فلا يجوز للمسلم أن يحكم على أخيه إذا فعَل فعلة؛ حتى وإن كان في ظاهرها السوء؛ فقد يكون لدى صاحبها ما يُبرِّرها به بدليل شرعي.
عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى مكة المكرمة عام الحديبية، وتحديدًا عندما اقترب من مكة، وأصبح على وشك الدخول، توقَّفت الناقة ورفضت السير!
هنا صاح الصحابة -رضي الله عنهم-، وقالوا: «خَلَأَتِ القَصْوَاءُ».
والقصواء: اسم ناقة النبي صلى الله عليه وسلم .
و«خَلَأَتِ القَصْوَاءُ»؛ أي: تمرَّدت وساء خُلقها، ورفضت السير، وعصت راكبها.
فغضب النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وقال مدافعًا عن الناقة: «مَا خَلَأَت القَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»[1].
يعني: عندما توقفت النَّاقة قبل دخولها مكة، ورفضت مُواصلة السير؛ اتَّهمها الصحابة بتُهمة واحدة، وأجمعوا في رأيهم على هذه التهمة، وقالوا: لقد تمردت القصواء؛ ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ، ورفضت الطاعة، وأبت إكمال السير، وساء خُلقها، ولم تَعُد تستجيب للنبي صلى الله عليه وسلم .
ولكن، ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ؟
لقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الاتهام، ودافَع عن الناقة دفاعًا قويًّا، وقال صلى الله عليه وسلم حُكْمًا جازمًا: «ما تمردت القصواء، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُق».
السؤال: ما دليل النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك الحُكم في صالح «القصواء»؟
كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: إني عاشرت هذه الناقة، فلم أرَ منها سُوء خُلق قط. بل كانت ناقةً طائعةً لم تتمرد يومًا عليَّ. وحُسن معاشرتها لي في الفترة الماضية يجبرني على حُسن الظن بها في هذا الموقف. ومن المؤكد أن هذه الناقة عندها ما يُبرّر فِعلها في رفض السير. وإنَّ رفضها للسير إنما هو من الله -سبحانه وتعالى-.
وفي هذا الموقف فوائد عظيمة، ونستعين بالله -سبحانه وتعالى- على ذِكْر بعضٍ من هذه الفوائد العظيمة:
الفائدة الأولى: أنَّ المسلم لا يجوز له أن يحكم على أخيه المسلم بغير تبَيُّن:
فلا يجوز للمسلم أن يحكم على أخيه إذا فعَل فعلة؛ حتى وإن كان في ظاهرها السوء؛ فقد يكون لدى صاحبها ما يُبرِّرها به بدليل شرعي.
ولا بد أن يسمع منه أولاً قبل الحكم عليه، ويسأله: لماذا فعل هذا الفعل. لأن الناقة عملت عملًا في ظاهره السوء، وهو الامتناع عن المسير، ورفض دخول مكة، وعصيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن الناقة معذورة في ذلك؛ لأنها لم تمتنع من نفسها؛ بل منعها الله -سبحانه وتعالى- كما منع الفيل من دخول مكة من قبلُ؛ وذلك تعظيمًا للبيت الحرام؛ حتى لا يقع فيه القتال.
الفائدة الثانية: إنَّ المسلم لا يجوز له أن يحكم على أخيه المسلم من خلال موقف واحد فقط:
بل يجب أن ينظر إلى سيرته السابقة معه، فالمسلم يُقيِّم فِعْل أخيه المسلم، ويحكم عليه مراعيًا تصرفاته السابقة معه؛ وذلك أن الناقة عندما فعلت فعلاً سيئًا، فقد حكم الصحابة -رضي الله عنهم- عليها بظاهر فِعْلها من خلال هذا الموقف الوحيد.
لكن النَّبِي صلى الله عليه وسلم رفَض هذا الميزان، وحكم على النَّاقة باعتبار ما رآه منها في العهد السابق، فقد عاشر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الناقة من قبل، فلم يرَ منها إلا الطاعة، وحُسن الخُلق، والمُوافقة في السير.
ويأبى العقل والحكمة أن يصدقا بأنَّ الناقة ستُغيّر خُلقها في طرفة عين، فلا بد أن شيئًا ما طرأ عليها منعها من مواصلة السير؛ فاستنبط النبي صلى الله عليه وسلم مانع الناقة من السير، وهو أنه منعها الذي منع فيل أبرهة من دخول مكة، وهو الله -سبحانه وتعالى-.
