• - الموافق2024/12/18م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ترامب وثلاثية الردع والصدمات والتسويات

لقد أعلن ترامب أنه سيدخل في صراع مع الدولة العميقة، وبعد فوزه، تطايرت الأخبار والتوقعات بإقدام ترامب على إقالات لجنرالات في الجيش الأمريكي، وأنه ذاهب لإقحام الجيش في مواجهات داخلية،


عاد الرئيس الأمريكي ترامب إلى سُدَّة الحكم في دورة رئاسية ثانية، فصَل بينها والأولى نجاح بايدن، وتوليه دورة رئاسية واحدة.

وفي 20 يناير المقبل سيكون العالم على موعد مع بداية القرارات واختلاف التوجهات مع إدارة بايدن، بل حتى مع كل الرؤساء السابقين. وعلى صعيد التوجهات الداخلية فهو يدخل مرحلة التنفيذ الفوري والمباشر بعد أن خاض غمار التصريحات الانتخابية -بلا حدود- لجذب أصوات الناخبين. وعلى الصعيد الخارجي فالعالم يستعدّ ويراقب متحفزًا، في متابعة كيفية تنفيذ ترامب لوُعوده في وقف الحروب ومنع اندلاع حرب عالمية ثالثة.

فرغم سابق تجربة الأمريكيين والعالم مع ترامب، فالأمور تبدو الآن مختلفة، ليس فقط لأن العالم تغيَّر، ولكن أيضًا لأن ترامب وصل للحكم بغطاء شعبي وتشريعي، وتحت ظلال شعارات داخلية أثارت الانقسام الداخلي، وأخطرها ما أطلقه بشأن الصراع مع الدولة الأمريكية العميقة، بما يشير لاحتمالات تفجُّر صراع واسع وعميق، وإلى احتمالات وقوع صدام حول الإستراتيجيات والثوابت المستقرة خلال حكم الإدارات السابقة.

لقد تحدَّث الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب كثيرًا -خلال حملته الانتخابية- عن أنه لو كان موجودًا في الحكم ما كانت حرب أوكرانيا قد اشتعلت، وكذلك، هجوم السابع من أكتوبر ضد الكيان الصهيوني، وقد أسرف في تعهداته بوقف كل تلك الحروب، وقرر أنه لن يُشعل حربًا، وأنه سيوقف الاندفاع الجاري في العالم لإشعال حرب عالمية ثالثة، واتهم إدارة بايدن بدفع العالم لولوجها.

وهو ما أثار التساؤلات حول الإستراتيجيات والخطط والأساليب التي سيعتمدها ترامب لتحقيق مصالح الولايات المتحدة.

وزاد من حيرة المتابعين، أن ما جاء به ترامب مختلف عن توجهات الحزب الجمهوري الذي اشتهر قادته تاريخيًّا بإشعال الحروب.

وهو إذ تحدَّث عن ما سيفعله في مواجهة الدول التي تتخلى عن الدولار، فقد دفع للتساؤل حول علاقته بروسيا والصين ومجموعة دول البريكس. وإذ تحدث عن أنه سيفرض رسومًا جمركية أعلى على السلع الأوروبية والصينية، فقد أثار تساؤلات حول علاقات أوروبا والولايات المتحدة وعن ما هو قادم من تغييرات بشأن الصين. وهو لم يُجِب عن التساؤل الكبير بشأن ما سيفعله إذا اجتاحت الصين تايوان -وهو الذي أعلن أنه لن يُشعل حروبًا-، وهو إذ تحدث عن دعمه أو تعاطفه مع خطط الكيان الصهيوني في التوسع وطالب قادة الكيان بالإسراع في إنجاز ما وصفه بالمهمة في غزة، وإذ تحدث مطولاً عن البرنامج النووي الإيراني، فقد أثار تساؤلات حول خططه للتعامل مع القضايا المتفجرة في الشرق الأوسط.

