فالديمقراطيون كانوا الجسم السياسي الأول الذي نجح في اجتذاب جماهير الناخبين. والأول الذي عقد مؤتمرات لتسمية المرشحين على نحوٍ منتظم. والأول الذي يدير شبكة من الجرائد الحزبية،
كامالا هاريس، هي أول امرأة تصل إلى أرفع مستوى في الدولة؛ منصب نائب الرئيس جو بايدن منذ انتخابات عام 2020م، بعد هيلاري كلينتون التي وصلت إلى منصب وزيرة الخارجية بين عامي 2009 و2013م. وهي المرأة الثانية التي تترشح لرئاسة الولايات المتحدة، بعد هيلاري كلينتون التي نافست دونالد ترامب عام 2016م، وفشلت.
ولو فازت هاريس بالرئاسة في نوفمبر المقبل فلن تكون فقط أول امرأة تفوز بالرئاسة، بل أيضًا أول امرأة ملونة؛ إذ هي من أصول إفريقية من جهة الأب، وآسيوية هندية من جهة الأم.
لكنَّ وصول هاريس إلى موقع المنافسة على المنصب لم يكن سهلًا، بل كان من باب الاضطرار الحزبي، بعد تدهور الحالة الذهنية للرئيس الحالي، والذي كان أداؤه كارثيًّا في المناظرة مع دونالد ترامب المرشح الجمهوري، أواخر يونيو الماضي.
ولم يستسلم بايدن لضغوط كبار شخصيات الحزب الديمقراطي كي يتنحّى عن السباق، إلا بعد أسابيع من الأخذ والردّ، علمًا بأنه عندما خاض الانتخابات الرئاسية عام 2020م، ضد ترامب وفاز عليه، وعَد قادة الحزب بأن تكون رئاسته لولاية واحدة فقط؛ لكِبَر سنّه (عمره الآن 81 سنة)، على أن يُمهِّد الطريق لنائبته كامالا هاريس (59 سنة) لخوض الانتخابات من بعده، أو ربما غيرها.
لكن ما حدث خلال السنوات الأربع الماضية، أنّ عصابة بايدن من حوله، ومن ضمنهم أسرته الصغيرة لا سيما زوجته «جيل»، عملوا على تهميش هاريس، تمهيدًا للولاية الثانية لبايدن، إلا أنّ مسعاهم فشل، وبات الآن مصير الحزب الديمقراطي، ومصير الولايات المتحدة بيد كامالا هاريس المدعية العامة السابقة، التي لم تُؤخَذ على محمل الجدّ في السنوات الفائتة، وكأنها كانت جزءًا من الديكور لمغازلة الأقليات العرقية في الولايات المتحدة، كقوى انتخابية ملتزمة، وهو كان ديدن الحزب الديمقراطي منذ أصبح حزب المهاجرين والأقليات العرقية والدينية، بعدما كان في بداياته حزب البيض الجنوبيين الإنجيليين، وصولًا إلى عشرينيات القرن العشرين، حين بدأ الوضع يتحوّل. وتبادل الحزبان المتنافسان المواقع، فأصبح الحزب الجمهوري هو حزب البيض الإنجيليين، وبات الحزب الديمقراطي هو حزب الأقليات الدينية والعرقية.
وما زاد التوتر بين الحزبين، وانعكس ذلك في الظهور الصادم لشخصية دونالد ترامب المتطرفة وهيمنته على الحزب الجمهوري: انقلاب الميزان الديمغرافي في الولايات المتحدة بسبب الهجرات المتواصلة إلى الولايات المتحدة من ذوي الأصول اللاتينية الكاثوليكية، ونسبة الإنجاب المرتفعة لدى هؤلاء بالمقارنة مع نسبة إنجاب البيض.
وحتى عندما لجأ الديمقراطيون إلى ترشيح هاريس على عجَل، لم يكونوا يأملون بالانتصار على ترامب؛ فبعد نجاته بأعجوبة من الاغتيال في 13 يونيو، تعاظم التعاطف الشعبي معه، واستطاع اجتذاب بعض أصوات المستقلين والمعترضين في الحزب الجمهوري.
فيما كان الخوف المركزي عند الديمقراطيين هو خسارة حزبهم لمواقعه في مجلسي الكونغرس، ولحوق هزيمة تاريخية بهم لن يفيقوا منها إلا بعد سنوات.
