فتنة الخوارج في المغرب وأثرها على الفتوحات
«لولا ثورة البربر على العرب ما كان
أمكن شارل مارتل أن يضم جنوبي فرنسا إلى مملكته ويخلص بروفانس ولا نغدوق وسبتمانيا
من أيدي المسلمين».. الأمير شكيب أرسلان
أولاً: أثر معركة البلاط على سير الفتوح في
غالة
رغم ما يقال دائماً من أن معركة
«بلاط الشهداء» التي استشهد فيها القائد عبد الرحمن الغافقي فيمن استشهد من أبطال
المسلمين، في سهول تور وبواتية في وسط فرنسا، في رمضان سنة 114هـ/ 732م؛ كانت
علامة على أن موجة الفتوح الإسلامية في غربي دولة الخلافة، التي بدأت باليرموك سنة
13هـ، وسارت عبر مصر وشمال إفريقيا وإسبانيا؛ قد بلغت غايتها، واستنفدت قوتها؛ إلا
أن هذه المعركة الشهيرة - في حقيقة الأمر - لم تكن خاتمة المطاف في نشاط المسلمين
الجهادي، وراء جبال ألبرت، في عهد الولاة في الأندلس.. هذا العهد الذي اتسم بالنشاط
العالي في هذا الميدان[1]،
رغم ما تخلله من فتن واضطرابات. ورغم مبالغة المؤرخين الغربيين في قيمة الانتصار
الذي أحرزه شارل مارتل في هذه المعركة، وزعمهم أنه حمى غرب أوروبا من غزو المسلمين
وسيطرتهم، وليس فرنسا فحسب؛ فإن نظرة دقيقة إلى الحوادث التي تلت معركة البلاط،
تثبت لنا أن ما جرى بعد هذه المعركة يخالف ذلك جملة وتفضيلاً.. فما ترتب على معركة
بلاط الشهداء - حقيقة - هو تحول ميادين المعارك بين المسلمين والفرنجة من سهول تور
وبواتية وحوض نهر الجارون في الوسط والقلب، إلى ضفاف نهري أود والرون في جنوب
وجنوب شرقي فرنسا. فالمسلمون لم يلبثوا أن عادوا في العام التالي إلى تهديد آرل
وأفينيون وغيرهما من المدن، وبخاصة في إقليم بروفانس[2]. وقد استعاد جهاد المسلمين في
فرنسا زخمه مع تعيين عقبة بن الحجاج السلولي والياً على الأندلس في شوال سنة
116هـ، واستمر لفترة من الوقت تجاوزت ثماني سنوات بعد معركة البلاط. فكان هذا
الجزء المهم من فرنسا خلال هذه السنوات - بالتالي - مسرحاً لعديد من المعارك بين
المسلمين والفرنجة. وحتى إن كانت هذه المعارك أموراً محلية ولم تكن تتمة لموجة
الفتوحات السابقة، إلا أن هذا لا يقلل من أهمية هذه الفتوحات وما تخللها من معارك،
علماً أن بعض هذه المعارك لم تكن تقل في شدتها وعنفها وضراوتها عن معركة بلاط
الشهداء، الأمر الذي يعني - فيما يعني - أن انتصار الفرنجة في تور وبواتية لم يكن
بتلك الأهمية التي يتشدق بها المؤرخون الغربيون. وفي حقيقة الأمر أنّ الانتصار
الذي حققه شارل مارتل في معركة البلاط تم توظيفه على مدى القرون 13 الماضية في
مجال الدعاية السلبية ضد الإسلام والفتوحات، ولأغراض تعبئة المجتمعات الغربية
عقدياً، وتحصينها فكرياً من الإسلام، وتحريضها ضده، وتنفيرها منه، وإقامة جدار
نفسي ومعنوي عال وسميك يحجزه عنها، ويحجزها عنه، ويحول دون محاولتها فهمه ودراسته،
دراسة موضوعية وبعقلية منفتحة، من دون عقد ولا عاهات مزمنة.
