في ثلاثينيات القرن العشرين، ابتكر المسؤولون العسكريون والحكوميون اليابانيون مشروعًا لاستعمار مناطق في الصين يسكنها اليهود الفارّون من أوروبا. وأصبحت الفكرة معروفة بشكل غير رسمي باسم «خطة فوجو»، في إشارة إلى سمكة سامَّة، إذا لم يتم إعدادها على النحو اللائق
تحتفظ الذاكرة الجمعية للمجتمعات المسلمة بنقمتها المستحقة على الغرب الذي غرس الصهيونية غصبًا في بلادنا. ابتداءً من وعد بلفور البريطاني، وليس انتهاءً بالدعم الأمريكي غير المحدود في حربه المستعرة على الشعب الفلسطيني وأرضه ومُقدّراته، مرورًا ببقية الكتلة الأوروبية الغربية التي ما ادخرت جهدًا طوال تاريخها ببثّ أحقادها.
ولكي تتجمع لدينا الصورة كاملة؛ فإن الدول الشرقية لم ينقصها العداوة للأُمَّة المسلمة، فقط الجغرافيا منعتها من القيام بدور أكبر مما قامت به حقيقةً، وإن كان الأمر ليس معلومًا أو مشهورًا بين الناس.
وللتاريخ، فإن أول دولة اعترفت بدولة الكيان الصهيوني «إسرائيل»، هي الاتحاد السوفييتي، رغم أن المشهور هو أن الولايات المتحدة هي أول دولة اعترفت بـها.
تم الإعلان عن قيام دولة إسرائيل بتاريخ 14 مايو 1948م من خلال وثيقة إعلان قيام دولة إسرائيل، وعلى الفور اعترفت بها الولايات المتحدة، لكن بكونها حكومة مؤقتة بحكم الأمر الواقع. وتبعتها العديد من الدول بذات الصفة، لحين البتّ في القضية.
الدولة الوحيدة التي اعترفت بإسرائيل اعترافًا نهائيًّا وقطعيًّا هي الاتحاد السوفييتي بتاريخ 17 مايو 1948م، أي بعد إعلان دولة إسرائيل بثلاثة أيام فقط، هذا هو الاتحاد السوفييتي الذي اشتهر بدعمه للقضايا العربية والقضية الفلسطينية! أما الولايات المتحدة فغيَّرت حالة اعترافها القانوني بإسرائيل ليصبح اعترافًا قطعيًّا بعد عقد الانتخابات الإسرائيلية الأولى، بتاريخ 31 يناير عام 1949م.
أما تاريخ اتصال اليابان -وهي محور الحديث- باليهود، والاشتباك مع الفكرة الصهيونية بإقامة وطن قومي لليهود؛ فقد بدأ قبل إعلان دولة «إسرائيل» بكثير.
خطة فوجو: السمكة المسمومة
في ثلاثينيات القرن العشرين، ابتكر المسؤولون العسكريون والحكوميون اليابانيون مشروعًا لاستعمار مناطق في الصين يسكنها اليهود الفارّون من أوروبا. وأصبحت الفكرة معروفة بشكل غير رسمي باسم «خطة فوجو»، في إشارة إلى سمكة سامَّة، إذا لم يتم إعدادها على النحو اللائق، فإنها قد تقتل أيّ شخص يستهلكها.
ووفقًا لليابانيين الذين وضعوا «خطة فوجو»، فإن إنشاء هذه المستعمرات اليهودية في منشوريا -وهي منطقة تقع شمال شرق الصين- من شأنه أن يمثل دفعة اقتصادية للمناطق المحتلة، ويدفع للتقارب مع الجالية اليهودية في أمريكا الشمالية. (لاحِظْ أن ذلك كان قبل بداية الحرب العالمية الثانية).
وقد تأثرت تلك المجموعة بالمنشورات التي ذاعت عن اليهود مثل بروتوكولات حكماء صهيون، والتي كانت قد اكتسبت شهرةً واسعةً عندما نُشرت في روسيا القيصرية في بداية القرن العشرين. لذلك رأى مجموعة من الخبراء اليابانيين أطلقوا على أنفسهم «الخبراء في الشؤون اليهودية» أن اللحظة هي لحظة اليهود، لذا دعوا إلى استخدام اليابان «القوة اليهودية» المزعومة لصالحها.
في عام 1931م، وصل هجوم التوسع الياباني في الصين إلى منشوريا، وأعلن عن إنشاء مانشوكو، «دولة دمية»، وقد اجتذبت المنطقة، بأهميتها الإستراتيجية، وبسبب موقعها القريب من الاتحاد السوفييتي واحتياطياتها من المواد الخام مثل الفحم والحديد؛ الإستراتيجيين والعسكريين اليابانيين الذين أدركوا بعد الغزو صعوبة جمع الاستثمارات اللازمة، والتي من شأنها تمكين الاستكشاف الاقتصادي للمنطقة الخاضعة للاحتلال الياباني، والاستفادة منها.
وبدأ العسكريون يتلقون الدعم من رجال الأعمال اليابانيين الذين آمنوا بالفكرة وبإمكانية جذب الاستثمارات من اليهود، وخاصةً من يهود الولايات المتحدة. وبدأت صياغة الخطط لإقامة المستعمرات، واختيار مواقع في منشوريا، وحتى في المناطق القريبة من شنغهاي؛ حيث كان هناك بالفعل وجود يهودي.
وزعم واضعو «خطة فوجو» أن هذه المجتمعات سوف تتمتع «بحرية الدين والاستقلال الثقافي والتعليمي»، ولكن «سوف تحتاج إلى السيطرة عليها»؛ لمنعها من أن تصبح «تهديدًا» للحكومة اليابانية.