المفاجأة الآن، والتي قد تكون جزءًا من جهد المؤسسات، الإيحاء بقدرة هاريس على كسر صعود ترامب، مترافقًا مع تدفق أموال المتبرعين لحملتها الانتخابية، وانضمام عشرات آلاف المتطوعين إلى حملتها في الأسبوع الأول من حصولها على تأييد معظم المندوبين، بانتظار عقد المؤتمر الرسمي للحزب في أغسطس.
لكنَّ قراءة هادئة لما يحدث في صفوف كلّ من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، تُبيِّن أنّ هناك أزمة حقيقية فيهما؛ إذ كيف يترشح عجوزان من كلا الحزبين لخوض معركة تحدّد مصير السياسات العالمية وليس سياسات أمريكا فقط؟ هل عجز الديمقراطيون والجمهوريون معًا عن إنتاج شخصيات من الشباب أو الأحدث سنًّا؟ وإذا كان جو بايدن اضطر إلى التنازل عن طموحه، فلماذا استسلم جهابذة الحزب الجمهوري لترّهات دونالد ترامب وأكاذيبه؟
فيما يلي محاولة لفهم تطوّرات الحزب الديمقراطي وتحوّلاته منذ تأسيسه، بوصفه حزب الشعب بتلاوينه، وحزب الرجل العادي كما يزعم مُنظِّروه لا حزب البيض الإنجيليين وحزب رجال الأعمال كما بات يُعرَف به الحزب الجمهوري.
حزب البيض الجنوبيين
عقب حرب الاستقلال عن بريطانيا العظمى (1775-1783م)، نشأ في الولايات المتحدة تياران سياسيان؛ هما: الحزب الجمهوري والحزب الفدرالي، وهما نتاج الخلاف بين توماس جيفرسون (توفي عام 1826م)، وألكسندر هاميلتون (توفي عام 1804م)، عندما كانا عضوين في الحكومة الأولى لولاية جورج واشنطن (توفي 1799م). هاميلتون والفدراليون كانوا يؤيدون قيام حكومة مركزية قوية، ومعظم أنصارهم من طبقة الصناعيين والتجار. أما جيفرسون والجمهوريون فكانوا يعارضون تعزيز سلطة الحكومة المركزية، ومعظم أنصارهم من المزارعين.
وخلال حرب (1812-1815م) بين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى بسبب الخلاف على الحقوق البحرية بين الدولتين، حاول عدد من المتطرفين في الحزب الفدرالي، تدبير انفصال «إنجلترا الجديدة» عن الاتحاد، وهذه المنطقة تضمّ ست ولايات في الشمال الشرقي. فلم ينجحوا سوى في تلطيخ سمعتهم بوصفهم خونة، واندثر حزبهم على المستوى الوطني عام 1816م، وانضمّت فلولهم إلى الحزب الجمهوري. لكنّ مبادئ الحزب الفدرالي لم تمت. عاشت الولايات المتحدة في السنوات التالية «حقبة المشاعر الجيدة Era of Good Feelings ». لكنّ الحزب الجمهوري ظلّ منقسمًا إلى تيارات متناحرة. وبعد 12 سنة فقط، تمكَّن المحامي والسياسي اللامع مارتن فان بورين (توفي عام 1862م) من تأسيس الحزب الديمقراطي من رحم الحزب الجمهوري، وعلى أنقاض الحزب الفدرالي[1].
لقد قام فان بورين بدور مركزي ابتداءً من عشرينيات القرن التاسع عشر في بناء منظمة من شركاء غير متوقّع اجتماعهم معًا. وحملت المنظمة أسماء مختلفة، من حزب أندرو جاكسون (الرئيس السابع للولايات المتحدة بين عامي 1829 و1837م)، وحزب الجمهوريين، وحزب الجمهوريين الديمقراطيين. وإلى عام 1840م، استقر أتباع الحزب على تسمية أنفسهم بـ«الديمقراطيين»، أو بتعبير فخم هو «الديمقراطية». لكن ما أنجزوه -بحسب المؤرخ مايكل كازين- كان فريدًا في التاريخ العالمي.