ثانياً: عقبة بن الحجاج يجدد الفتوحات في
غالة
وقد كان عقبة بن الحجاج هذا
«مجاهداً مظفراً»[3]، «من طراز الغافقي (والسمح
وعنبسة)، تقوى وحباً للجهاد وشجاعة وعزيمة وحسن سيرة وعدلاً[4]»، وقد اختار الأندلس لأنه يحب
الجهاد، ولأنها موضع جهاد[5]؛
لذلك قرر العبور بنفسه لتولي الفتوح فيما وراء جبال ألبرت، أي في فرنسا، وذلك بعد
أن كان قد قضى فترة من الوقت في تنظيم أمور الأندلس، وتطهير مناطق جبال ألبرت من
بقايا فلول القوط، التي اعتصمت بمرتفعات جبال جليقية الوعرة والمجدبة، وبفتح
المناطق التي ظلت مستعصية على المسلمين في تلك المنطقة. وقبل عبوره جبال ألبرت إلى
جنوب فرنسا، كان عقبة قد «افتتح جلِّيقية وألبة وبنبلونة، ولم يتبق في جليقية قرية
لم تفتح غير الصخرة، التي لاذ بها بلاي[6]». وبعد ذلك استقر عقبة في أربونة
وأسكنها المسلمين، وذلك في ربيع سنة120هـ/ 738م. وبعد نجاحه في إعادة هيبة
المسلمين في سبتمانيا إلى مكانتها، شرع في استرداد ما انتزعه شارل مارتل من
القواعد من المسلمين بعد هزيمتهم في معركة البلاط، وكان عقد العزم على أن يعيد عهد
الجهاد والفتوحات العظيمة. وهكذا عبر عقبة على رأس جيشه نهر الرون، واستعاد آرل
للمرة الثالثة أو الرابعة، نظراً لأهمية موقعها عند مصب نهر الرون شمالي مرسيليا،
لضمان حرية التحرك شمالاً من جهة، ولتأمين وصول أي قوات من الأندلس إلى شاطئ
البروفانس عن طريق البحر من جهة أخرى. كما «تمكن من استعادة أفنيون والعديد من
المعاقل الأخرى، وجعلوا من أفنيون رباطاً لهم»[7]، «وأصبحوا بذلك أسياداً على ضفتي
نهر الرون من مصبه حتى مدينة ليون»[8]. ويذكر المؤرخ المعاصر الدكتور حسين مؤنس أن عقبة بن
الحجاج أعاد فتح إقليم بورجونيا كله، واستولى على ليون من جديد، وأن جناح المسلمين
الشرقي امتد في إقليم دوفينيه حتى وصل إلى بيدمنت في شمالي إيطاليا، وبدا أن
المسلمين مستعيدون مراكزهم كلها في غالة عن قريب[9]. وقد أبدى عقبة أثناء فتوحاته في
غالة اهتماماً كبيراً بدعوة الناس إلى الإسلام، تحقيقاً للغاية من هذه الفتوحات،
«فكان صاحب جهاد ورباط، وذا نجدة وبأس ورغبة في نكاية المشركين، وكان إذا أسر
الأسير لم يقتله حتى يعرض عليه الإسلام حيناً، ويرغبه فيه، ويبصره بفضله، ويبيّن
له عيوب دينه الذي هو عليه، فيذكر المؤرخون أنه أسلم على يديه ألفا رجل، وكان قد اتخذ
بالأندلس مقراً مدينة يقال لها أربونة[10]». وقد ساعد عقبة على القيام بهذا
الجهد حالة الاستقرار التي كانت تسود الأندلس، إذ إنه حتى ذلك الوقت لم تكن وصلت
إليها الخلافات [التي شهدتها المشرق]، وكان المجاهدون فيها بعيدين عن التناحر.
