• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
القيم.. من مكونات الدين

القيم.. من مكونات الدين

 

تقرَّر عند علماء الأمة أن مكونات الدين ثلاثة: العقيدة، والأحكام (الشريعة)، والأخلاق والآداب (القيم). وتعدُّ الأخيرة عنواناً للتدين الصحيح، فتمثلها والتحلي بها دليل على تفهم معاني الدين وإدراك ما يقتضيه، ومخالفة ذلك منافاة لكماله.. وتشهد لهذه المعاني الأحاديث الصحاح الكثيرة، منها: حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن“. قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: “الذي لا يأمن جاره بوائقه[1][2]. وفي لفظ مسلم: “لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه“. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الآخر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم“[3]... وغيرها من الأحاديث التي تفيد المعنى المتقدم.

وقد اعتنى الإسلام أيما عناية بهذا الركن الركين والأساس المتين من الدين، حتى خص سورة من سور القرآن الكريم لبيان حقائق التربية الخالدة وأسس المدنية الفاضلة، إنها سورة الحجرات، هذه السورة التي سماها بعض المفسرين بسورة الأخلاق، وهي محور حديثي في هذه المقالة.

جعل الله تعالى من المقاصد الكبرى والغايات الأسمى لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم إتمام صالح الأخلاق ومكارمها. وقبل أن يبعثه اصطفاه وربّاه ورعاه وزكاه، حتى وصفه في كتابه بأنه على خلق عظيم: {وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: ٤]، أي: وإنك يا محمد لعلى أدب رفيع جم، وخلق فاضل كريم، فقد جمع الله فيه الفضائل والكمالات... قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي وإنك لعلى دين عظيم، وهو الإسلام. وهذا أيضاً يؤكد القاعدة التي انطلقت منها في بناء هذه المقالة. وسئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت للسائل: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قالت: “فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن...”[4]. وكان كذلك صلى الله عليه وسلم، فمن أخلاقه العلم والحلم والحياء وكثرة العبادة والسخاء والصبر والشكر والتواضع والزهد والرحمة والشفقة وحسن المعاشرة والأدب... كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً وخلقاً... ومعنى هذا كله أن امتثال القرآن أمراً ونهياً صار سجية له صلى الله عليه وسلم وخلقاً تطبّعه، فما أمره به القرآن فعله، وما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جلبه الله عليه من الخلق العظيم.

ومن المعلوم ضرورة أن الله تعالى تعبدنا بالاتساء والاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من مقتضيات الشهادة له بالرسالة (وأشهد أن محمداً رسول الله)، يقول جل وعلا: {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: ٣١]، ويقول سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّـمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: ٢١]. ومما يتأكد فيه الاقتداء أخلاقه وآدابه صلى الله عليه وسلم (القيم).

الأخلاق والآداب (القيم) في سورة الأخلاق:

إن سورة الحجرات على وجازتها وقصرها تضمّنت كما تقدم قبل حقائق التربية الإسلامية الراشدة، وأسس الحضارة والمدنية الفاضلة. وسأقف مع كل حقيقة وأساس من هذه الحقائق والأسس الجمة على حدة:

الأدب مع الله تعالى ومع رسوله صلى الله عليه وسلم

يجب التعظيم كل التعظيم لله تعالى وعدم التعدي على حدوده وحرماته، ويجب لرسوله صلى الله عليه وسلم التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام؛ فلا تعتقد ولا تفعل ولا تقل خلاف كتاب الله تعالى وخلاف سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الحجرات: ١].

التثبّت في سماع الأخبار والأقوال ونقلها

يجب التثبّت من الأخبار المتناقلة، لا سيما إن كان الحامل لها والمروج لها فاسقاً غير موثوق بصدقه وعدالته، فلا بد من التأكد من صحة الخبر حتى لا نؤذي الناس ونحن جاهلون حقيقة الأمر فنصبح نادمين أشد ما يكون الندم على صنيعنا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: ٦].

الاستهزاء والسخرية من الآخر

يجب تجنب السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} [الحجرات: ١١]، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر”. قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة. قال: “إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس[5]. قال القاضي عياض رحمه الله –: “...وأما بطر الحق، فهو دفعه وإنكاره ترفعاً وتجبراً[6]. وقال ابن كثير رحمه الله -: ”والمراد من ذلك (غمط الناس): احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدراً عند الله وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له...”[7].

الهمز واللمز

يجب تجنب الهمز واللمز، أما الهمز فيكون بالقول، وأما اللمز فيكون بالفعل، فلا يجوز الازدراء بالناس، والانتقاص منهم، واحتقارهم والطعن عليهم لا بالقول ولا بالفعل، قال تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات: ١١].

التنابز بالألقاب

يجب الابتعاد عن التنابز بالألقاب[8]، وهو التداعي بالألقاب التي لا يحب المخاطب سماعها ومناداته بها، قال تعالى: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات: ١١]. وقد نزلت هذه الآية الكريمة في بني سلمة، فعن أبي جبيرة بن الضحاك قال: “فينا نزلت في بني سلمة... قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعي أحد منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله، إنه يغضب من هذا، فنزلت {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ}[9].