وبحسب كتاب الحاخام مارفين توكاير وماري شوارتز؛ فقد وُلدت خطة فوجو في عام 1934م، وفي عام 1938م نُوقِشَت في «مؤتمر الوزراء الخمسة»، عندما خاض بعض الشخصيات الرئيسية في الحكومة اليابانية في المناقشة حول هذا المشروع. وأشار منتقدو الفكرة إلى التحالف مع ألمانيا النازية، والذي بات يتعزّز بخطًى متسارعة عشيةَ الحرب العالمية الثانية، كأولوية.
وفي عام 1939م، كان الهجوم النازي على بولندا بمثابة بداية الحرب العالمية الثانية، وبحلول عام 1940م، تم إلغاء «خطة فوجو» بالكامل. وأدى تحالف طوكيو مع برلين، وتوقيع المعاهدة الثلاثية (ألمانيا وإيطاليا واليابان)، إلى القضاء على المشروع. وفي ديسمبر/كانون الأول 1941م، جاء دور العسكرية اليابانية لضرب الولايات المتحدة، عن طريق الهجوم على بيرل هاربور.
انتهت خطة «فوجو» عمليًّا، والتي أسَّسَت لعلاقات وطيدة بين اليابانيين والمجموعات الصهيونية التي كانت تطالب بوطن قومي، وبُنِيَت على رؤية إستراتيجية مفادها أن اليهود يمتلكون من المقومات التي تُؤهّلهم للتأثير بالعالم، لذلك من المصلحة الاتصال بهم ودعمهم.
هذه هي العقلية اليابانية في التعامل مع الصهيونية، والتي لم تبدأ مع خطة فوجو، ولم تنتهِ بانتهائها.
الموقف من وعد بلفور
وافقت السلطات اليابانية على فكرة إنشاء مجتمعات وطن لليهود في فلسطين، بعد وقت قصير من إعلان بريطانيا وعد بلفور في عام 1917م. وجاءت الموافقة على المشروع اليهودي في وقت مبكر من ديسمبر/كانون الأول 1918م، عندما أرسلت اليابان بيانًا غير رسمي إلى السيد E. S. Kadoorie، الممثل للجمعية التجارية في نيويورك -عبر السفارة الفرنسية في طوكيو- يتضمن رسالة تأييد نصَّت على: «سعادة الحكومة اليابانية برغبة الصهاينة في إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين». وأشارت إلى أن «اليابان تُعرب عن تعاطفها مع تحقيق تطلعاتكم [الصهيونية]».
ثم جاء التأييد أكثر صراحةً في يناير/كانون الثاني 1919م عندما أرسل السفير الياباني إلى بريطانيا العظمى، تشيندا سوتيمي، رسالة خاصة إلى حاييم وايزمان رئيس الاتحاد اليهودي البريطاني، أعلن فيها باسم الإمبراطور أن «الحكومة اليابانية تشارككم بكل سرور التطلعات في توسُّع نطاق الوطن اليهودي في فلسطين، وتتطلع باهتمامٍ وتتعاطف مع تحقيق هذه الأهداف وعلى الكيان المقترح».
واعترفت اليابان بسياسات بريطانيا في فلسطين، مقابل موافقة بريطانيا على السيطرة اليابانية على شبه جزيرة شاندونغ في الصين.
كان المفكرون اليابانيون المؤثّرون، مثل: «أوشيمورا كانزي» و«نيتوبي إنازو»، والأستاذ في السياسة الاستعمارية في جامعة طوكيو «تادو يانايهارا»، داعمين للصهيونية أيضًا، وزعم «يانايهارا» أن الحركة الصهيونية «ليست أكثر من محاولة لضمان حق اليهود في الهجرة والاستعمار من أجل إنشاء مركز للثقافة الوطنية اليهودية»؛ دفاعًا عن الحماية الخاصة المقدَّمة لليهود في سعيهم لوطن قومي على أساس قناعة بأن «القضية الصهيونية شكَّلت مشكلة وطنية تستحق دولة قومية»، ورأى أن المشروع الصهيوني -بما في ذلك الأساليب التعاونية للمستوطنات الزراعية- يُعدّ نموذجًا يمكن لليابان أن تحاكيه.
وفي مايو 1952م؛ أي: بعد أربع سنوات فقط من إعلان الدولة اللقيطة، بدأت العلاقات الدبلوماسية بين اليابان و«إسرائيل».
في المحطة الأخيرة والموقف من طوفان الأقصى؛ أعلنت وزارة الخارجية اليابانية عن حزمتين للعقوبات شملت الأولى 9 أشخاص وشركة صرافة في قطاع غزة، ووصفتهم بأنهم مُموّلون ونشطاء في حركة المقاومة الإسلامية (حماس). ثم أعلنت الوزارة في ديسمبر/ كانون الأول 2023م عن فرض عقوبات على 3 من أعضاء حركة حماس؛ بحجة ضلوعهم في هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي على مستوطنات غلاف غزة.
وكذلك أعلنت وزيرة الخارجية اليابانية يوكو كاميكاوا خلال زيارتها إلى المنطقة عن تفهمها للهجوم الإسرائيلي على مخيم جباليا، رغم ما تخلّله من مقتل أعداد كبيرة من المدنيين.
هذه هي حقيقة الجزء الآخر «الشرقي» من العالم؛ اليابان، روسيا، الصين، الهند. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل دعَم هؤلاء حقًّا قضايانا؟ وهل كانت مواقفهم التي تأسفوا فيها على ضحايانا حقيقية؟
على كل حالٍ، وأيًّا ما كانت الإجابة، فإن مَن يأكل من السمكة المسمومة لا بد أن يُصيبه سُمّها، مهما ادَّعى أنه يُحْسن الطبخ.