لكنه لم يلبث أن دخل إليهم[11]. ففي غضون ذلك، وتحديداً في سنة 122هـ، هبّت من المغرب عاصفة هوجاء مزلزلة
لم تكن بحسبان المسلمين في الأندلس، فصرفوا لمواجهتها جل جهدهم، وصارت هي الشغل
الشاغل لهم، فحالت بالتالي بين عقبة وتحقيق حلمه في تجديد الفتوح في غالة، بل بين
البقاء في أربونة، كما كانت السبب الأساسي لاندلاع الحروب الأهلية بين العرب
والأندلس. وكانت هذه العاصفة الهوجاء بداية النهاية لوجود المسلمين في غالة، وليس
هزيمة المسلمين في معركة بلاط الشهداء كما هو شائع ومتداول على نطاق واسع. فما
الذي حدث يا ترى؟
ثالثاً: ثورة خوارج البربر في المغرب
وتداعياتها
فبينما كان عقبة بن الحجاج يجتهد
لتثبيت وجود المسلمين في غالة، ويجدد الفتوح في هذه البلاد؛ اندلعت ثورة الخوارج
في المغرب، والتي تولى كبر الدعوة إليها خوارج عرب موتورون قدموا من العراق بعد
سحق ثوراتهم فيها، مستغلين حالة الاستياء التي كانت سائدة لدى بعض قبائل البربر
التي اندسوا فيها لتحريضهم ضد الخلفاء الأمويين، باعتبار أن أخطاء وتجاوزات ولاتهم
هي من صنع أولئك الخلفاء، وأنهم راضون بها، مقدمين فكرهم الهدام على أنه الفكر
الذي يحقق العدالة والمساواة اللتين حرمهم منهما الخلفاء الأمويون، وغير ذلك من الأمور
التي تدغدغ العواطف وتزين الخروج على الجماعة، حتى حققوا غايتهم في نهاية المطاف،
وتحديداً سنة 122هـ، وهو العام الذي انفجرت فيه هذه الثورة بصورة شاملة. والمؤرخون
المعاصرون عندما يتحدثون عن هذه الفتنة يغيّبون بُعدها الفكري - العقائدي أو
يجعلونه ثانوياً، ويعتبرونها ثورة قومية قام بها البربر ضد العرب، ملقين باللائمة
في ذلك على أم رأس الدولة الأموية التي يزعمون أن سياستها كانت «تقوم على مبدأ
سيادة الجنس العربي وتفضيله على من سواه من الأجناس الأخرى[12]»، متغافلين كون ذلك البعد الفكري –
العقائدي هو الدافع الأساسي لفتح باب الفتنة على مصراعيه، وهي الفتنة التي دفع
المسلمون ثمنها غالياً في المشرق قبل المغرب، ومتغافلين أيضاً كون الخوارج بسبب
هذا الفكر (المتطرف) وادّعاء امتلاك الحقيقة، قد خرجوا على علي بن أبي طالب، رابع
الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، في بداية أمرهم. وقد رد صاحب «أخبار مجموعة»
على من زعم أن سبب هذه الثورة هو سياسة بني أمية وسوء سيرتهم وسير عمالهم، فقال:
«وقد يقول من يطعن على الأئمة أنهم إنما خرجوا ضيقاً من سير عمالهم... فإن كانوا
صدقوا فما بال التحكيم فشا فيهم، ورفع المصاحف، وحلق الرؤوس، اقتداء بالأزارقة
وأهل النهروان»[13]. فكانت هذه الثورة المشؤومة -
بالتالي - هي الضربة القاضية للوجود الإسلامي في جنوب فرنسا، والسبب الرئيسي
لاندلاع الحروب الأهلية الطاحنة بين المسلمين في الأندلس بعد ذلك؛ كالحروب بين
العرب والبربر، ثم بين الشاميين والبلديين، ثم بين القيسيين واليمنيين، وكل هذه
الحروب كانت على حساب وجود الإسلام في غالة، بل على حساب وجود الإسلام في شمال شبه
جزيرة الأندلس ذاتها. والأخطر من ذلك والأشد هولاً منه أن هذه الثورة العنيفة
المزلزلة هددت وجود الإسلام كدين في غرب دولة الخلافة الأموية كله، وتطلب القضاء
عليها استنزاف موارد دولة الخلافة، البشرية والمادية، ليس في المغرب والأندلس
فحسب، وإنما في مصر والشام أيضاً، فقد استشهد فيها عشرات الآلاف من خيرة أجناد