فالديمقراطيون كانوا الجسم السياسي الأول الذي نجح في اجتذاب جماهير الناخبين. والأول الذي عقد مؤتمرات لتسمية المرشحين على نحوٍ منتظم. والأول الذي يدير شبكة من الجرائد الحزبية، والأول الذي يؤسّس لجنة وطنية واجتماعًا لأعضاء الكونغرس المنتمين إلى الحزب. وبهذا الجهاز القوي، هيمن الديمقراطيون على السياسة القومية قبل حقبة الحرب antebellum era، والتي تمتد بالنسبة لاتحاد الولايات الجنوبية، من نهاية الحرب مع بريطانيا (1812-1815م) إلى بداية حرب الانفصال أو الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب عام 1861م، والتي استمرت حتى عام 1865م. كما ربح الديمقراطيون الرئاسة مرتين بين عامي 1828 و1856م، وسيطروا على مجلسي الكونغرس طوال تلك المدة تقريبًا.
المكوّن الوحيد الذي لم يبذل مسؤولو الحزب وناشطوه أيّ جهد لاجتذابه، هو الأفارقة الأمريكيون. وحتى اندلاع الحرب الأهلية، كان الديمقراطيون في أيّ منطقة يحافظون على واقع العبودية، ويمنعون السود الأحرار من المشاركة السياسية.
إنّ الخوف من التنافس العرقي دفع العمال البيض إلى اعتبار مؤيدي إلغاء العبودية تهديدًا لنمط معيشتهم. كان تجار المدن وصناعيوها يقومون بأعمال تجارية جيدة من خلال تزويد المزارع الجنوبية بما تحتاج إليه من الثياب والآلات والبضائع الفاخرة. والديمقراطيون كانوا يعتقدون مثل معظم الأمريكيين بأن البيض فقط هم من يستحقون حكم أنفسهم، وأنهم قادرون على ذلك. لذلك، فإن الوصف الذي وصف الحزب نفسه منذ تأسيسه بأنه «حزب الشعب» كان متناقضًا في ممارساته مع ما كان يتميّز بتنوّعه اللافت. مُؤسِّس الحزب نفسه (فان بورين) ترعرع في منزل يضمّ ستة عبيد، واستمر في توظيف الرجال والنساء السود المملوكين من آخرين، عندما وصل إلى منصب نائب الرئيس (1833-1837م) ثم موقع الرئيس (1837-1841م).
كان البيض الجنوبيون هم الكتلة الصلبة انتخابيًّا للحزب الديمقراطي، ما عدا فترة الحرب الأهلية. ومن دونهم كان من الصعب الفوز بالرئاسة أو بالأغلبية في الكونغرس. كان فان بورين وحلفاؤه قادرين على بناء الحزب الديمقراطي من الأمريكيين البيض استنادًا إلى تغيّرات متسارعة في المجتمع الأمريكي خلال الربع الثاني من القرن التاسع عشر. فقد زاد عدد السكان نتيجة الهجرات المتلاحقة إلى الولايات المتحدة بنسبة 240% بين عامي 1820 و1850م، وانضمّت ولايات جديدة، من ماين إلى فلوريدا، ومن ميسوري إلى أوراغون وكاليفورنيا. وهؤلاء الأمريكيون الجدد، أنعشوا السوق المحلي بالحرفيين والمزارعين وروّاد الأعمال الذين يستعملون تقنيات جديدة. وكانت البلاد ورشة كبيرة للبنى التحتية والمواصلات والبريد، وتأسيس الصحف، والبنوك. كانت المصانع تُنشَأ باطّراد، لكنّ الولايات المتحدة ستظلّ بلدًا زراعيًّا حتى نهاية القرن التاسع عشر. ولهذا دلالاته الاجتماعية والسياسية[2].
التحوّل الانقلابي
قد يبدو الحزب بنسخته الحالية، الأكثر تقدّمية في الولايات المتحدة؛ بحسب ما يقول المؤرخ مايكل كازين، في رأي نشره في مجلة بوليتيكو الأمريكية. لكن في عام 1860م، انقسم الديمقراطيون في الشمال والجنوب بشدة حول توسّع العبودية، لدرجة أنه انتهى بهم الأمر بعقد مؤتمرين منفصلين، كلّ واحد منهما قدّم مرشحًا غير مقبول إطلاقًا من الآخر.
ومع انقسام الحزب إلى قسمين، فاز الجمهوريون بأغلبية واضحة في المجمع الانتخابي بزعامة أبراهام لنكولن (اغتيل عام 1865م)، وبـ40% فقط من الأصوات الشعبية. وهو الذي بادَر إلى إنهاء العبودية في البلاد. انتعش الديمقراطيون في نهاية المطاف في منتصف سبعينيات القرن التاسع عشر، وذلك بفضل الكساد الحادّ، وطريقة إعادة الإعمار في الجنوب بعد الحرب الأهلية (1861-1865م) بقيادة الحزب الجمهوري. وما بين 1890-1920م، كان للجمهوريين، مع شخصيات مهمة مثل تيدي روزفلت (توفي عام 1919م) وبوب لا فوليت (توفي عام 1925م)، الريادة في مكافحة الفساد، وإصلاح العملية الانتخابية، والحدّ من فساد رأس المال الكبير، وتطوير برامج الرعاية الاجتماعية، أي كان الحزب الجمهوري على عكس الحزب الديمقراطي من جهة الاهتمام بالرعاية الاجتماعية، ومكافحة تغوّل الرأسمالية.
