الثورة الأوكرانية.. التجربة والدلالات
هناك
علامات فارقة في تاريخ الثورات الشعبية عبر العالم؛ فكما كانت الثورة الفرنسية ذات
دلالة تاريخية في حياة الشعوب الأوروبية، تأتي الثورة الأوكرانية لتضيف رصيداً آخر
لتجارب الشعوب في محاربة الفساد والاستبداد.
تعاقبت
على فرنسا ثلاث ثورات كانت أولاها عام 1789، وانتهت بالثورة الثالثة عام 1848؛ تقلبت فيها البلاد بين عديد من نظم الحكم؛ من الملكية ثم إلى الجمهورية،
مروراً بالإمبراطورية ثم إلى الملكية، وأخيراً الجمهورية مرة أخرى عبر ثورتهم
الثالثة عام 1848 التي اجتاحت معظم البلدان
الأوروبية. لكن الجديد والعجيب في
الثورة الأوكرانية أنها أعادت إلى المشهد في 2010 نفس الشخص الذي ثارت عليه في ثورتها البرتقالية
الأولى (2004)، ثم بعد ثلاث سنوات تثور
عليه مرة أخرى، وهو الرئيس المخلوع
(فيكتور
يانكوفيتش). من المعلوم أن الثورات قد
تفشل وقد ترجع النظم القديمة إلى الواجهة مرة أخرى، لكن أن يَرجع النظام القديم
بنفس الأشخاص دون تغيير هذا كان الأمر العجيب.
الثورة
الأوكرانية تجربة جديرة بالدراسة، ونقصد بالتجربة هنا حركة الشعوب وتفاعلاتها مع
الواقع السياسي، ولا نقصد بها تحليل الواقع السياسي الدولي.. وسنحاول أن نجيب عن السؤال التالي: ما دلالة تجدد الثورة الأوكرانية أو الاحتجاجات أو
الانتفاضة "سمّها ما شئت" في تاريخ الشعوب والأمم؟ وما الذي يمكن أن نرصده
من نتائج ودلالات من هذه التجربة؟
الثورة
البرتقالية 2004 كان التزوير المباشر والفساد وترهيب الناخبين وسوء الأحوال الاقتصادية،
إضافة إلى تطلع الناس للحرية؛ هي الدوافع التي دفعت الأوكرانيين للنزول إلى
الشوارع أواخر العام 2004، ولنا أن نلاحظ أن أوكرانيا
كانت تحت مظلة الحزب الشيوعي منذ العام 1919 حتى العام 1991 بعد انسحابها من الاتحاد
السوفيتي.
كانت
بداية الشرار مع رفض الأوكرانيين نتائج الدورة الانتخابية الحاسمة في 21 نوفمبر
2004 بين المرشحين البارزين:
فيكتور
يوشينكو وفيكتور يانكوفيتش.
وقد
تبنّى المتظاهرون اللون البرتقالي باعتباره اللون الرسمي للحركة منذ أن كان لون
الحملة الانتخابية للمرشح المعارض الرئيسي فيكتور يوشينكو.
تظاهر
الأوكرانيون يومياً في العاصمة كييف التي كانت مركز الثورة، حيث أقام مؤيدو
يوشينكو خيمة كبيرة في المدينة لمدة 24 ساعة، وقد تم تسليط الضوء على ذلك بسلسلة من المظاهرات والاعتصامات
والإضرابات العامة التي كانت تنظمها المعارضة في معظم أنحاء أوكرانيا.
وتحت
هذا الضغط من جانب المعارضة والشعب الأوكراني الذي رفض التزوير؛ تم إلغاء نتائج
الدورة الحاسمة الأصلية، وأمرت المحكمة في أوكرانيا بإقامة دورة ثانية حاسمة في 26 من ديسمبر 2004. وبسبب الرقابة الدولية المكثفة والتغطية الإعلامية، أثبتت النتائج الرسمية
للدورة الثانية الحاسمة أنها نزيهة وقانونية، وفاز مرشح المعارضة فيكتور يوشينكو
بصورة واضحة، وتم إعلانه الفائز الرسمي، وجرى تنصيبه في المكتب باعتباره الرئيس الثالث
لأوكرانيا بعد الانفصال عن الاتحاد السوفيتي، في 23 من يناير
2005.. إلى هنا اعتبرت الثورة البرتقالية أنها نجحت وحققت انتصارها الحاسم.