الشام الذين كانوا بمنزلة القوات الخاصة للدولة الأموية، وكانوا سر قوتها وتوطد
أركانها، واستشهد فيها أيضاً أضعاف أضعافهم من أجناد المغرب وأجناد مصر، بمن فيهم
المئات من التابعين، ومثلهم من أشراف العرب، الذين كانوا في الصفوف الأولى أثناء
المعارك الحاسمة ضد الخوارج، واستغرقت القسم الأكبر من جهود الخليفة هشام بن عبد
الملك في الثلاث السنوات الأخيرة من خلافته، والذي اضطر خلالها إلى أن يوجه الجيش
تلو الجيش من الشام إلى المغرب، وأن ينفق الأموال الباهظة عليها لإنهاء هذه
الثورة، بدلاً من توجيه هذه الجيوش لغزو الروم، طبقاً لسياسة الصوائف والشواتي
التي رسمها أسلافه، والتي كان هو نفسه مستمراً فيها حتى هذا الوقت. وقبل ذلك كانت
هذه الثورة قد اضطرت والي المغرب عبيد الله بن الحبحاب إلى سحب الجيش الذي كان قد
بعث به لفتح جزيرة صقلية وجنوبي إيطاليا بقيادة القائد المظفر حبيب بن أبي عبيدة،
حفيد القائد الكبير عقبة بن نافع، في وقتٍ كان فيه هذا الجيش يوشك أن يطهر جزيرة
صقلية من البيزنطيين، وكانت نتيجة هذا الانسحاب - بالتالي - تأخير فتح هذه الجزيرة
لأكثر من تسعين عاماً[14]. كما يمكن القول أيضاً إن هذه الثورة أدت إلى غض النظر نهائياً عن مشروع
فتح إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، والتي كانت تعرف إذ ذاك ببلاد السودان، والتي
كانت قد تعرضت لإحدى الحملات في وقتٍ سابق، وهذا بدوره أدى إلى تأخير فتح هذه
البلدان حتى القرن الخامس الهجري، أي إلى أيام دولة المرابطين اللمتونيين. ولهذه
الثورة تفاصيل مروعة أليمة تنخلع لها القلوب والأكباد، فيا لله ويا للخوارج وما
جروه على الإسلام والمسلمين من كوارث وويلات ومصائب، وما أهدروه من إمكانيات كانت
تكفي لفتح أوروبا كلها لو وجهت إليها! وأخبار هذه الثورة وما ترتب عليها من نتائج
وخيمة، وما لعبته من دور في تعويق الجهاد والفتوحات؛ يحتاج إلى مجلد، وقد نأتي على
دراسة بعض جوانبها في مقالات لاحقة إن شاء الله. ويهمنا ها هنا معرفة تأثير هذه
الثورة على وضع المسلمين في جنوب فرنسا، وهو ما سنتحدث عنه في الفقرة التالية.
رابعاً: أثر هذه الثورة على الوضع في غالة
فمع اندلاع هذه الثورة اضطر عقبة بن
الحجاج، أمير الأندلس وقائد جيش الإسلام في جنوب فرنسا، إلى أن يترك كل شيء على ما
هو عليه في غالة، وأن يعود بالجيش إلى قرطبة للتصدي لثورة خوارج البربر، الذين
استولوا على طنجة في شمال المغرب الأقصى عام 122هـ، مستغلين وجود جيش المغرب للغزو
في صقلية، وذلك تنفيذاً لأوامر عبيد الله بن الحبحاب، أمير إفريقيا والمغرب كله،
بما فيه الأندلس، إذ ذاك[15]. وبعد عودة عقبة بن الحجاج بالقسم الأكبر من الجيش من جنوب فرنسا إلى
قرطبة، وانشغاله - من ثم - بالتصدي لثورة الخوارج في المغرب الأقصى لتخفيف الضغط
على جيش الخلافة، الذي كان يترنح تحت ضربات الخوارج العنيفة؛ تحرّك شارل مارتل،
قائد قوات الفرنجة سنة 739م/ 122هـ، على رأس جيش ضخم لغزو بروفانس ووادي الرون
وتطهير جنوب شرقي فرنسا من المسلمين، ولذلك فقد استنفر أيضاً طاقات صهره وحليفه
لوتبراند، ملك اللومبارديين (الأنكبردة) في شمال إيطاليا، فتحرك لوتبراند بدوره
لغزو بروفانس المتاخمة لبلاده، فحاصرها براً وبحراً؛ براً من جهة الغرب، وبحراً من
جهة الجنوب، بعد أن كان جيش شارل قد حاصرها من جهة الشمال والشرق؛ وذلك لتضييق