عاد الديمقراطيون بقوة عام 1912م مع الرئيس وودرو ويلسون (توفي عام 1924م)، والذي استمرت ولايته إلى عام 1921م. تبنّى ويلسون برنامجًا تقدّميًّا بشأن المال والعمل، وقاد بلاده خلال الحرب العالمية الأولى عام 1917م، وكان المهندس الرائد لتأسيس عصبة الأمم، وعُرفت سياساته الخارجية به، فقيل: إنها «الويلسونية»، والتي تتضمّن أربعة عشر مبدأ طرحها عقب الحرب، لا سيما حق تقرير المصير للشعوب.
وجاء السقوط الثاني للحزب الديمقراطي خلال عشرينيات القرن العشرين، عندما لم يستطع القادة الجنوبيون تحمّل القوة الصاعدة للكاثوليك واليهود في المدن الكبرى. وكما كان الديمقراطيون حزب البيض الإنجيليين في الجنوب، انعكس الوضع فأصبح الجنوب تدريجيًّا من أبرز معاقل الحزب الجمهوري المحافظ، وأضحى الحزب الجمهوري هو حزب البيض الإنجيليين.
المرحلة الفاصلة
أما المرحلة الفاصلة بين تاريخين، فهي حقبة «الاتفاق الجديد New Deal»، وهو عبارة عن سلسلة من البرامج المالية الإصلاحية التي أطلقها الرئيس الديمقراطي فرانكلين روزفلت (توفي عام 1945م)، وهو الوحيد الذي حكم لثلاث ولايات متتالية بين عامي 1933 و1945م، وكان هدف تلك البرامج مواجهة «الكساد العظيم Great Depression» (1929-1939م). ومنذ ذلك الوقت، استلم الحزب الديمقراطي زمام المبادرة في مجال ترويض تجاوزات الرأسمالية، وتعزيز المصالح الاقتصادية للطبقة المتوسطة والطبقة العاملة، والضغط من أجل العدالة الاجتماعية.
وبالمقابل، تبنّى الحزب الجمهوري تأييد مصالح قطاع الأعمال التجارية، وبات منتميًا بقوة إلى التيار المحافظ. ثم جاءت مشاريع «المجتمع العظيم Great Society» على يد الرئيس الديمقراطي ليندون جونسون (توفي عام 1973م). هذه المشاريع هدفت إلى تحسين معيشة ذوي الرواتب المتدنية، وتعزيز الحقوق المدنية، ودعم قطاعات التعليم والمواصلات، ومعالجة مشكلات المدينة وفقر الريف، خلال إكمال ولاية الرئيس جون كينيدي (اغتيل عام 1963م) نائبًا ثم رئيسًا، ما بين عامي 1963 و1969م.
وفي أعقاب هزيمة مرشح الحزب للرئاسة هوبرت همفري (توفي عام 1978م)، أمام المرشح ريتشارد نيكسون (توفي عام 1994م) عام 1968م، سيصبح الحزب الديمقراطي الأكثر تنوّعًا ديموغرافيًّا في تاريخ الولايات المتحدة، وسيكسب تأييد حركات التحرّر السود، والحركات النسوية، والأمريكيين من ذوي الأصول اللاتينية؛ باعتبار أنّ الحزب يحتضن مطالبهم بالإصلاح الديمقراطي الحقيقي.
ومع ذلك، وعلى مدى ربع قرن، لم يتحقّق أيّ إجماع بين نشطاء الحزب وسياسييه حول كيفية المضي قدمًا لتحقيق الأهداف. بل اختلفوا اختلافًا عريضًا في السياسات الداخلية والخارجية. باستثناء عام 1976م، عندما ساعدت فضيحة ووترغيت في آخر عهد نيكسون، في فوز الديمقراطي جيمي كارتر بهامش ضيق، وخسر الديمقراطيون كلّ سباق إلى البيت الأبيض بهوامش ساحقة[3].
