ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب
قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : باب وَسْمِ
الإمام إبل الصدقة بيده .
حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا الوليد حدثنا
أبو عمرو الأوزاعي حدثني إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك - رضي الله
عنه - قال : « غدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله بن أبي طلحة ليحنكه
، فوافيته في يده المِيسَم يَسِمُ إبل الصدقة » .
إنه مشهدٌ مَنْ أعطاه حقَّه من التأمل امتلأ
قلبه بسيل من المعاني العظيمة واهتزت نفسه تأثراً وإعجاباً .
إن هذا الحديث حين قرأته لأول مرة سرت في جسدي
رِعشَة وانتابتني ألوان من المشاعر وفيوض من العاطفة جعلتني أقول : ( بأبي أنت وأمي
يا رسول الله ! ) أين القادة والعلماء والمشايخ والمفكرون وكل الموجهين ليروا ماذا
يصنع نبي الأمة وقائدها ومربيها ؟ يجلس بين الإبل ويمسك بيده المِيْسَم ليختم به إبل
الصدقة ، أين هم ليتعلموا ويدركوا من ذلك أعظم المعاني ويربوا أنفسهم بهديه صلى الله
عليه وسلم ؟ والمِيسَم بكسر الميم وفتح السين : ( هي الحديدة التي يوسم بها ؛ أي يعلَّم
، وهو نظير الخاتم .
والحكمة فيه تمييزها ، وليردَّها من أخذها ومن
التقطها ، وليعرفها صاحبها ؛ فلا يشتريها إذا تصدَّق بها - مثلاً - لئلا يعود في صدقته
) ا هـ [1] .
وقد يتساءل بعض الناس : ألم يكن هنالك من يكفي
رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر حتى يتفرغ لما هو أهم من أمور الأمة ،
وإكراماً له أن ينالَه من هذا العمل وَسَخُ اليدين وتغير رائحتها فضلاً عن التعب والنصب
في أمر يستطيعه أي فرد من عموم المسلمين ؟ كلا فذلك منطق من ابتلوا بكثافة الطبع ،
وانشغلوا بحفظ الناموس ، وبعضهم الموت أهون عليه من أن يُرَى وهو يزاول مثل تلك الأعمال
البعيدة عمَّا ينبغي أن ينشغل به العباقرة وأصحاب الثقافة العالية ( الحضارية ) ، أو
تلك التي ينبغي أن يترفع عنها أهل العلم والفضل الذين يجب أن يكونوا بمنأىً عن ممارسة
أي عمل من أعمال المهنة كذلك العمل .
أما من رزقهم الله حياة القلب وصفاء النفس فإنهم
يجدون في ذلك من اللذة ومعاني العبودية وصلاح القلب ما لا يدركه أولئك المصونون ، أو
الذين يصونون أنفسهم عن ذلك ؛ وهم على مكاتبهم أو في قصورهم ، أو على مِنَصَّة التوجيه
.
إن إبل الصدقة هي الزكاة المأخوذة من أصحاب الإبل
.
والزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام وشعيرة
عظيمة من شعائر الدين .
والاهتمام بالزكاة والمحافظة عليها أكثر من المال
الشخصي إنما يصدر عن تعظيم أمر الله - عز وجل - وذلك من تقوى القلوب : { وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ
} (
الحج : 32 ) .
ثم إن ممارسة هذا العمل ( أعني : وَسْمَ الإبل
) من نبيِّ هذه الأمة وقائدها إنما يدل على التواضع والبساطة وعدم التكلف ، ويمثل عملية
تربوية للأتباع والمتبوعين .
قال المهلب وغيره تعليقاً على هذا الحديث : (
وفيه اعتناء الإمام بأموال الصدقة وتولِّيها بنفسه ، ويلتحق به جميع أمور المسلمين
) [2] ، وقال ابن حجر - رحمه الله - : ( وفيه مباشرة
أعمال المهنة ، وتَرْكُ الاستنابة فيها للرغبة في زيادة الأجرة ونفي الكبر ) اهـ [3] .
ومن المؤسف أن كثيراً من القربات وأعمال الطاعات
عزف عنها كثير من الخاصة وأهل الفضل ، ورأوا أنها لا تناسبهم ، حتى الأذان والإمامة
صار ذلك مما يوكل لبعض الضعفاء الذين ينظر إليهم أهل المسجد نظرتهم إلى الخادم المستأجَر
للقيام ببعض الأعمال ، ولا يعطونه حقه من التقدير كبراً أو استخفافاً ؛ على خلاف ما
جعله الشارع لإمام الصلاة من المرتبة العالية ، حتى إن الصحابة استدلوا على خلافة الصديق
بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضيه إماماً لهم في الصلاة .
ومرتبة الإمام أن يأمر وينهى ويعلِّم أهل المسجد
لا أن يكون هو المؤتمِر بأمرهم ، المشفق من التفوه بكلمة في حضورهم .