وواقع الحال أن ترامب لم يتأخر في الإفصاح عن بعض توجهاته. ففور إعلان نتائج الانتخابات، أبدى ترامب نشاطًا وهمة لإنجاز تلك التعهدات، وتطايرت الأخبار والتكهنات حول ما سيفعل وما يطرح من خطط، وكان المثال الأبرز هو ما سيفعله ترامب لإنهاء حرب أوكرانيا.

وعلى الصعيد الداخلي، بدا ترامب في موقع مَن أعد قرارات محددة بشأن ما تعهَّد به، وتطايرت الأوراق والأخبار حول ما سيفعله، فقيل: إنه سيُصدر عفوًا رئاسيًّا عن نحو 1500 من المدانين في أحداث اقتحام الكونجرس، وأنه سيتحرك لإنهاء عقود توظيف آلاف الموظفين في المؤسسات الفيدرالية، بما فيهم الموظفون المدنيون في البنتاجون ضمن خطط مواجهته لمن سماهم أعداء الداخل في الدولة العميقة.

وقيل: إنه سيأمر الجيش الأمريكي بالمشاركة في عملية ترحيل نحو 20 مليون مهاجر غير رسمي دخلوا البلاد، بما أثار القلق من صدامات خطيرة ستشهدها الولايات المتحدة.

فماذا سيفعل ترامب دوليًّا بشأن الحرب الأوكرانية والصين وأوروبا والشرق الأوسط، وكيف ستنعكس إجراءاته الداخلية على سُمْعة ودور الولايات المتحدة خارجيًّا؟

وهل ينجح في حل الأزمات التي تعاني منها الولايات المتحدة دوليًّا، أم أنه سيحوّل الأزمات إلى مأزق خطير؟

وهل لدى ترامب رؤية وخطة إستراتيجية؟

 هذا السؤال يبدو الأشد أهمية في محاولة فهم ما سيقوم به ترامب خارجيًّا، وداخليًّا بطبيعة الحال؛ إذ السياسة الخارجية هي امتداد وترجمة للسياسات الداخلية.

وأهمية البحث عن إجابة لهذا السؤال تأتي من جوانب متعددة.

فهناك سابق الخبرة مع ترامب؛ إذ عُرف أنه يُصدِر قرارات فجائية دون التشاور مع أحد، بل حتى دون إبلاغ المعنيين بالتنفيذ بالطرق التنظيمية المعتمدة، ومثالها ما فعله بشأن بقاء القوات الأمريكية في سوريا. فقد فوجئ الجميع في الداخل والخارج بتدوينة لترامب يوم 19 ديسمبر 2018م على موقع تويتر -إكس حاليًّا- قال فيها: إنه قرَّر «سحب القوات الأمريكية من سوريا بعد إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش الإرهابي». هذا القرار الفجائي دفع الدولة العميقة للوقوف ضده ومنع تنفيذه، ودفع وزير دفاعه جيمس ماتيز لتقديم استقالته من منصبه، والتشديد في خطاب الاستقالة على أنه يتنحَّى حتى يتمكّن ترامب من تعيين وزير دفاع متوافق مع أفكاره.

وإذا كان طبيعيًّا الإجابة ببساطة، بأن المسؤول عن وضع الإستراتيجيات هو مؤسسات الدولة ومراكز أبحاثها، وأن الرؤساء الأمريكيين قد يختلف أحدهم عن الآخر في السياسات لا في الإستراتيجيات التي تبقى ثابتة لفترات طويلة، لكنَّ ترامب أعلن أنه سيدخل في صراع مع الدولة العميقة، بما يفتح الباب أمام «عدم التزامه بالإستراتيجيات المعتمدة».