ومنذ تأسيسه، لم يتمتع الحزب الديمقراطي أبدًا بفترة طويلة من الانسجام الداخلي. ولأن أنصاره ينتمون إلى مناطق متنوّعة ومجموعة متنوّعة من الطبقات والتجمعات العرقية؛ فقد كانوا دائمًا معرّضين لخطر الانزلاق في صراعات دون حسم، مما يساعد الجمهوريين على الفوز في الانتخابات وتحديد مسار السياسة الوطنية. ونجاح بيل كلينتون في الوصول إلى البيت الأبيض (1992-2000م)، كان بسبب أمرين، وسطيته، وتجاوز الخلافات الداخلية في الحزب، والتركيز على ما ينفع المواطنين[4]. ومنذ ذلك الحين، تناوب الديمقراطيون والجمهوريون على الرئاسة، فبعد ولايتي كلينتون، فاز جورج بوش الابن بولايتين (2000-2008م)، كانتا حافلتين بالحروب وما تبعها من أزمة اقتصادية طاحنة، الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م في الولايات المتحدة، واجتياح أفغانستان عام 2001م، واجتياح العراق عام 2003م، والأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008م. ثم جاء باراك أوباما الرئيس الديمقراطي الأسود ففرض إيقاعه على البلاد وعلى الحزب، بولايتين (2008-2016م)، وقد تميّز حكمه بالانسحاب التدريجي من مسارح القتال، ومعالجة الأزمة الاقتصادية. ثم أصبحت المعركة سجالًا، أسقط دونالد ترامب المرشّحة الديمقراطية هيلاري كلينتون عام 2016م. ثم هزم جو بايدن، ترامب، بعد أربع سنوات، في احتدام أيديولوجي وسياسي لم يسبق له مثيل. ووقعت أحداث غير مسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة؛ فترامب رفض نتائج انتخابات 2020م، وحرّض أتباعه على اقتحام الكونغرس. حُوكِمَ ترامب على عدد من الجرائم المالية وغيرها، وأُدين في عشرات من التهم، ومع ذلك منحته المحكمة العليا المكوّنة من أغلبية من القضاة المحافظين، الحصانة في سابقة قضائية لا تخلو من تحيّز سياسي.
الانقسام الاجتماعي حول الهجرة
بالنظر إلى أنّ أبرز شعارات ترامب: إخراج الملايين من المهاجرين غير الشرعيين من الولايات المتحدة، وفرض سياسات حمائية صارمة على الحدود بين الولايات المتحدة وكلّ من المكسيك وكندا؛ حفاظًا على الهوية الوطنية، فلا يمكن إدراك خطورة تلك الشعارات وأبعادها، من دون معرفة الاتجاهات الديموغرافية حتى منتصف القرن الحالي، ومعرفة آراء الأمريكيين أنفسهم بهذه التحوّلات، وهل هي إيجابية أم سلبية بنظرهم؟
وفقًا لمكتب الإحصاء الأمريكي عام 2019م، سيشكّل السود والآسيويون واللاتينيون والأقليات العرقية الأخرى غالبية السكان بحلول عام 2050م. وعند سؤال عيّنة من الأمريكيين عن تأثير هذا التغيير على البلاد، قال حوالي ثلث البالغين: إنّ هذا التغيير سيكون إما جيدًا جدًّا (17٪)، أو إلى حدّ ما (18٪). وقال حوالي الربع: إنه سيكون سيئًا جدًّا (15٪)، أو إلى حدّ ما (8٪). وقال 42٪: إنّ هذا التغيير لن يكون جيدًا ولا سيئًا.
ويدلّ هذا عمومًا: أولًا على أنّ نسبة المؤيدين للتغيّر الديموغرافي أو المعترضين تتأثر حتمًا بالميزان الديموغرافي نفسه الآخذ في الميلان نحو انخفاض نسبة البيض. فالثلث المؤيد بشكل عام مقابل الربع المعترض، يعكس الواقع. أما النسبة العالية من التي لم يكن لها موقف تقييمي محدّد، فدليل إضافي على انقسام المجتمع الأمريكي أمام قضية حسّاسة إلى هذه الدرجة[5].