وإذا أردنا أن ننتقل من التعليق على ذلك المشهد
إلى مشهد آخر من مشاهده - صلى الله عليه وسلم - التي يعظِّم فيها شعائر الله فإننا
سنجد البخاري - رحمه الله - يذكر لنا أيضاً في صحيحة هذا الباب في كتاب الحج فيقول
: باب من نحر هديه بيده .
حدثنا سهل بن بكار حدثنا وهيب عن أيوب عن أبي
قلابة عن أنس بن مالك ،وذكر الحديث .
قال : « ونحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده
سبع بُدْنٍ قياماً ، وضحى بالمدينة كبشين أملحين أقرنين » [4] .
وهذا أيضاً مشهد له دلالته ؛ وهي حرصه - صلى
الله عليه وسلم – على ممارسة الشعائر بيده ولو كانت نحراً وذبحاً ؛ وذلك من الاهتمام
بشعائر الله وتعظيمها .
قال - تعالى - : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا
خَيْرٌ } (
الحج :36 ) ، وقد كان
- صلى الله عليه وسلم - أرصد للهدي مائة بدنة كما في حديث علي بن أبي طالب - رضي الله
عنه - عند البخاري أيضاً [5] .
ولم تكن البُدْن التي ذبحها - صلى الله عليه
وسلم - بيده سبعاً فقط ، بل هي بعض ما ذبحه ؛ ففي صحيح مسلم في حديث جابر بن عبد الله
الطويل : « ثم انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بدنة
، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر وأشركه في هديه ، ثم أمر من كل بَدَنَة ببِضْعَة فجُعِلَت
في قِدْرٍ فطبخت ، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها » [6] .
فإذا ما تركنا مشهد نحر البُدْن وانتقلنا إلى
بناء مسجده - صلى الله عليه وسلم - فإننا سنجد ذلك المشهد في ما رواه البخاري عن أنس
- رضي الله عنه - قال :« فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبور المشركين فنبشت ،
ثم بالخِرَب فسويت ، وبالنخل فقطع . فصفوا النخل قبلة المسجد ، وجعلوا عِضَادَتَيْه
الحجارة ، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون ، والنبي - صلى الله عليه وسلم – معهم وهو
يقول : « اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة » [7] .
وفي حديث آخر عن أبي سعيد الخدري - رضي الله
عنه - وهو يذكر بناء المسجد قال : « كنا نحمل لَبِنَة لَبِنَة وعمَّار يحمل لبِنَتين
لبِنَتين .
فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فينفض التراب
عنه ويقول : ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار . قال
: يقول عمار : أعوذ بالله من الفتن » [8] .
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس بعيداً عن
الأحجار والصخور والأتربة وما إلى ذلك مما يكون في البناء ؛ فعمله بيده - صلى الله
عليه وسلم - ووجوده مع أصحابه في بناء المسجد لهُوَ أيضاً من تعظيم شعائر الله مع ما
فيه كذلك من مخالطة القائد للرعية في أمور المهنة والأعمال اليدوية ، وإكرامهم والإحسان
إليهم ، ومشاركتهم في إنشادهم أو ارتجازهم في بساطة وحنوٍّ ...
وتأمَّل أخي القارئ تلك
المسحة الحانية للتراب عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - ليزيل عنه غبار اللَّبِن الذي
ينقله .
وختاماً هذا مشهد آخر في شعيرة عظيمة من شعائر
الإسلام هي ذروة سَنامه ؛ألا وهي الجهاد ، وهو مشهد قريب في طبيعته ومعناه ، بل بعض
عباراته من مشهد مشاركته - صلى الله عليه وسلم - في بناء المسجد ؛ فقد روى البخاري
في صحيحه عن البراء بن مالك - رضي الله عنه - قال : « رأيت رسول الله – صلى الله عليه
وسلم - يوم الأحزاب ينقل التراب - وقد وارى التراب بياض إبطيه - وهو يقول : لولا أنت
ما اهتدينا ، ولا تصدقنا ولا صلينا ، فأنزل السكينة علينا ،وثبت الأقدام إن لاقينا
، إن الأُلَى قد بغوا علينا ، إذا أرادوا فتنة أبينا » [9] .
وفي حديث أنس - رضي الله عنه - : « فلما رأى
ما بهم من النَّصَب والجوع قال : اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
! فقالوا مجيبين له : نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً» [10] .
تأمَّل - أخي القارئ - كيف اختلف سمتنا وسلوكنا
عن سمته - صلى الله عليه وسلم - وسلوكه ؟ من أين أتينا بذلك الترفع والانقباض إذا ما
أكرمنا الله بعلم أو إمامة للناس أو نحو ذلك من مناصب القيادة والتوجيه ؛ حتى صار ارتجاز
الشيخ أو المعلم مع عموم المسلمين الصالحين أثناء عمل شاق كهذا - فضلاً عن المشاركة
فيه ومعالجة التراب والصخر ونقل الحجارة - أمرٌ دونه خرط القتاد حتى ولو كان ذلك في
إقامة شعيرة من شعائر الله ؟ نسأل الله التواضع والسلامة من مكائد إبليس ومصائده .