إذن، فالتنابز فعل قبيح شنيع ذميم، فهو فسق، وفاعله فاسق، ولذلك قال تعالى عقب النهي عن هذا الخلق: {بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ} [الحجرات: ١١]، قال الإمام البيضاوي رحمه الله - : “وفي الآية دلالة على أن التنابز فسق، والجمع بينه وبين الإيمان مستقبح[10].

سوء الظن

يجب تجنب الكثير من الظن، والظن هو أن يكون عند الإنسان احتمالان ترجح أحدهما على الآخر.. وهنا عبر الله تعالى بقوله: {كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ} [الحجرات: ١٢] ولم يقل سبحانه: اجتنبوا الظن كله؛ لأن الظن ينقسم إلى قسمين:

الأول: ظن الخير بالإنسان، وهذا مطلوب ما دام الإنسان أهلاً لذلك، وهو المسلم الذي ظاهره العدالة، فإن هذا يظن به خيراً، ويثنى عليه.

والآخر: ظن السوء، وهذا يحرم بالنسبة لمسلم ظاهره العدالة، فإنه لا يحل أن يظن به ظن السوء كما نص على ذلك العلماء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ...} [الحجرات: ١٢]. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: “ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه وأن يظن به خيراً[11]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث...”[12]. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: “ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً“.

التجسس

يجب تجنب التجسس، فلا تبحث أيها المسلم عن عورات المسلمين، ولا تتبع عيوبهم، فمن تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في قعر داره، قال تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: ١٢]، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: “... ولا تحسسوا ولا تجسسوا...”[13]. قال بعض العلماء: “التحسس بالحاء الاستماع لحديث القوم، وبالجيم البحث عن العورات، وقيل بالجيم التفتيش عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال في الشر، والجاسوس صاحب سر الشر، والناموس صاحب سر الخير، وقيل بالجيم أن تطلبه لغيرك، وبالحاء أن تطلبه لنفسك... وقيل هما بمعنى، وهو طلب معرفة الأخبار الغائبة والأحوال...”[14].

الغيبة

يجب تجنب الغيبة، وهي، كما قال صلى الله عليه وسلم: “ذكرك أخاك بما يكره“. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: “إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته[15]، قال تعالى: {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: ١٢].. والغيبة محرمة بالإجماع، ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل والنصيحة، كقوله صلى الله عليه وسلم لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر: “ائذنوا له، بئس أخو العشيرة[16]. وكقوله لفاطمة بنت قيس وقد خطبها معاوية وأبو الجهم -: “أما معاوية فصعلوك، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه[17]. وكذا ما جرى مجرى ذلك. ثم بقيتها على التحريم الشديد، وقد ورد الزجر الأكيد، ولهذا شبهها تعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَـحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: ١٢]، أي: كما تكرهون هذا طبعاً فاكرهوا ذاك شرعاً، فإن عقوبته أشد من هذا، وهذا من التنفير عنها والتحذير منها.

وأخيراً: هذا غيض من فيض من القيم الرفيعة والأخلاق السنية التي حكمت سلوك المسلمين على تعاقب الأزمنة والسنين منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وتدل على رفعة هذا الدين وسموه وشموليته وعالميته، وأنه بحق الدين الذي يستحق أن يختم الرسالات وأن يخلد إلى قيام الناس لرب السماوات.. فكل ما تعانيه المجتمعات الإسلامية اليوم في جانب القيم هو نتيجة حتمية للقطع مع هذه القيم الربانية والحقائق التربوية الخالدة.. فهلا عدنا (والعود أحمد) إلى تمثلها حتى نحيا حياة طاهرة طيبة صافية نقية؟

:: مجلة البيان العدد  321 جمادى الأولى 1435هـ، مارس  2014م.


[1] البوائق: الغوائل والشرور.

[2] البخاري، كتاب الأدب، باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه، حديث رقم 6016.

[3] مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وأن محبة المؤمنين من الإيمان، وأن إفشاء السلام سبب لحصولها، حديث رقم 54.

[4] مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، حديث رقم 746.

[5] مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، حديث رقم 91.

[6] شرح النووي على صحيح مسلم لمحيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، 1/345.

[7] تفسير القرآن العظيم لعماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي، 6/460.

[8] الألقاب: جمع لقب، وهو الاسم الذي يشعر بذم أو مدح، يذكر تارة للتعريف وتارة للتنقص. وإذا كان للتنقص وكان ذلك المسمى به يكرهه، فلا يجوز أن يذكر به، فينادى بكنيته ولا ينادى بلقبه.

[9] صححه العلامة الألباني في صحيح الأدب المفرد.

[10] أنوار التنزيل وأسرار التأويل لناصر الدين أبي الخير عبد الله بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشافعي، 3/373.

[11] سنن ابن ماجه، حديث رقم 3932.

[12] البخاري، كتاب الأدب، باب قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيرا من الظن}، حديث رقم 6066. ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها، حديث رقم 2563.

[13] سبق تخريجه.

[14] شرح النووي على صحيح مسلم: 8/343.

[15] مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الغيبة، حديث رقم 2589.

[16] البخاري، كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس، حديث رقم 6131. ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب مداراة من يتقى فحشه، حديث رقم 2591.

[17] مسلم، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن، حديث رقم 1480.

أعلى