متى نرى مسؤولاً عربياً في غزة ؟
منذ فرض الكيان الصهيوني حصاراً خانقاً على قطاع غزة، بعد أن سيطرت عليه حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عام 2007م قبيل اندلاع انقلابٍ عليها بإيعاز من أمريكا وإسرائيل للقضاء على حركات المقاومة؛ فإن الكيان الصهيوني حرص على إبقاء قِطاع غزة معزولاً سياسيّاً واقتصاديّاً عن العالم الخارجي، فيما يُعَد أكبر سجن عرفه التاريخ البشري.
لكن هذا (الجدار) الخانق من الحصار السياسي والاقتصادي الذي لا يقل إحكاماً وقسوة عن جدار الفصل العنصري الذي تطوِّق به إسرائيل الضفة الغربية، وما يزال يتمدد بلا حدود، هذا الجدار استطاعت اختراقَه بعضُ الحركات المتعاطفة مع القضية الفلسطينية وبعض المسؤولين الأوروبيين؛ ونجحوا في فضح عنصرية الكيان الصهيوني ودمويته، وفي الكشف عن مدى المعاناة التي يعيشها أكثر من مليون ونصف مليون إنسان في قطاع غزة، تُركوا يموتون موتاً بطيئاً بعد أن فشل العدوان الصهيوني عام 2008م/ 2009م في كسر إرادتهم وإثنائهم عن التمسك بخِيار المقاومة، وفي حَمْلِهم على الانقلاب على حركة حماس وغيرها من الحركات الوطنية المقاوِمة.
وقد زار قطاع غزة مؤخراً السيد إبراهيم إبراهيم نائب وزير خارجية جنوب إفريقيا، وعقد جلسة مع إسماعيل هنية رئيس حكومة حماس، ثم لقاءً صحفيّاً مع الدكتور محمود الزهار، قال فيه: (جئنا إلى غزة لتأكيد موقفنا الداعم لنضال الشعب الفلسطيني. أتيت لأؤكد مناصرة شعب جنوب إفريقيا للشعب الفلسطيني في نضاله من أجل الحرية).
ومن جانب آخر قال الزهار: (إن زيارة مسؤول جنوب إفريقيا تحمل معاني رمزية هامة لدعم شعبنا الفلسطيني).
وأضاف: (إن هذه الزيارة دليل على دعم جنوب إفريقيا للحقوق والمطالب الفلسطينية وعلى رأسها إنهاء الاحتلال، وإنهاء الحصار الخانق على قطاع غزة، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة).
مشيراً إلى أنه شرح للمسؤول الضيف (طبيعة الأوضاع الراهنة في الساحة الفلسطينية في ظل الاحتلال الإسرائيلي والمساعي الرامية لتحقيق المصالحة الوطنية).
وجدير بالذكر أنه في الذكرى الأُولَى للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، زار القطاع ثلاثة برلمانيين سويسريين ضمن وفدٍ من 50 برلمانياً أوروبياً، وتفقدوا الآثار التي خلَّفها العدوان؛ ومن قَبْلُ كانت قافلة (شريان الحياة) أشهر القوافل التي اخترقت الحصار.
إن أهمية زيارة الدبلوماسي الجنوب إفريقي تكمن في أن الدولة التي يمثلها (جنوب إفريقيا) قد عانت من قَبْلُ من نظام الفصل العنصري (الأبارتيد)، وهو النظام الذي يريد الكيان الصهيوني أن يقوم على أساسه بزعم تحقيق (يهودية الدولة العبرية)؛ ولذلك يُعَدُّ الكيان الصهيوني توءماً للنظام العنصري في جنوب إفريقيا، والذي كانت بينهما علاقات سياسية واقتصادية قوية جدّاً.
ولم ينتهِ نظام الفصل العنصري هناك عام 1994م إلا بعد مقاطعة (جنوب إفريقيا) مقاطعة شاملة من دول كثيرة بسبب سياساته العنصرية تجاه السود، وشملت المقاطعة جميع المجالات: الأكاديمية والاقتصادية، وحتى الرياضية والثقافية.
ولذا فإن زيارة من هذا القبيل تُعَدُّ خطوة عملية مهمة لإنعاش الذاكرة الدولية بخطورة التمييز العنصري، فضلاً عن لفت الأنظار إلى معاناة شعب كامل جراء الحصار، خاصة ذاكرة الدول الغربية التي تغضُّ الطرف عن الممارسات العنصرية للدولة العبرية، وترفض توصيف الصهيونية بأنها عنصرية بزعم أن ذلك قد يُستغَل لمعاداة السامية!
كما أن هذه الزيارة مهمة أيضاً للشعوب العربية التي قد تعتريها لحظات ضعف ويأس، وتنسى أن الظلم مهما طال فهو إلى زوال، بإذن الله.
وإذا كانت الزيارات لقطاع غزة من بعض المسؤولين الأوروبيين، ومن المنظمات الأهلية والحقوقية التي نظمت قوافل إغاثية عديدة، لم تتوقف - كما أشرت توّاً - فإن هذه الزيارات تثير العديد من التساؤلات عن موقف الجانب العربي؛ سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، مثل:
هل يمكن أن تكون الاتفاقيات السياسية لبعض الدول العربية مانعاً من مساندة أهل غزة المحاصرين، أو على الأقل: من إظهار التعاطف معهم؟
وهل لنا أن نتخيل أن بعض الدول العربية حريصة على علاقتها بأمريكا وإسرائيل لدرجة أنها تخشى من دعم ومناصرة إخوة لها، وتُفَضِّل الصمت حيالهم؟
وأليست الدول الأوروبية التي زار غزة بعضُ مسؤوليها لها علاقات مع إسرائيل أقوى بكثير مع علاقات الدول العربية مع هذه الأخيرة؟
وهل المجتمع المدني العربي والمنظمات الأهلية العربية على هذه الدرجة من الضعف؛ بحيث لا يمكنهما مد الجسور مع غزة؟
وإذا كان بعض الناس لا يشجع زيارة غزة متوهِّما أنها قد تفتح المجال لمن يريد الترويج لزيارة المسجد الأقصى؛ وهي الزيارة التي تُعَدُّ تطبيعاً مع الكيان الصهيوني في الظروف الراهنة[1]، إذا كان هذا مفهوماً ووارداً: فما المانع من الاتصال تليفونيّاً من المسؤولين العرب بأهل غزة، ودعم حقهم في تقرير مصيرهم بأيديهم؛ بدلاً من ترك الضحية فريسة سهلة لهذا الغول الصهيوني الذي لا يعترف بقيم إنسانيةٍ أو بأُطر دولية؟
إنني أعتقد أن موقف جنوب إفريقيا وغيرها هو موقف يفضح التخاذل العربي، ويكشف أن الموقف العربي هو في أضعف حالاته.
وغني عن البيان أن هذا الموقف المتخاذل يفتح شهية الكيان الصهيوني - التي لم تتوقف يوماً - لابتلاع المزيد من المقدسات، وانتهاك المزيد من حقوق الشعب الفلسطيني.
لكن الشعب الفلسطيني المجاهد يبدي يوماً بعد يوم قدرة فريدة على الثبات والتحدي، مُتدرِّعاً بثقته بنصر بالله - سبحانه - وبإيمانه بحقه في أرضه ومقدساته، إلى أن يزول الكيان الصهيوني الغاصب، وما ذلك على المجاهدين الصابرين ببعيد.
[1] للعلم أنا مع من يرون عدم زيارة المسجد الأقصى الآن، لكن مع اعتقادي بالاختلاف الكامل بين وضع الأقصى ووضع غزة.