حلف الناتو والبحث عن دور استراتيجي جديد
إذا كان السبب الرئيسي وراء وجود حلف شمال الأطلسي (الناتو) واستمرارِه طيلة أربعين عاماً هو مواجهة التهديد العسكري من قِبَل الاتحاد السوفييتي (سابقاً) ودول حلف وارسو الاشتراكي، فإنه منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1989م، ظل حلف الناتو يبحث عن «منطقٍ» أو «تصوُّرٍ» أو «دورٍ» لمواجهة تحديات وتهديدات ومخاطر الوقت الراهن.
ولإعادة النظر في «المفهوم الإستراتيجي لحلف الناتو»، الذي تمَّت المصادقة عليه عام 1999م، فقد جرى تشكيل مجموعة عملٍ تضم 12 خبيراً في الصيف الماضي لتزويد الأمين العام للحلف، رئيس الوزراء الدنماركي السابق (أندرس فوغ راسموسين) بتصوُّر يمكن البناء عليه من أجل تحديث المفهوم الإستراتيجي للحلف بشكل يتناسب مع تحديات القرن الحادي والعشرين، وهو التصور الذي سيعرضه راسموسين أمام رؤساء الدول الأعضاء في الحلف في مؤتمر قمة لشبونة في نوفمبر المقبل من هذا العام.
وقد عقدت مجموعة العمل ثلاث جولات للنقاش في أوروبا، وذلك للتوصل إلى توافق حول المبادئ الرئيسية التي سيتضمنها المفهوم الإستراتيجي الجديد للحلف. وعُقدت الجولة الأخيرة من النقاش في جامعة الدفاع الوطني في واشنطن بحضور كلٍّ من: أعضاء فريق الخبراء، وأعضاء مجلس شمال الأطلنطي المكوَّن من مندوبِين دائمِين من الدول الأعضاء، وكذلك سفراء الدول إلى حلف الناتو، وأعضاء اللجنة العسكرية للحلف المكوَّنة من رئيسٍ وممثلين عن كل دولة عضوٍ، وأعضاء القيادتين الإستراتجيتين (قيادة التحول، وقيادة عمليات الحلف)، إضافة إلى مئات من الخبراء والمراقبين.
وعلى الرغم من كون أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية حليفتين إستراتيجيتين تاريخياً، إلا أن فترة الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة (بوش الابن) كانت قد شهدت تباعداً سياسياً وصل إلى مرحلة التوتر على صعيد عدد من الملفات الساخنة، وبالذات ملفِّ الشرق الأوسط إثر أحداث الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م، التي سببت انقساماً حتى داخل البيت الأوروبي نفسه، وتباعداً بين ضفتي الأطلسي، أضيف إلى ذلك مؤخراً الاختلاف حول إستراتيجية البقاء في أفغانستان في ظل الضربات العسكرية التي تتلقاها قوات الناتو هناك.
إن القضية الرئيسية التي تلقي بظلالها يمكن صياغتها بالتساؤل الآتي: هل الناتو ما زال مناسباً للمرحلة الحالية، أم هو مجرد بقايا لحلف قديم؟
لعل من السهل سياسياً القول: إن الحلف يمكن الاعتماد عليه. ولكن افتراض أن الحلف يتمتع بالأهمية نفسها التي كان يتمتع بها في الماضي في ما يتعلق بالاحتياجات الأمنية للدول الأعضاء لن يصمد طويلاً في ظل عجزه في أفغانستان وتسبُّبِه بسقوط العديد من الحكومات الأوروبية، وفي ظل ما يطلقه من عملياتٍ خارج النطاق الجغرافي التقليدي للحلف ضد أعداء لا يملكون جيوشاً أو قوات بحرية أو قوات جوية.
وفي ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة التي تعاني منها دول: اليونان، وإسبانيا، والبرتغال، وربما إيطاليا، فإن مسألة الدفاع لم تَعُدِ القضية الأولى لأعضاء الناتو؛ ومن ثَمَّ فإن على الحلف أن يسوِّي خلافاته الداخلية ويتجاوز التصورات المتضاربة التي تجعل من الصعب جداً الوصول إلى توافُق في الآراء بين أعضائه؛ فعدم وجود تهديد متفق عليه من قِبَل أعضاء الناتو، مثل الاتحاد السوفييتي (سابقاً)، يعرقل - إلى حدٍّ كبير - الوصول إلى إجماعٍ بين الدول الأعضاء كشرطٍ لازمٍ لاتخاذ قرارات الحلف.
ويتوجب على «المفهوم الإستراتيجي» الجديد أن يتعامل مع الوضع في أفغانستان، وهناك مجموعة من الخيارات أمام هذا المفهوم الجديد؛ إذ بوسع الحلف أن «يتجاهل» الوضع هناك، أو يؤجل النظر فيه، أو يواجهه، أو يتحايل عليه.
وتتمثل الحجة الرئيسية وراء «إرجاء» المفهوم الإستراتيجي للتعامل مع الوضع في أفغانستان في أن الناتو يجب أن يتجاوز أفغانستان حينما يبحث في مستقبله، لكن المشكلة في هذا الخِيار تتمثل في أن الناتو قد راهن بمستقبله على النجاح في أفغانستان، ومن ثَمَّ يُعَدُّ تجاهل الوضع في أفغانستان أمراً غير مضمون العواقب.
وهناك خِيارٌ آخر لن يلقى مقاومة كبيرة يتمثل في «التحايل»؛ بمعنى أن يكتفي الناتو بقبول الدروس المستفادة من النزاع في أفغانستان كمدخلات لتشكيل المفهوم الإستراتيجي الجديد، ومن ثَمَّ التخلي عن جعل الأدوار الخارجية للحلف قضية مركزية لسلامة دول الحلف وأمنها.
ويبدو أن حلف الناتو يقف حالياً على مفترق طُرُقٍ صعب، ويمكن للحلف أن يتعامل بصورة مباشرة مع التحديات التي يواجهها بالتزامن مع الخلافات العميقة بين الأعضاء حول مسار المستقبل، ومن الممكن أيضاً أن يتغافل عن ذلك.
إن أيّاً من الخيارين يمكن أن يضعف التحالف أو يجدده. ولحل هذه المعضلة، فإن وجود قيادة قوية بين رؤساء حكومات الدول الأعضاء يُعَدُّ مسألةً ضروريةً من أجل ضمان اتباع النهج المناسب. وما لم يستطع المفهوم الإستراتيجي الجديد أن يجيب على هذه التحديات وأن يقنع جميع الأعضاء بدوره الجديد في العالم، فإن الحلف سوف يدخل مرحلة الاحتضار ويتحول إلى مجرد بقايا من الماضي، وأطلالٍ من الذكريات غير محمودة الذكر، بطبيعة الحال.