وإذا
حاولنا تحليل سمات الواقع السياسي في أوكرانيا الذي دفع الجماهير للنزول، لوجدنا:
السمة الأولى: نظام سياسي استبدادي قمعي لا
يقبل المعارضة، إلا تلك المعارضة الصورية المدجنة، التي الهدف منها خداع الجماهير
وتسويق صورة غير حقيقية أمام العالم بأن هناك حرية وتعددية ومشاركة حقيقية في
القرار السياسي.
السمة الثانية: تسلُّط مجموعة من وجوه هذا
النظام القديم الممجوجة والمرفوضة من قطاع كبير من الجماهير، ويكون تجاههم وتجاه
سياستهم رفض عام من الشعب، وهو الأمر الذي أعقبه شعور الناس بالحاجة إلى تغيير هذه
الوجوه وهذه السياسات.
السمة الثالثة: وجود مجتمع مدني قوي؛ فقد
لعبت منظمات المجتمع المدني دوراً رئيساً في ثورة أوكرانيا 2004، إضافة إلى أن الإعلام الخاص ووسائل الاتصال الاجتماعي
أسهم إلى حد كبير في كشف الفساد وتتبّع عمليات تزوير الانتخابات وفضح الأنظمة
التسلطية، إلى جانب القوى المعارضة التي أصبحت دون دور حقيقي، وبالتالي تسعى
للتوحّد في ظل نظام غاشم لا يسمح بالحرية.
السمة الرابعة: وقوف قوات الجيش والأمن على
الحياد ورفض الانخراط بشكل علني وكلي في قتل المتظاهرين، سواء ذلك عن قناعة ذاتية
أو بدافع المصلحة.
نجاح
الثورة المضادة 2010
بعد
خمس سنوات من ثورة 2004، عاد فيكتور يانكوفيتش مرة
أخرى إلى السلطة، وأطاح الناخبون الأوكرانيون بزعيم الثورة فيكتور يوشينكو ومن
بعده شريكته يوليا تيموشينكو، وتخرج كبرى وسائل الإعلام في العالم بعناوين متشابهة
مفادها «الموت الحزين للثورة
البرتقالية»؛ فقد جاءت نتائج الانتخابات
في صالح النظام القديم والثورة المضادة، حتى إن لم يكن الفارق كبيراً، فقد كانت
نتائج الانتخابات معبّرة عن ضيق الناس من يوشينكو؛ فقد أظهرت نتائج الدورة الأولى
نسبة متدنية له (5٫33 ٪)، ويوليا تيموشينكو رئيس
الوزراء في عهده نحو (25 ٪)، وحصل فيكتور يانكوفيتش على نحو (35٫5
٪) من أصوات الناخبين، فأعيدت الانتخابات في الدورة الثانية
بين أكثر اثنين، فنجح يانكوفيتش بنحو (49 ٪) بفارق (3 ٪)
عن
يوليا تيموشينكو، التي حصلت على
(46 ٪).. وهكذا عاد النظام القديم
برجله فيكتور يانكوفيتش إلى السلطة، وهو رابع رئيس للبلاد.
- لعبت القوى الخارجية دوراً
كبيراً في عودة يانكوفيتش، فحين غرقت أمريكا وأوروبا في أزمتها الاقتصادية وبدأت
روسيا تستقر سياسياً واقتصادياً إلى حد ما؛ كان هذا الظرف مواتياً لروسيا لتعويق
الحكم الجديد في أوكرانيا بعد الثورة البرتقالية، وبخاصة اقتصادياً عن طريق الغاز،
وهي مطمئنة بانشغال أمريكا وأوروبا بأزماتها. وبذلت روسيا جهداً كبيراً في توتير الأوضاع الداخلية ضد
حكم يوشينكو، وبخاصة في المناطق الشرقية من أوكرانيا وبعض المناطق الأخرى الموالية
لها في أوكرانيا. بدأت روسيا بالمساومة على
رفع أسعار الغاز أو منعه بحجة عدم دفع أوكرانيا مستحقات روسيا، وصار الغاز الروسي
سلاحاً مؤثراً موجَّهاً إلى النظام الجديد، وارتفعت الأسعار، وشعر الناس بالضيق،
حتى إذا جاءت انتخابات
2010 كان جمهور كبير إلى حد ما من الناس في أوكرانيا يشعر بالإحباط، فكانت نتيجة
الانتخابات في صالح روسيا والنظام القديم، فقد عاد يانكوفيتش للحكم.
دعمت
روسيا النظام القديم العائد إلى السلطة في أوكرانيا، وقام يانكوفيتش بتوقيع عديد
من الاتفاقيات مع موسكو في مجال الطاقة، ووطّد التعاون الاقتصادي فيما بينهما،
وتطورت العلاقات في مجالات الصحافة والنشر والتعليم واللغة والثقافة. وقد أشار يانكوفيتش إلى إمكانية إجراء اتفاقية جديدة
تتعلق بأسطول البحر الأسود الروسي مقابل خفض أسعار الغاز الطبيعي، وهذا ما تم
لاحقاً.