الخناق على القوات الإسلامية المتواجدة فيها، لمساعدة قوات مورونتوس، دوق مرسيليا،
الذي كان حليفاً للمسلمين. وذهبت كل جهود هذا الدوق في المقاومة سدى، ومُزَّقت
قواته شر ممزق، وطارده الفرنج في شعاب الجبال، ففر ناجياً بحياته، واستولى الفرنج
على أراضيه، وعلى رأسها مرسيليا، قاعدة دوقيته، وترك شارل مارتل فيها حامية من
قواته[16]، ثم زحف بعد ذلك على أربونة، أهم
قاعدة للمسلمين في غالة، والتي كانت قد انسحبت إليها حاميات المسلمين من بروفانس
ووادي الرون، وقام بحصارها للمرة الثانية، واشتركت في الحصار قوات بحرية تابعة
لحليفه ملك اللومبارد، نظراً لافتقار الفرنجة لهذا السلاح[17]. بيد أن القوات الإسلامية المتحصنة
في المدينة دافعت عن نفسها بشراسة، وصمدت أمام هجمات شارل العنيفة، ولم يدرك الفرنجة
منها على طول الحصار منالاً، وأحبطت كل محاولاتهم التي استهدفت ما لديها من
تحصينات قوية[18]. ولما عجز شارل مارتل عن اقتحام
أربونة، ارتدّ إلى مهاجمة المعاقل الإسلامية الأخرى في سبتمانيا، فاستولى على
بزييه وأجدة وماجلونة، وصب جام غضبه عليها، وعلى أهلها، نظراً لتعلقهم بالمسلمين
ولموقفهم غير الودي من الفرنجة، وبعد ذلك عاد إلى الشمال وبصحبته عدد من الأسرى
المسلمين وكبار الغاليين، واحتفظ بهم كرهائن حتى يرغم أهل سبتمانيا على خذلان
المسلمين. ولم يبقَ للمسلمين سوى أربونة ورقعة ضيقة من الأرض على الشاطئ بين أربونة
وجبال ألبرت، ظلوا معتصمين فيها حيناً من الزمن. «وهكذا تمكن شارل مارتيل، في غياب
عقبة في إفريقيا لإدخال البربر في الطاعة، من أن يخضد شوكة العرب في جنوبي فرنسا[19]» كما قال المستشرق الفرنسي رينو.
ومات شارل مارتل بعد عودته من هذه الحملة بقليل، وذلك في أكتوبر 741م/ 123هـ،
وأربونة ثغرة في دولته الشاسعة، وحل محله في رئاسة البلاط ابنه ببين القصير، الذي
انتهج سياسة والده والمتمثلة في استئصال المسلمين وإخراجهم نهائياً من بلاد غالة.
وفي هذا العام أيضاً مات عقبة بن الحجاج، الذي كان خاتمة ولاة الأندلس الذين قاموا
بالجهاد وراء ألبرت[20].
خامساً: انتقال الفتنة إلى الأندلس وتورط
جيش أربونة فيها
ذكرت سابقاً أن ثورة خوارج البربر
في المغرب إلى جانب كونها قد أوقفت الفتوحات في جنوب فرنسا، وأجبرت جيش الأندلس
الفاتح على العودة إلى قرطبة، كانت هي السبب الرئيسي لاندلاع الحروب الأهلية
الطاحنة والمتتالية بين المسلمين في الأندلس؛ ذلك أنه لما سجل الخوارج في المغرب
انتصاراتهم الساحقة على جيوش الخلافة، رفع بربر الأندلس لواء التمرد ضد حكومة
قرطبة، وظهروا على الساكنين بجوارهم من العرب في شمال الأندلس، مثل: جليقية
وأسترقة وليون وغيرها، فقتلوهم وطردوهم من هذه الديار، فجاء الإسبان الهاربون
واستوطنوا فيها، فكانت هذه الوقعة - بالتالي - السبب في انتهاز الإسبان الفرصة
لاستئناف دولتهم من جديد. والمهم أن عبد الملك بن قطن الفهري، الذي وثب على حكم
الأندلس بعد وفاة عقبة بن الحجاج، خشي على نفسه وعلى سلطانه من خوارج البربر الذين
أخذوا يزحفون من شمال الأندلس نحو قرطبة والجزيرة الخضراء وطليطلة؛ لذلك اضطر، على
كرهٍ منه، إلى أن يستنجد بالعرب الشاميين الذين نجوا من المعركة ضد خوارج البربر،
بعد هزيمة جيش الخلافة الذي قدم من الشام، ومقتل كلثوم بن عياض قائد هذا الجيش
وأمير المغرب بعد عزل ابن الحبحاب الذي عجز عن مواجهة ثورة الخوارج، وأبيد أكثر