لقد أعلن ترامب أنه سيدخل في صراع مع الدولة العميقة، وبعد فوزه، تطايرت الأخبار والتوقعات بإقدام ترامب على إقالات لجنرالات في الجيش الأمريكي، وأنه ذاهب لإقحام الجيش في مواجهات داخلية، وذاهب للقيام بعمليات تصفية وغربلة للموظفين المدنيين في المؤسسات الفيدرالية وفي البنتاجون؛ إذ يصف هؤلاء الموظفين المدنيين باليساريين والماركسيين والفاسدين، وأنه سيسعى إلى طردهم واستبدالهم بآخرين مُوالين له. وهو ما يعني أن ترامب ذاهب إلى عدم الالتزام بطرق صناعة القرار الإستراتيجي، وإلى صدام مع الإستراتيجيات المعتمدة، والقائمين عليها.

وإذ أعطى ترامب وعدًا خلال حملته الانتخابية بطرد وترحيل نحو 20 مليون مهاجر غير نظامي، فمثل تلك العملية لا يمكن أن تتم دون مشاركة الجيش، والطريق إلى ذلك هو إعلان حالة الطوارئ الوطنية. وهو ما يعني أن ترامب سيُغيِّر مهمة الجيش بطريقة أو بأخرى؛ إذ سيُحوّله إلى قوة لإنفاذ القانون في الداخل. وقد زاد الأمور تعقيدًا بأحاديثه عن عزمه نشر الجيش لمواجهة المظاهرات في الولايات المتحدة، أو أنه سينشر الجيش لمواجهة من يسميهم بأعداء الداخل.

ويزيد من هذا التشويش الخطير حول خطط وإستراتيجيات ترامب، أنه حصل خلال هذه الانتخابات على ما يحقق له الانفراد بصناعة القرار. لقد أحدث ترامب تغييرات كبرى في مفاهيم وتركيبة الحزب الجمهوري، وهو خاض في ذلك تجربة صراعية خطرة مع الحرس القديم للحزب، وقد جاءت نتائج الانتخابات لتمنح ترامب وحزبه -الذي غيَّره- السيطرة على مجلسي النواب والشيوخ، وهو في طريقه للسيطرة على القرار في المحكمة العليا -حارسة الدستور- لخلو مقعدين سيقوم هو بتعيين من يشغلهما، وهي مكونة من تسعة أعضاء كان هو من عيَّن في دورته السابقة اثنين من بينهم. وهو ما كان قد حذَّر من خطورة تأثيره الرئيس المنتهية ولايته بايدن.

وهو ما يعني أن ترامب سيكون بإمكانه إنفاذ قراراته بشكل أقرب إلى الفردية، ودون حدوث معارضة قوية من داخل المؤسسات الأمريكية.

ومن متابعة ما قاله ترامب، وما يُنشَر عن مراكز الأبحاث، يمكن القول: بأن لدى ترامب اتجاهًا لإحداث تغييرات داخلية وخارجية، لكن لا إستراتيجية واضحة له. وما يمكن قوله مؤكدًا هو أن ثوابت الإستراتيجيات الأمريكية ستتغير عبر السياسات والقرارات المعزّزة من خلال الكونجرس ومن خلال شعبية ترامب الداخلية وقراراته.

ثلاثية التهديد والصدمات والتسويات

في خلاصة لتجربة حكم ترامب الأولى، ولما تحدَّث به طوال السنوات التي أعقبت فشله في الحصول على فترة رئاسية ثانية في عام 2020م، وبمراجعة تصريحاته خلال حملته الانتخابية، يمكن استخلاص أن ترامب سيستخدم أساليب الردع والتهديد في بعض القضايا، وأسلوب الصدمات في التعامل مع قضايا أخرى، وسيذهب إلى تسويات في قضايا ثالثة، وأنه لن يضع -والأغلب لا يملك- خططًا إستراتيجية واضحة المعالم على الصعيد الدولي على الأقل.