- كما كان للقوى الخارجية دور
في إسقاط الثورة الأوكرانية.
كان
لنفوذ الدول العميقة دور أيضاً في إسقاط النظام الجديد. فكرة الدولة العميقة مشابهة لفكرة ”دولة داخل الدولة“.. فالأجندة السياسية للدولة العميقة هي المحافظة على
السلطة والنظام القائم، بحيث تعمل دوماً من وراء ستار لضمان هيمنتها على أجهزة
الدولة الأمنية والإدارية.
وسائل
الدولة العميقة لا تتوقف عند العنف، بل تستخدم كل وسائل الضغط الأخرى للتأثير في
النخب السياسية والاقتصادية لضمان تحقق مصالح معيّنة ضمن الإطار الديمقراطي
ظاهرياً لخريطة القوى السياسية.
وتحرك
قيادة الدولة العميقة شبكة تابعة خفية تشكّل جسم الهرم الغاطس، وتتكوّن من رجال
أعمال وبعض البيروقراطيين والمثقفين والإعلاميين والفنانين والرياضيين، الذين
يقومون «بالتخديم» على رغبات الدولة العميقة، في العادة مقابل منافع سياسية
واقتصادية واجتماعية.
تعادي
الدولة العميقة بطبيعة تكوينها فكرة الثورات الشعبية، وتعدها أخطر أعدائها، حيث من
المؤكد أن تحرص الثورة على الإنهاء الكامل والسريع، وربما العنيف، للوضعية الخاصة
بهذه النخبة من الشبكات غير المعلنة بروافدها العلنية والسرية وتفكيك مفاصلها
والقضاء على مصالحها الواسعة..
ومن
ثم، فمن المفهوم أن تسعى الدولة العميقة للقضاء على الثورة بكل السبل الممكنة.
لقد
وصلت الدولة العميقة إلى يوشينكو نفسه، وجرى تسميمه بالديوكسين، وحتى الآن لم يتم
الكشف عن تفاصيل محاولة الاغتيال ولا مَن وراءها، ولم تجرَ محاكمة لمن وقفوا وراء
تلك الحادثة التي ترتكت ظلالها الخطيرة على صحة الرئيس الثالث لأوكرانيا[1].
ومع
هذين العاملين المؤثرين فقد كان لقوى الثورة دور أيضاً في فشل الموجة الثورية
الأولى؛ فقد عجزت الحكومة البرتقالية عن مواجهة الفساد، فقد وجد يوشينكو نفسه أمام
تراث من النهب حوّل أوكرانيا إلى ضيعات خاصة لشريحة رجال الأعمال المحترفين
المنتهزين للمناصب السياسية.
لم
يكن أمام يوشينكو سوى خيارين:
أن
يضرب بقبضة من حديد ويمارس الاعتقال والنفي والتصفية السياسية، وهنا يفقد الرسالة
التي جاء بها وهي الديمقراطية والحرية والتغيير السلمي؛ أو أن يمضي في الخيار
الثاني ويعمل على تحسين الأوضاع بالتدريج، فيحافظ على شخصية الإصلاحي المستنير
والرئيس الليبرالي الممدوح من الغرب.. غير أن الزمن سرقه وضاعت خمس سنوات وبلاده في قبضة المنتفعين فعلياً وتحت
رئاسته صوريّاً.
يمكننا
إذن فهم ثبات مؤشرات الفساد في أوكرانيا، فتقرير الشفافية الدولية لعام 2009 وضع أوكرانيا في المرتبة 146 (من بين 180 دولة) حين أعطاها 2٫2
درجة (من إجمالي عشر درجات للشفافية الكاملة)، وهي نفس الدرجة التي حصلت عليها في العام 2004 قبل قيام الثورة البرتقالية.
إلى
جانب هذا، فقد انهارت ثقة الشعب بحكومته بسبب نزاع شركاء الثورة؛ ففي الوقت الذي
أرجع فيه شركاء الرئيس الأوكراني فشل الثورة إلى ضعف شخصية الرئيس، اتهم يوشينكو
من جانبه شريكته رئيسة وزراء بلاده يوليا تيموشينكو بأنها سبب الفشل الاقتصادي في
السنوات الخمس الأخيرة، وذلك بعد أن اتهمها سلفاً بخيانة مبادئ الثورة حين تحوّلت
فجأة إلى التصالح مع روسيا والتودد إلى فلاديمير بوتين.