جيشه في مواجهتهم، حيث كان هؤلاء العرب الشاميون تحت حصار خوارج البربر في سبتة
منذ عام، وكانوا على وشك الهلاك جوعاً، فعبر هؤلاء إلى الأندلس وهم حانقون غاضبون
من البربر، فاستطاعوا القضاء على ثورتهم في الأندلس بعد ثلاث معارك طاحنة أبيد
خلالها كثير من خوارج البربر، ولاحق الشاميون فلولهم في أنحاء الجزيرة، ونتيجة
لذلك أضحت مناطق واسعة في شمال الأندلس فارغة من المسلمين، وهي غير المناطق
السابقة، فانتهز الإسبان الفرصة للمرة الثانية ونزلوا من الجبال التي كانوا
معتصمين فيها واستوطنوا في هذه المناطق، وبدأت دولتهم الناشئة تتمدد على حساب دولة
الإسلام. ومع ذلك ولما طلب منهم ابن قطن مغادرة الأندلس، وتعنت في ذلك، ثاروا عليه
وقتلوه، وأقاموا زعيمهم بلج بن بشر أميراً على الأندلس بدلاً عنه، الأمر الذي
استثار حميّة الفهريين وكثير من عرب الأندلس، الذين علت صيحتهم بطلب الثأر من
العرب الشاميين، وطردهم من الأندلس كلها، وقد تزعّم هذه الثورة قطن وأمية ابنا عبد
الملك بن قطن، وبلغت الصيحة جنوب فرنسا، فتعصب لهما عبد الرحمن بن علقمة اللخمي
«صاحب أربونة، وكان فارس الأندلس، في وقته»[21]، «وكان ذا بأس شديد، ووجاهة عظيمة»[22]، وحشر أهل الثغر وعرب الأندلس
والبربر الذين كانوا تحت إمرته، وجعلهم وقوداً لهذه الفتنة الحالقة الجديدة، والتي
لم يجنوا منها سوى الوبال والخسران بدلاً من الرباط وسداد الثغور. وقد ظن ابن
علقمة أنه بمن معه سيسحق الشاميين الدخلاء في نظره، ويضع حداً لهذه الفتنة، فخرج
إليه بلج من قرطبة في عشرة آلاف من الأمويين والشاميين، وكان لعبد الرحمن بن علقمة
أربعون ألفاً، ودارت الحرب بينهم .. فانجلت.. في عشي النهار عن عشرة آلاف قتيل من
أصحاب ابن علقمة، وعن ألفٍ من أصحاب بلج[23]، وذلك في شوال 124هـ/ أغسطس 742م،
إلا أن الشاميين خسروا زعيمهم بلج بن بشر، وكان الذي قتله هو عبد الرحمن بن علقمة.
«وتولى أمر قرطبة والشاميين والأمويين ثعلبة بن سلامة العاملي، وانصرف عبد الرحمن
بن علقمة إلى الثغر»[24]، أي إلى أربونة، بعد أن فقد الآلاف من مقاتلي الثغر، تاركاً البلديين
والشاميين يتصارعون فيما بينهم. بل يذكر المؤرخ المجهول صاحب كتاب «ذكر بلاد
الأندلس» أنه استمر «يحارب ثعلبة بن سلامة مدة. قال: فيقال إنه كانت بينهم 72
زحفاً كلها تنكشف عن ألف قتيل وألفين وأقل وأكثر[25]». ثم تطورت الفتنة بعد ذلك على
أيدي أبي الخطار الحسام بن ضرار الكلبي - الذي كان قد حسم الفتنة بين البلديين
والشاميين - والصميل بن حاتم زعيم القيسية في الأندلس، لتتحوّل إلى حرب طاحنة بين
اليمانية والقيسية. وهذه الفتن الحالقة ما كان لها أن تحدث لولا دخول الشاميين إلى
الأندلس. وهؤلاء الشاميون ما كانوا ليغادروا شامهم أصلاً لولا اندلاع ثورة خوارج
البربر في المغرب، فثورة خوارج البربر هي التي فتحت الباب الذي هبت منه هذه
الأعاصير العاتية التي عصفت بالمسلمين في الأندلس. هذا وقد تحولت الفتنة بين
القيسية واليمانية إلى فتنة صماء هددت وجود المسلمين في الأندلس ذاتها، فما بالك
بوجودهم في جنوب فرنسا؟ ولم ينقذ الإسلام في الأندلس من شر هذه الفتنة سوى دخول
الأمير الأموي الطريد، الذي نجا بأعجوبة من سيوف العباسيين في الشام، أعني به عبد
الرحمن الداخل، المعروف بصقر قريش، وذلك في سنة 138هـ، ولهذا يعد بعض المؤرخين
دخوله وإعادة بعثه الدولة الأموية من جديد فتحاً ثانياً للأندلس.