فترامب إذ يشيح بوجهه، عن خوض الحروب بسبب الأزمة الإستراتيجية والهزائم التي تعرَّضت لها بلاده في أفغانستان والعراق، فهو يطرح مدى الأزمة التي يواجهها النفوذ والدور الأمريكي ويُظهر مدى عمق المأزق، والمعنى أن الولايات المتحدة لم تَعُد تستخدم في إنجاز أهدافها الإستراتيجية -الواردة في أوراق ووثائق الأمن القومي الأمريكية- القوة العسكرية والاقتصادية كما كان الحال من قبل؛ وإلا أصبحت تُشعل حربًا عالمية ثالثة.

لقد تحدَّث ترامب مطولاً عن خطأ التدخل في العراق وأفغانستان -بل هو تحدَّث عن ارتكاب جرائم-، وتحدث أيضًا، عن عدم فرض النمط المعيشي والقِيَمي على مواطني الدول الأخرى.

وإذ يأتي الأمر الثاني منسجمًا ومتوافقًا مع مواقف ترامب ومفاهيمه بشأن إعادة التأثير الإيجابي في المجتمع الأمريكي؛ فإن قضية عدم التدخل بالقوة لفرض مصالح الولايات المتحدة وعدم خوض الحروب تطرح التساؤلات حول طريقة إنفاذ المصالح الأمريكية -الاستعمارية- في الخارج. أو هي تؤكد أن ترامب لا يرى بديلاً سوى التحرك القطاعي أو تجاه كل أزمة على حدة، وتعدّد الأساليب بل حتى تنافرها، حتى لا يصل حد إشعال حرب عالمية ثالثة.

فالعالم اليوم بات متعدد الأقطاب، والقوى والأقطاب الكبرى الأخرى باتت في وضع أفضل مما كانت عليه من قبل. وبعضها صار في وضع لا يحتمل الابتزاز الأمريكي فعليًّا، بل إن الولايات المتحدة لا تستطيع إعلان الحرب عليه لتحقيق مصالحها الاستعمارية أو لاستمرار هيمنتها على العالم.

في وضع الدول التي تحسَّن وضعها؛ فالصين وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا، قد وسَّعت نفوذها ودورها الدولي. فلم تعد مجموعة بريكس هي مجموعة ناشئة كما كان الحال خلال دورة ترامب الرئاسية الأولى، بل هي تقدَّمت على صعيد علاقاتها البينية وعلى صعيد توسيع المجموعة لتضم دولاً أخرى بعضها حليف للولايات المتحدة.

والصين بشكل محدد لم تَعُد مجرد دولة بلا تحالفات، فهي باتت تتغطى الآن ليس فقط بمجموعة بريكس، بل أيضًا بدول ميثاق شنغهاي، وباتت أقرب إلى صيغة التحالف والتكامل.

وإذ يعلن ترامب مثلاً، عن فرض رسوم جمركية على السلع الصينية -لتعويض ما تحدَّث عنه من تخفيضات ضريبية-؛ فهناك عاملان قد تغيَّرا؛ أولهما أن السلع الصينية المصدَّرة للولايات المتحدة لم تعد كما كانت سابقًا؛ إذ قلَّت تدفقات السلع الصينية، انخفضت بنسبة 24%، وهو ما جاء في وقتٍ تصاعدت فيه قدرة الصين على التصدير، ووصلت إلى ترليون دولار في هذا العام، بزيادة قدرها نحو 16%. كما أن الصين صارت أشد تطورًا على الصُّعد التقنية، وعلى الصعيد العسكري بما يشلّ قدرة الجيش الأمريكي على التأثير على قرارات الدولة الإستراتيجية، حتى إن مرشح ترامب لوزارة الدفاع، تحدَّث عن أن كل سيناريوهات محاكاة الحرب التي عقدها البنتاجون، حذَّرت من قدرة الصين على تدمير 10 حاملات طائرات أمريكية من خلال إطلاق 15 صاروخ فرط صوتي، خلال 20 دقيقة من بدء الحرب.