وإلى هؤلاء نسوق هذا الكلام لابن القيم - رحمه
الله - وبه نختم موضوعنا .
يقول ابن القيم - رحمه الله - : ( ومن مكايده
( أي الشيطان ) أنه يأمرك بإعزاز نفسك وصونها حيث يكون رضا الرب - تعالى - في إذلالها
وابتذالها ، ويأمرك بإذلالها وامتهانها حيث تكون مصلحتها في إعزازها وصيانتها .
كما يأمرك بالتبذل لذوي الرياسات ، وإهانة نفسك
لهم ، ويخيل إليك أنك تُعزُّها بهم .
ومن كيده وخداعه : أنه يأمر الرجل بانقطاعه في مسجد ، أو رباط ،
أو زاوية ، أو تربة ، ويحبسه هناك ، وينهاه عن الخروج ، ويقول له : متى خرجت تبذَّلت
للناس ، وسقطتَ من أعينهم ، وذهبتْ هيبتك من قلوبهم ، وربما ترى في طريقك منكراً ،
وللعدو في ذلك مقاصد خفية يريدها منه : منها الكِبْر ، واحتقار الناس ، وحفظ الناموس
، وقيام الرياسة .
ومخالطة الناس تُذهِبُ ذلك ، وهو يريد أن يُزَار
ولا يزور ، ويقصده الناس ولا يقصدهم ، ويفرح بمجيء الأمراء إليه ، واجتماع الناس عنده
، وتقبيل يده ،فيترك من الواجبات والمستحبات والقربات ما يقربه إلى الله ، ويتعوض عنه
بما يقرب الناس إليه .
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى السوق
؛ قال بعض الحفاظ :« وكان يشتري حاجته ويحملها بنفسه » .
ذكره أبو الفرج بن الجوزي وغيره .
وكان أبو بكر الصديق
- رضي الله عنه - يخرج إلى السوق يحمل الثياب ،فيبيع ويشتري .
ومرَّ عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - وعلى
رأسه حُزْمَة حطب ، فقيل له : ما يحملك على هذا وقد أغناك الله ، عز وجل ؟ فقال : أردت
أن أدفع به الكِبْر ؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « لا يدخل
الجنة عبد في قلبه مثقال ذرة من الكبر » .
وكان أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - يحمل
الحطب وغيرَه من حوائج نفسه وهو أمير على المدينة ، ويقول : « أفسحوا لأميركم ، أفسحوا
لأميركم » .
وخرج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يوماً وهو
خليفة في حاجة له ماشياً ، فأعيى ، فرأى غلاماً على حمار له ، فقال : يا غلام احملني
؛ فقد أعييت ! فنزل الغلام عن الدابة ، وقال : اركب يا أمير المؤمنين ، فقال : لا ،
اركب أنت وأنا خلفك ، فركب خلف الغلام ، حتى دخل المدينة والناس يرونه .
ومن كيده : أنه يغري الناس بتقبيل يده ، والتمسح به ، والثناء
عليه ، وسؤاله الدعاء ، ونحو ذلك ، حتى يرى نفسه ، ويعجبه شأنها ؛ فلو قيل له : إنك
من أوتاد الأرض ، وبك يُدفَع البلاء عن الخلق ، ظن ذلك حقاً ، وربما قيل له : إنه يُتَوسَّل
به إلى الله - تعالى - ويُسأَل الله - تعالى - به وبحرمته ، فيقضي حاجتهم ، فيقع ذلك
في قلبه ويفرح به ويظنه حقاً ، وذلك كلُّ الهلاك ، فإذا رأى من أحد من الناس تجافياً
عنه ، أو قلة خضوع له ، تذمر لذلك ووجد في باطنه ، وهذا شرٌّ من أرباب الكبائر المصرِّين
عليها ، وهم أقرب إلى السلامة منه ) ا هـ . باختصار يسير .
اللهم اجعلنا معظِّمين لشعائرك ، مبادرين إلى
القربات والطاعات ، لا يصدنا عن ذلك تكلُّف ولا كبر ، آمين .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين .
(1) فتح الباري : 3 /429 ، ح 1502 .
(2) الفتح : 3/430 .
(3) الفتح : 3/430 .
(4) الفتح : 3/464 ، ح : 1712 .
(5) حديث رقم : 1718 .
(6) الفتح : 3/649 .
(7) الفتح : 1/624 .
(8) الفتح : 1/644 ، ح 447 .
(9) الفتح : 6/55 ، ح 2837 .
(10) الفتح : 6/54 ، ح 2834 .