فقد أحسن النبيُّ صلى الله عليه وسلم الظنَّ بالناقة، وأوجد لها مبررًا شرعيًّا لم تخبر الناقة به عن نفسها، وذلك رعايةً لحُسْن خُلقها في الزمن الماضي.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أحسن الظن بناقته لحُسْن معاشرتها له في الزمن الماضي، والتمس لها عذرًا شرعيًّا لم تنطق هي به، فأولى بك -أيها المسلم- أن تُحْسن أنت الظن بأخيك المسلم؛ فلا يجوز أن تحكم عليه بموقف واحد وتنسى له كل مواقفه السابقة الطيبة، بل يجب عليك أن تفسّر له هذا الموقف مُراعيًا ما كان منه في الزمن السابق من مواقف طيبة، وأعمال صالحة.
الفائدة الثالثة: إحسان الظن بالله -سبحانه وتعالى- أولى من كل شيء:
إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أحسن الظن بناقته لحُسْن عَهْده بها، وإذا كان هذا يدفعنا لإحسان ظننا بإخواننا لحُسْن عهدهم بنا، فأولى بنا، ثم أولى بنا إذا كنا في كُربة، أو محنة، أو ابتلاء أن نُحسن الظن بالله -سبحانه وتعالى-، وأن نكون مُوقنين أن الله -عز وجل- سيُفرّج كَربنا كما فرَّج كروبنا السابقة، وسيُخرجنا من البلاء سالمين -بفضل الله سبحانه وتعالى-، كما أخرجنا من البلاء قبل ذلك.
الفائدة الرابعة: الكثرة لا تعني الصواب
لقد حكم الصحابة -رضي الله عنهم- على الناقة أنها متمردة، وكان حُكمهم خاطئًا، فلم تعصمهم الكثرة من الخطأ؛ فالحكيم لا يغترّ بالكثرة، ولا يستوحش من القلة، فقد يكون الحق مع الواحد، وقد يقع الكثيرون في الخطأ.
الفائدة الخامسة: عدم موافقة الكثرة الخاطئة
فقد خالف النبي صلى الله عليه وسلم رأي الصحابة -رضي الله عنهم- مع كثرتهم، ولم يُوافقهم لكثرة عددهم، فقد علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نتَّبع الحق وإن كان مع واحد، وأن نخالف الخطـأ وإن قال به كثرة.
الفائدة السادسة: إنصاف الأدنى من الأعلى، والأبعد من الأقرب
لا ريب أن رتبة الصحابة -رضي الله عنهم- أعلى من رتبة الناقة، ولا ريب أن الصحابة -رضي الله عنهم- أحبّ إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم من الناقة؛ ومع هذا وذاك فقد نصر النبي صلى الله عليه وسلم الناقة مع دنوّ رتبتها وتأخّر محبتها على الصحابة -رضي الله عنهم- مع رفعة رتبتهم وعظمة محبتهم في قلبه صلى الله عليه وسلم .
فقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الموقف أن العدل يقتضي نُصرة الحق حتى وإن كان مع الأقل رتبة والأضعف محبة؛ فيجب أن تنصر الحق حتى وإن كان مع الغريب، وأن تبين الخطأ حتى وإن صدر من ابنك.
الفائدة السابعة: الذَّبُّ عن المسلم أولى من الذَّبّ عن الناقة
إذ ذبَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الناقة المظلومة، ودافَع عنها دفاعًا شديدًا، ونفَى عنها الاتهام الظالم من الصحابة -رضي الله عنهم-؛ فأولى بالمسلم أن يدافع عن أخيه المسلم المظلوم، إذ نُصْرَة المظلوم من أعظم صفات المسلم التي علَّمها لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم . وهذه بعض الفوائد من هذا الموقف العظيم.
الفائدة الثامنة: حُسْن المعاشرة
تأمل أيها المستبصر طريق الحق؛ هذه معاشرة النبي صلى الله عليه وسلم لناقة عجماء؛ فأين هذا الرقي النبوي في المعاشرة من قوم يتعاشرون على سوء الظن، والطعن في الأعراض، والتشهير بالأخطاء؟! فكل ما نرجوه أن يخبرونا أيّ مذهب يتّبعون، وبأيِّ هَدْي يتأسون؟!
فيا مَن تؤمنون بالله تعالى، ويا أتباع رسول الله... هذا مثال من معاشرة نبينا صلى الله عليه وسلم للحيوانات! ألا فلنجعلها منهجنا الذي نقتدي به في معاشرتنا لأهلينا، وأبنائنا، وإخواننا، وجيراننا، وسائر الناس؛ فإن حسن المعاشرة للناس أولى -وربي- منها للحيوانات.
اللهم أعنَّا برحمتك على الاهتداء بهدي نبينا صلى الله عليه وسلم ، والعمل بسُنّته، وارزقنا حسن المعاشرة، ولا حول ولا قوة إلا بك.
[1] رَوَاه الْإِمَام أَحْمَد (18909)، والْبُخَارِي (2731) في صحيحه.