انقسام أجيال حول فلسطين
إلى ذلك، انضمّت قضية خلافية جديدة من شأنها تعميق الانقسام بين الأمريكيين، ليس فقط على أساس الانتماء العرقي والحزبي، بل على أساس الفئات العمرية، وهنا تكمن الأهمية للتغيرات في الرأي العام، والمرشّحة للتعمّق مع الوقت. ففي استطلاع جرى في شهر مارس الماضي، قال ما يقرب من ستة من كل عشرة أمريكيين (58٪): إنّ الأسباب التي تدفع إسرائيل لمحاربة حماس مُبرَّرة. ولكن اختلفت الآراء بإزاء كيفية تنفيذ إسرائيل ردّها على هجوم حماس في أكتوبر؛ إذ رأى حوالي أربعة من كل عشرة أمريكيين (38%) أن سلوك إسرائيل في الحرب مقبول، فيما رأى 34% أنه غير مقبول. أما الـ26% منهم، فكانوا غير متأكدين.
وعندما سُئل المشاركون في استطلاع الرأي عن أسباب محاربة حماس لإسرائيل، وصفها عدد أقل بكثير من الأمريكيين (22٪) بأنها صحيحة. و5% فقط قالوا: إنّ الطريقة التي نفّذت بها حماس هجومها في 7 أكتوبر كانت مقبولة، فيما وصف 66% منهم الهجوم بأنه غير مقبول على الإطلاق.
وثمّة اختلافات كبيرة بين الفئات العمرية في وجهات النظر حول الحرب. على سبيل المثال: تقول نِسَب متساوية تقريبًا من البالغين تحت سنّ 30 عامًا: إنّ أسباب محاربة حماس لإسرائيل صحيحة (34%)، و(30%) قالوا العكس؛ فيما رأى 35% منهم أنهم غير متأكدين. وبالمقارنة، يقول معظم من يبلغون من العمر 65 عامًا فما فوق: إنّ حُجَج حماس غير صحيحة (64%). أما الشباب فهم الأكثر انتقادًا للطريقة التي تقاتل بها إسرائيل في الحرب من كبار السن؛ و21% من الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا يقولون: إن الطريقة التي تُنفّذ بها إسرائيل ردّها على هجوم حماس في أكتوبر/تشرين الأول مقبولة؛ بينما 46% يصفون هجمات إسرائيل بأنها غير مقبولة.
وبالنسبة للموقف من الشعب الفلسطيني، يُعبّر عدد أكبر من الشباب الأمريكيين عن آراء إيجابية تجاه الشعب الفلسطيني (60%) مقارنة بالشعب الإسرائيلي (46%). وقليلون نسبيًّا لديهم آراء إيجابية تجاه الحكومة الإسرائيلية (24%) أو حماس (14%). وبين الديمقراطيين والمستقلين ذوي الميول الديمقراطية الذين تقل أعمارهم عن 30 عامًا، تحظى الحكومة الإسرائيلية باحترام (16%) فيما نالت حماس احترام (18%).
قليل من الأمريكيين يقولون: إنهم يتعاطفون بشكل كامل مع الشعب الإسرائيلي (11%)، أو الشعب الفلسطيني (5%). بل إنّ (57%) يتعاطفون إلى حدّ ما على الأقل مع كلّ من الإسرائيليين والفلسطينيين، بما في ذلك (26%) قالوا: إنّ تعاطفهم متساوٍ مع كلا المجموعتين[6].
وفق هذه المعطيات، كان موقف المرشّحة الديمقراطية كامالا هاريس لافتًا بعد لقائها نتنياهو خلال زبارته الولايات المتحدة، فهي أولًا قاطعت كلمة نتنياهو أمام الكونغرس، وهي ثانيًا أبدت تعاطفها مع أهالي غزة، مطالبةً بوقف الحرب. التفسير السياسي لهذا الموقف هو أنه محاولة لحشد القاعدة الديمقراطية المنقسمة وفق الفئات العمرية من قضية غزة. ومن دون التحشيد المذكور، تتضاءل حظوظها بالفوز على دونالد ترامب.
[1] See Robert Remini, Martin Van Buren and The Making of The Democratic Party, New York, The Norton Library, 1970, p.2, 5, 123-125.
[2] See Michael Kazin, What it took to win, A History of The Democratic Party, New York, Farrar, Straus and Giroux, 2022, p.21-24
[3] See Ibid., p.239-240.
[4] See Ibid., p.239, 269.
[5] ttps://www.pewresearch.org/social-trends/2019/03/21/views-of-demographic-changes-in-america/
[6] https://www.pewresearch.org/2024/03/21/majority-in-u-s-say-israel-has-valid-reasons-for-fighting-fewer-say-the-same-about-hamas/