::
مجلة البيان العدد 321 جمادى الأولى
1435هـ، مارس 2014م.
[1] عبد
الرحمن الحجي: التاريخ
الأندلسي، دار القلم
- دمشق، ط 5، 1418هـ - 1997، ص 203.
[2] سعيد
عاشور: أوروبا في
العصور الوسطى، مكتبة النهضة المصرية - القاهرة، 1959، ص 149.
[3] المقري: نفح الطيب،
تحقيق: إحسان عباس ،
دار صادر - بيروت، 1968، (1/236).
[4] الحجي: المرجع
السابق، ص
204.
[5] مجهول: أخبار مجموعة
في فتح الأندلس، تحقيق:
إبراهيم الأبياري، سلسلة المكتبة الأندلسية، دار الكتاب المصري – القاهرة، دار
الكتاب اللبناني - بيروت، ط 2، 1410هـ/ 1989، ص 33.
[6] نفسه، ص 34.
[7] محمد عبد
الله عنان: دولة الإسلام
في الأندلس، مطبعة لجنة التأليف والترجمة - القاهرة، ط 4، مزيدة
منقحة،
1389هـ/1969م، ص 195.
[8] نجاة
الطلبي: ما بعد بلاط
الشهداء، مركز عبادي للدرسات - صنعاء، ط 1، 1422هـ/2001م، ص 183.
[9] حسين مؤنس: فجر الأندلس،
الشركة العربية - القاهرة، ط 1، 1959، ص 281.
[10] محمد بن
حارث الخشني: قضاة قرطبة
وعلماء إفريقيا، طبعة عزت العطار، مكتبة الخانجي - القاهرة، ط 2، 1415هـ/ 1994، ص 21، وانظر: ابن بشكوال،
برواية المقري: نفح (3/119).
[11] محمود
شاكر: التاريخ
الإسلامي، العهد الأموي، المكتب الإسلامي (بيروت – عمان – دمشق)، ط7، 1421هـ/ 2000، ص244.
[12] أحمد
العبادي: في تاريخ
المغرب والأندلس، دار النهضة العربية - بيروت، دون تاريخ، ص 37.
[13] أخبار
مجموعة، ص
37.
[14] حدث هذا
الفتح، كما هو معروف، على أيام دولة الأغالبة، سنة 212هـ، بقيادة
القاضي أسد بن الفرات.
[15] ليفي
بروفنسال: تاريخ إسبانيا
الإسلامية، ترجمه إلى الإسبانية إميليو جارثيا جومث، وإلى العربية علي عبد الرؤوف
وآخرون، المجلس الأعلى للثقافة - مصر، 2000، ص 63، وانظر: مؤنس: المرجع السابق، ص 167-169.
[16] عنان: المرجع
السابق، ص
116، وانظر: مؤنس: المرجع
السابق، ص
286.
[17] أرشيبالد: القوى البحرية
والتجارية في حوض البحر المتوسط، ترجمة: أحمد محمد عيسى، مراجعة: شفيق غربال،
مكتبة النهضة العربية
- القاهرة،
1960، ص
119.
[18] إبراهيم
بيضون: الدولة
العربية في إسبانيا، دار النهضة العربية - بيروت، ط 2، 1406هـ/ 1986م، ص 159.
[19] شكيب
أرسلان: تاريخ غزوات
العرب في فرنسا، دار الكتب العلمية - بيروت، دون تاريخ، ص 111. وعلّق أرسلان
على كلام رينو هذا بالعبارة التي صدرنا بها مقالنا هذا.
[20] الحجي: المرجع
السابق، ص
206.
[21] المقري: نفح (3/21).
[22] ابن
حيان، برواية المقري:
نفح
(3/26).
[23] ابن
القوطية: تاريخ افتتاح
الأندلس، تحقيق: إبراهيم
الأبياري، دار الكتاب المصري - القاهرة ، دار الكتاب اللبناني - بيروت، ط 2، 1410هـ/ 1989م، ص 41.
[24] نفسه، ص 41-42.
[25] مجهول: ذكر بلاد
الأندلس، طبعة لويس مولينا، المجلس الأعلى للأبحاث العلمية - مدريد، 1983، ص 102.