قتلة الانبياء
لقد كان احتلال قِطاع غزة أثناء حرب عام 1967م بدايةً لصداع دائم بالنسبة للاحتلال الذي وضع الضفة والقطاع تحت سلطة حكام عسكريين، وكانت سياسة الاحتلال قائمةً على محاولة التحكم بالتجمعات السكانية الفلسطينية أمنياً، والاستفادة من القوة العاملة الرخيصة في بناء إسرائيل؛ فقد كان آلاف العمال ينتقلون يومياً من غزة إلى داخل فلسطين المحتلة عام 1948م، ويعملون في المزارع والمصانع. ومن التناقضات أن الفلسطيني المسكين الذي هُجِّر من أرضة ويسكن في المخيمات، وحتى يحصل على لقمة العيش يضطر للعمل أجيراً في ممغتصبة كانت يوم مَّا أرضاً له! إنها لقمة مغموسة بالقهر.
ومن الابتلاء أنه أحياناً كان بُنَاة المغتصبات من العمال والمقاولين من الفلسطينيين! وبينما كانت المغتصبات تنتشر وتتوسع كان الفلسطيني الذي يتمكن من بناء بيت ثابت يكون هذا البيت عرضة للهدم بحجة عدم الحصول على تراخيص... وباختصار كان اليهود بعد عام 1967م بحالة من النشوة؛ حتى إنهم تعاملوا مع الفلسطينيين على أنهم حالةً مؤقتة؛ أي أن وجودَهم مرهون بفائدتهم لبناء الدولة الحالية وسيجري تهجيرهم عند الانتقال إلى المرحلة التالية.
وبعد حرب عام 1973م وما تلاها من اتفاقياتِ سلامٍ ومشاريعَ تطبيعٍ وتصفيةٍ للوجود العسكري الفلسطيني في لبنان وقيامِ الانتفاضة الأُولَى فكَّر الصهاينة بالانسحاب من غزة والتركيز على الضفة الغربية على أساس أنها هي قلب الدولة. وبدأ نشاط محموم للاستيطان الذي كان الهدوء في الضفة شرطاً أساسياً لنجاحة وبالفعل جرى تسليم إدارة الفلسطينيين لمنظمة التحرير بقيادة عرفات ومِنْ بعده عباس وتمَّت تصفية المغتصباتات في غزة بعد فشل السلطة في السيطرة عليها، وإنهاء سنوات عصيبة مرَّت باليهود؛ فكل محاولة للتقدم تنتهي بتراجع، وكان وصولُ حماس لرئاسة الحكومة عن طريق الانتخابات، وعدمُ اعترافها بدولة الصهاينة ضربةً قاصمة لكلِّ الآمال التي كانت ترجوها هذه الدولة من عملية أوسلو، ولم يكن أمام اليهود إلا محاولة إفشال الحكومة وإسقاطها بالقوة، وكانت النتيجة سيطرةً كاملةً لحماس على غزة. ونجحت دولة العدو في تثبيت حكومةٍ بديلة في الضفة مهمتها تهيئة الأجواء لتنفيذ عملية الاستيطان الكبير في الضفة وخاصة القدس التي تُمثِّل حجر الأساس في نجاح مشروع الدولة اليهودية؛ فلا دولة يهودية بدون القدس عاصمةً لها، ولا عاصمة بدون تهويد. وقد وصل اليهود إلى مرحلة فرض أسماء عبرية على الشوارع...
لقد فشل اليهود في إدارة المعركة مع تعدد الجبهات؛ ولذا فهم يركِّزون على جبهة القدس. أما غزة فالمهم الآن أن تبقى محاصرة تلعق جراحها؛ لأن البديل هو تمدُّد حماس إلى الضفة؛ وهو ما يُعَدُّقاصمة الظهر بالنسبة لمشروع تهويد الضفة وبناء الهيكل على أنقاض الأقصى.