أما في اتجاه روسيا فلم يعد هناك آليات اقتصادية لم تستخدمها الولايات المتحدة والغرب للضغط على روسيا؛ إذ فرضت آلاف العقوبات في كافة المجالات. وبطبيعة الحال، لا يمكن للولايات المتحدة حرب روسيا، إلا باتخاذ قرار الدخول في حرب نووية.

وعلى جانب الدول الأخرى، وإذ أعلن ترامب أنه ذاهب للضغط على الحلفاء وأوروبا تحديدًا، وأنه سيفرض رسومًا جمركية على السلع الأوروبية، وسيطالب دول أوروبا بزيادة مساهماتها في الناتو، فهو ذاهب إلى دفع أوروبا إلى طريق آخر؛ إذ تتصاعد التحذيرات الأوروبية بضرورة الاستعداد للدخول في حرب تجارية مع الولايات المتحدة. لن تقف أوروبا مكتوفة الأيدي، ليس فقط على فرض رسوم جمركية مضادة، بل هي قد تسعى للتحرُّك باتجاه الصين، وربما روسيا، في حال نجاح ترامب في عقد صفقة تسوية حول أوكرانيا.

وهكذا سيتحرك ترامب بفكرة الردع هنا، والتسوية هناك، والصدمات في اتجاه ثالث... إلخ.

نتائج فورية وخيمة على أوروبا

تتعدَّد مجالات تأثير عودة ترامب في الحكم عالميًّا، غير أن أبرز النتائج وأكثرها سرعة في التحقق، هو ما سيجري من فتح الطريق واسعًا أمام المدّ اليميني العنصري والقومي والمتطرف وربما الفاشي في أوروبا. لقد سبق أن ترافق ظهور هذا التيار في أوروبا مع وصول ترامب للحكم في الولايات المتحدة في المرة الأولى، ووصل الأمر حد أن أصبح ترامب وهذا التيار الشعبي مسؤولَيْن بشكل مباشر عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وإذ خرج ترامب من الحكم، فقد تواصل وجود وتنامي دور هذا التيار في أوروبا؛ وتصاعد مدّه الشعبي في كل الدول الأوروبية، خاصةً فرنسا وألمانيا وإيطاليا، وهي تيارات تُهدّد بقاء الاتحاد الأوروبي.

والآن إذ يعود ترامب للحكم، فقد انفتح الطريق لوصول تلك التيارات إلى حكم أوروبا -وهي فعليًّا قاب قوسين أو أدنى من ذلك-، بما يُغيِّر وجه أوروبا ويُحْدِث اضطرابًا حادًّا في داخلها. وهذا التغيير لن ينتج عنه تغيير في السياسات الداخلية فقط، بل سيُغيِّر توجهات الحركة الإستراتيجية على صعيد العلاقات بين الدول الأوروبية وعلى صعيد التوجهات تجاه القضايا الخارجية وأبرزها حدَّة الآن، هو الموقف الرافض من تلك المجموعات لاستمرار الحرب في أوكرانيا.

غير أن هذا التحول في أوروبا سيصيب قوة وهيمنة الولايات المتحدة دوليًّا؛ إذ سيغير التوازنات لغير صالحها؛ إذ كل تفكيك لأوروبا يمنح روسيا فرصة للتقدم بالنفوذ والدور في داخل أوروبا، كما هو يفتح مساحات لحركة الصين في داخل القارة. وهو في الأقل سيدفع دول أوروبا للبحث عن مصالحها على حساب التحالف مع الولايات المتحدة بدرجة أو أخرى.

أوكرانيا وروسيا حدود التسوية

تُعدّ قضية الحرب في أوكرانيا أشد القضايا تعقيدًا؛ فهي قضية إستراتيجية تتعلق بالعلاقات والتوازنات بين أوروبا وروسيا وبالعلاقات والتوازنات بين روسيا وحلف الناتو، وبالعلاقات المتنامية بين روسيا والصين، إضافةً للحرب الجارية على الأرض الأوكرانية.