على
هذا النحو رأى المتابعون للشأن الأوكراني أن الأوكرانيين لم يعد بمقدورهم تمييز
الثوار الحقيقيين عن أولئك الذين ركبوا الثورة أو خانوا مبادئها، فالألوان صارت في
أوكرانيا رمادية وليست برتقالية.
ثورة
أوكرانيا 2014:
بدأت
الشرارة الأولى لثورة أوكرانيا الثانية في 18 فبراير
2014 عندما امتنع الرئيس الأوكراني عن عقد اتفاقية تجارية مع أوروبا، وتحوّلت
هذه الاحتجاجات إلى مظاهرة عارمة في العاصمة كييف عندما تقدم أكثر من 20 ألفاً من المحتجين إلى محيط البرلمان الأوكراني لدعم عدد
من المطالب، منها: استعادة دستور أوكرانيا إلى
شكله عام 2004 الذي كان قد ألغي من قبل
المحكمة الدستورية بعد فترة وجيزة من انتخاب فيكتور يانكوفيتش رئيساً في العام 2010. وقد سدت الشرطة الطريق أمامهم، وتحولت المواجهة
إلى مواجهات عنيفة أطلقت الشرطة خلالها الرصاص المطاطي، وبعد ذلك الذخيرة الحية
والأسلحة الآلية وبنادق القنص، واقتحمت مخيم الاحتجاج الرئيسي في الميدان، وسقط
العديد من القتلى.
تبلورت
مطالب المعارضة الأوكرانية في إسقاط الرئيس يانكوفيتش والإفراج عن كل المعتقلين،
ومنهم يولا تيموشينكو، رئيسة الوزراء السابقة المناهضة لحكومة الرئيس الروسي
فلاديمير بوتين، وإسقاط الحكومة الموالية لروسيا.
ورغم
غموض الموقف في أوكرانيا إلى وقت كتابة المقال، لكن يبدو أن الأمور تسير في صالح
المحتجين الذين نجحوا في إقصاء الرئيس الذي فرّ إلى روسيا، ويعي المتظاهرون اليوم
أن عليهم ألا يقعوا في نفس أخطاء ثورتهم عام 2004.
الخاتمة
- الحقيقة الواضحة التي تؤكدها
الثورة الأوكرانية بسنيها العشر، أن الشعوب في النهاية هي التي تنتصر، فقوى الفساد
وأدوات الدولة العميقة كلها عوامل تعويق، لكنها ليست هي الأساس في حركة الشعوب. والعجيب أن دوائر الفساد والنظم القديمة لا تستفيد أبداً
من تجربتها؛ ففي فرنسا ثار الناس على آل البربون، ثم رجعوا إليهم مرة أخرى بعد عشر
سنوات، وعاد آل البربون إلى نفس ممارساتهم التعسفية، فثار الناس عليهم مرة أخرى، وعندما
عاد يانكوفيتش في أوكرانيا عاد معه القمع والفساد، حتى إنه سجن منافسته في
الانتخابات (يوليا تيموشينكو) بعد فوزه عليها، فشعر الناس أن الأسباب التي خرجوا من
أجلها في العام 2004 عادت للواجهة مع عودة
يانكوفيتش. إن آلة القمع في أوكرانيا
ذات التراث الشيوعي العتيد الذي امتاز بقدرته على قمع خصومه والتنكيل بهم؛ لم
تنجح، ولا يمكن أن تنجح أو تحمي نظاماً من السقوط، فكلما زادت قسوة القمع زادت
ضراوة المقاومة وفقد النظام شعبيته.
- لا نستطيع أن ننكر أن هناك نزاعاً دولياً حول
أوكرانيا، وأن موقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة كان مؤثراً، وكذلك الموقف
الروسي الذي دخل إلى الساحة الأوكرانية بنفوذه الناعم والخشن عبر الثقافة الروسية
وامتداداتها في أوكرانيا وملياراتها التي دعم بها وجوه الأحزاب الشيوعية القديمة،
فالحقيقة الواضحة الثانية أن كلا القوتين ما كانتا لتحسم الأمور لولا الأوكرانيين،
الذين هم الفاعل الأول والأساس الذي حسم الموقف.
::
مجلة البيان العدد 322 جمادى الآخرة 1435هـ،
إبريل 2014م.
[1] تقرير طبي يؤكد تعرض يوشينكو للتسمم
بمادة الديوكسين:
http://www.aljazeera.net/news/pages/f9192431-cf02-4ff1-bb6e-dee213bc7186.