إن غزة هي الركيزة الأساسية في عرقلة مشروع اليهود في الضفة؛ ولذا فإن اليهـود يعتبـرون خَنْقَ حماس أو قبرها - إن أمكن - مسـألة حياة أو موت؛ ومن أجل ذلك تعاملوا بحساسية شديدة مع التدخل التركي لوقف الحرب على غزة، ومن ثَمَّ العمل على فك الحصار. لقد كانت تركيا الكمالية الدولة الوحيدة في العالم الإسلامي التي كانت لها علاقات جادَّة ومتينة مع دولة الصهاينة، وكانت تركيا شريكاً مهمّاً في تدريب الجيش الصهيوني، وخاصة الطيران، ويتمتع اليهود بوضع مميز من الناحية الاقتصادية؛ ومع ذلك كان الحفاظ على حصار غزة أهمَّ من العلاقات التاريخية مع تركيا، ولم يكن تصرُّف نائب وزير الخارجية الصهيوني مع السفير التركي وإهانتُه إلا دليلاً على الحَنَق الشديد على السياسة التركية الجديدة وأنها قد تؤدي إلى انهيار مشروع القدس الكبرى، ولكن مشكلة اليهود أنهم يُحَكُمون بجيل جديد من الصهاينة تزيد عندهم الحماسة وتنقصهم الحكمة؛ فَهُم فقدوا الدبلوماسية مع تركيا، ومن ثَمَّ فإن تركيا سرَّعت من وتيرة العمل في مشروع رَفْعِ الحصار عن غزة وكان الدعم التركي هو الأساس في تهيئة الظروف المناسبة لتفعيل طموحات وآمال كل شريف يريد رَفْعَ الظلم عن أهل غزة، وكانت قافلة الحرية هي المحاولة التاسعة والأكبر لكسر هذا الحصار؛ فقد جرى تفعيل المنظمات الإنسانية والشخصيات الاعتبارية المستقلة، وكان تجميع المساعدات من أوروبا، وانطلاقها من تركيا واليونان... إنها حركة تحمل صبغة العالمية؛ ولذا فإن التعامل معها كان يحتاج إلى رابين وبيريز؛ ولكن اليهود نكبوا بنتنياهو وليبرمان، ولم يكن نتنياهوا موفَّقاً؛ فقد كانت القضية تتفاعل وهو في أمريكا يتحدث عن مواجهة إيران و ترك الموضوع للحليف غير الموثوق به وزير الدفاع إيهود باراك؛ فهو من حزب آخر والجيش لا يناسب للتعامل مع دبلوماسيين غربيين وأعضاء برلمانيين أوروبيين ومواطني دولٍ في مجملها حليفة لإسرائيل. لقد كانت النتيجة قَتْلَ حوالي عشرين ناشطاً، وجَرْحَ حوالي خمسين آخرين، ونحن إلى الآن لا نعلم بالضبط جنسيات القتلى والجرحى؛ ولذا فلا نتوقع أن تتوقف النتائج عند بيان إدانة في مجلس الأمن أو تخفيفِ الحصار على غزة.
إنني أرى أن أوَّلَ النتائج هو كسر حاجز الخوف من نقد إسرائيل، والثاني أن كلَّ حلفاء إسرائيل في المنطقة والمشاركين في الحصار سيكون موقفهم حَرِجاً بصورة متزايدة. أما الثالث - وهو الأهم - فإن السلطة في الضفة سيكون من الصعب عليها في المرحلة القادمة أن تتماسك وتستمر في قدرتها على لعب دورِ الضامن للهدوء اللازم لاستكمال مشروع قلب دولة الصهاينة.
وفي الختام: فإنني أشد على موقف الحكومة التركية التي يبدو أنها تتصرف بحكمة؛ فوزير الخارجية تكلَّم في مجلس الأمن عن إنسانية القافلة ومشروعيتها وقرصنة دولة الصهاينة في المياه الدولية، وطالب بالتحقيق وفكِّ الحصار ولكنه لم يذكر انتهاك السيادة التركية وقَتْلَ العزَّل على متن سفينة تحمل العلم التركي، ولم يذكر محاكمة المسؤلين عن المجزرة؛ فكلها أوراق مؤجَّلة للأيام القادمة. وأنا هنا أسأل اليهود الحاليين: ماذا استفدتم من قَتْل أسلافكم للأنبياء؟