ومنذ بداية الانتخابات وترامب يتحدث عن عدم القدرة على هزيمة روسيا -التي هزمت نابليون وهتلر-، ويعلن أنه وحده القادر على إنهاء تلك الحرب.

وترامب لديه فكرة ثابتة طالما رددها، بأن عزل روسيا يدفعها للتحالف مع الصين، بما يُضعِف القدرة الأمريكية على مواجهة التهديد الأكبر لها. وقد ظهرت ملامح لخطته القادمة، التي ستقوم على تسوية تمنح روسيا الأراضي التي سيطرت عليها، وإعطاء ضمانات لروسيا بعدم انضمام أوكرانيا للناتو لنحو 20 عامًا قادمة.

وهنا لن يذهب ترامب لا إلى الصدمات ولا إلى الردع، سيذهب مباشرة لأسلوب عقد الصفقات.

لكنَّ الأمور لا يمكن أن تجري بتلك البساطة. فمطالب روسيا تتعدى فكرة انضمام أوكرانيا لفترة زمنية للناتو، بل حياد أوكرانيا وعدم تسليحها. كما أن أوروبا سترى في تغيير الدور الأمريكي خطرًا عليها الآن ومستقبلاً. وهناك قضايا كبرى تحتاج إلى معالجة، بل إلى صفقة تسوية كبرى. فروسيا ستطلب إسقاط العقوبات واستعادة أموالها المجمدة، وهي ستطلب ثمنًا باهظًا لفضّ تحالفها مع الصين، إن كانت ستتحرك في هذا الاتجاه، وهو أمر مُستبعَد.

هنا تظهر محدودية القدرة الأمريكية، وهنا يظهر جليًّا أن الأمور تظهر تصاعد وضعية المأزق؛ خاصةً إذا صارت التحركات ذات نتائج خطرة.

الصين بين الردع والتسوية

لقد أشعل ترامب حالة صراعية مع الصين بعد دخوله البيت الأبيض في عام 2017م لولاية رئاسية أولى. ومن كل ما يقوله ترامب يبدو واضحًا وقاطعًا أن معركته الكبرى هي مع الصين. وكان اللافت أنه لم يُشعل تلك المعركة باعتبارها تجري حول النظام الدولي، بل حول عمليات الإغراق والرسوم الجمركية وسرقة التكنولوجيا.

طرح ترامب مؤخرًا أفكارًا مبسطة، بشأن الصراع مع الصين، وهو لا يتحدّث مثلاً عن سلسلة التحالفات الإستراتيجية التي شكَّلها بايدن، وما إذا كان سيواصل تفعيلها، ولا يتحدث عن قضية تايوان إلا من باب توجيه الحديث لتايوان، بأنها إذا أرادت أن تحميها الولايات المتحدة، فعليها دفع المال... إلخ.

وهو من قبل ومن بعد، لم يُجِب عن السؤال الأخطر؛ وهو: ماذا سيفعل إذا اجتاح الجيش الصيني تايوان؟

وبقراءة التوازنات وسلوكيات وقرارات ترامب، فهو ذاهب إلى تسوية مع الصين، وقد يستخدم أسلوب الصدمات المحدودة، وأسلوب الردع لإنجاز تلك التسوية. هو سيهتم أساسًا بتأثير النمو الصيني على الاقتصاد الأمريكي، وهو كان قد وصل إلى تسوية معها خلال رئاسته السابقة لتعديل الميزان التجاري بين البلدين أو لتصحيحه بسبب ميله بحدة لصالح الصين.

الشرق الأوسط عقدة الحسم الإستراتيجي

تبدو القضية الأهم هي قضية تأثير وصول ترامب للحكم على الشرق الأوسط. وفي ذلك يظهر مدى عمق المأزق الذي يواجهه ترامب والولايات المتحدة.

