملية «تخفيف ضغط» سياسي موازية. وتسبّبت عملية الخصخصة الجشعة التي تمت في السنوات العشر التي سبقت بداية الربيع العربي؛ في اتّساع الفوارق بالدخل إلى مستويات غير مسبوقة حتى عهد قريب في منتصف تسعينيات القرن الماضي، ما جعل نسبة 20 - 40 في المائة من السكان في عديد من البلدان العربية عند أو تحت خط الفقر (أي بدخل للفرد يساوي 2 دولار يومياً)[3].

لقد بات واضحاً لدى عديد من المحللين أن سياسة التنمية بقيادة الدولة القطرية، سواء في برامج اشتراكية أو شبه اشتراكية؛ لم تحقق النتائج المرجوة منها.

والسؤال الآن: إن قُدّر لحدود سايكس - بيكو أن تسقط ففي أي اتجاه ستكون؟ في اتجاه تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم، أم في اتجاه صحوة شعوبية تهدم فيها تلك الحدود المصنّعة تحت هدير الشعوب الثائرة؟

في المنظور القريب قد لا تكون هناك رغبة دولية وإقليمية في إسقاط تلك الحدود، لكن لو قدر لحركة الشعوب أن تستكمل مسيرتها، فإن سقوط سايكس - بيكو سيكون محتماً في اتجاه مزيد من الوحدة والاندماج، وتأسيساً لشكل آخر ورؤية أخرى لنظام الدولة الذي ليس بالضرورة أن يكون امتداداً للدولة القومية الحديثة بتجلياتها الغربية.

 

:: مجلة البيان العدد  326 شوّال 1435هـ، أغسطس  2014م.


[1] هوشنك بروكا: «داعش» وخارطة «حدود الدم»:

http://www.elaph.com/Web/opinion/2014/6/914051.html

 [2] د. ذياب فهد الطائي، فشل الدولة القومية..المركب البنيوي.

[3] بشير نافع، تحول تاريخي: مشرق جديد يولد من تحت أنقاض القديم.

أعلى