ترامب الذي أكد أنه لن يُشعل حروبًا، وأنه سينهي الحروب القائمة، في معضلة حقيقية؛ فالشرق الأوسط الآن بات حزامًا من النار، المشتعلة لحسابات إستراتيجية كبرى. وهو سيجد نفسه غير قادر على التحرك. فإن أراد توسيع مساحة الكيان الصهيوني -وقد أشار إلى ذلك علنًا بالقول: إن مساحة إسرائيل صغيرة-؛ لن تقف الحروب، ولن تنجح خطته للتطبيع، وإن أراد وقف الحرب والتوسع الصهيوني، دخل في صراع عميق مع اللوبي الصهيوني في أمريكا وفي داخل الحزب الجمهوري.

وأغلب التقدير أن ترامب سيفكك الأوضاع في الشرق الأوسط، وسيستخدم أدوات الردع والقرارات الصادمة للوصول إلى تسويات. هو سيُصدر قرارات صادمة بشأن فلسطين، وسيستخدم الردع تجاه إيران، وسيذهب باتجاه التسويات والتطبيع مع الدول العربية.

وفي كل ذلك، فالمؤكد أن كل ما سيفعله ترامب لن ينتج عنه إلا تعميق الأزمات وعدم ديمومة الحلول والتسويات.

لكن ثمة خطر حقيقي قد ينتج عن تحركات ترامب؛ وهو أن تحتشد عدة عوامل لتدفع ترامب نحو قرارات خطيرة. أو يجتمع البُعد العقائدي المتعلق برؤية الإنجيليين المساندين للكيان الصهيوني، مع التقدير بأن الشرق الأوسط هو النقطة الأخطر على خط سير مشروع الحزام والطريق الصيني، وأنه منفذ العبور للنفوذ الروسي باتجاه المتوسط وإفريقيا، بما يؤدي لإعطائه ضوءًا أخضر لإطلاق حرب كبرى في هذا الإقليم أو على هذا الإقليم.

هل ينجح ترامب أم يتكرر الفشل؟

وصول ترامب للحكم هو انعكاس وتوضيح لأزمة تراجع الولايات المتحدة. وتلك الأزمة -أزمة التراجع-، هي ذاتها من فشل جورج بوش الابن وأوباما وبايدن وترامب نفسه في التعامل معها.

لقد حاول جورج بوش الابن قطع الطريق على تغيير التوازن الدولي واستمرار انفراد الولايات المتحدة في الهيمنة على العالم، ولكنه فشل. وكان قد اعتمد إستراتيجية استخدام القوة العسكرية في أفغانستان والعراق -وكان مقررًا أن يغزو خمس دول أخرى-، لكنه انتهى إلى الفشل.

ثم وصل للحكم باراك أوباما والذي تعامل مع أزمة التراجع الأمريكي عبر إضعاف دول أخرى كانت مرشحة للتحالف مع الأقطاب الصاعدة من خلال اعتماد إستراتيجية اللاعنف، وانتهى إلى الفشل.

ووصل للحكم ترمب في دورته الرئاسية الأولى وبايدن مثله، دون أن يستطيع أيٌّ منهما مواجهة أزمة تغيير التوازنات الدولية.

والآن يعود ترامب إلى الحكم مجددًا، وهذه المرة وفق حالة تلفيقية وخليط من الخطط، مؤشرها الأساس التراجع عن أوهام القوة، والتعامل مع تغيير التوازنات الدولية على حساب الولايات المتحدة، كأمر واقع.

والأمر الواضح بل والمؤكد أن ترامب هو التعبير الأشد وضوحًا لتلك الأزمة، وأنه سينحو منحًى انعزاليًّا وتراجعيًّا بعدما جرَّب بوش وحروبه وتدخلاته العسكرية، وبعدما جرّب أوباما خطة التفكيك الداخلي وممارسة الضغوط من الخارج.

وأسباب الفشل السابق واللاحق هو أن التغيير سُنة من سنن الكون، وأن الحضارة الغربية باتت متفسخة، ولا تحمل في مضمونها المجتمعي قدرة على استمرار حركة النهضة، التي عاشتها خلال مراحلها السابقة.

أعلى