وتخبرنا بعض المصادر التاريخية المعاصرة، أنَّ السلطان المنصور السعدي قد أسند إلى الكثير من علماء الأندلس مهمة الترجمة، فقد كان أغلبهم على معرفة باللغات الأوروبية، وخصوصًا الإسبانية، ومن أشهرهم «أحمد الحجري» المُلقّب بـ«شهاب الدين أو أفوقاي»، الذي عمل مترجم
على الرغم من أنَّ الأندلسيين أخذوا علومهم من المشرق الإسلامي؛ إلا أنَّهم أبدعوا في الحركة العلمية والفكرية، وكانت مؤلفات علمائهم خير شاهد على ازدهار الحركة العلمية والفكرية، ومع ما تعرَّضت له بلاد الأندلس من مِحَن؛ فإنَّ الحركة العلمية لم تتأثر بشكل كبير بالأحداث السياسية، بل إنَّ هناك مَن يصف الحضارة الأندلسية خلال سقوط غرناطة (1493م)، بأنَّها كانت في عز مجدها، وأن علماءها وأُدباءها كانوا في قمَّة نشاطهم ويقظتهم العقلية، وحين هاجر علماء وأدباء الأندلس هاجرت معهم حضارتهم إلى البلاد التي هاجروا إليها.
وبعد أنْ أعطى الأندلسيون حضارتهم وثقافتهم وعلومهم للإسبان والدول الأوروبية الأخرى؛ فإنَّ الإسبان أعطوهم -حسب كثير من الشهادات المصدرية- شتى أنواع التعذيب والاضطهاد. وفي المقابل، إذا كانت الدول الأوروبية نفسها استفادت من الحضارة الأندلسية، فمن الطبيعي أن تستفيد الدولة السعدية من حضارة وعلماء الأندلس، وكان مسلمو الأندلس، عند سقوط غرناطة، أرقى حضاريًّا من سكان المغرب، حصوصًا وأنَّ المغرب والأندلس تبادلا التأثيرات السياسية والحضارية والعلمية منذ الفتح الإسلامي[1].
وأصبح علماء الأندلس يُمثّلون عنصرًا ثقافيًّا مهمًّا إلى جانب العنصر المغربي، وتكوَّنت بهم مدارس مغربية - أندلسية، في القراءات، والأديان، والطب، والفلك، والرياضيات،... إلخ.
وإذا كان علماء الأندلس المهاجرون إلى المغرب الأقصى لم يحظوا بالاهتمام اللازم من جانب السلاطين السعديين الأوائل، خصوصًا السلطان «محمد الشيخ»، والسلطان «عبدالله الغالب»؛ وذلك لانشغالهم بتأسيس دولتهم، لكن بمجرد ما بدأت أوضاع الدولة تستقر ظهر اهتمام السلاطين السعديين بالعلماء والأدباء الأندلسيين؛ ففي عهد السلطان «أحمد المنصور السعدي»، الذي تزامن مع انتقال الكثير من المهاجرين إلى المغرب الأقصى، وبضمنهم العلماء المبدعون الذين أعطوا الفكر المغربي عطاءً كبيرًا، سواء في مجال الدراسات الدينية، أو الأدبية، أو العلمية، بل حتى الترجمة، وذلك بفضل الاستقرار النسبي للأوضاع السياسية للمغرب، فضلًا عن اهتمام المنصور نفسه بهؤلاء العلماء، وتقديرهم أعظم تقدير[2].
وتخبرنا بعض المصادر التاريخية المعاصرة، أنَّ السلطان المنصور السعدي قد أسند إلى الكثير من علماء الأندلس مهمة الترجمة، فقد كان أغلبهم على معرفة باللغات الأوروبية، وخصوصًا الإسبانية، ومن أشهرهم «أحمد الحجري» المُلقّب بـ«شهاب الدين أو أفوقاي»، الذي عمل مترجمًا للمنصور، وابنه زيدان، وكاتبًا للرسائل التي كان زيدان يبعثها إلى ملوك الدول الأوروبية، وكذلك عمل أفوقاي مترجمًا لدى «الوليد بن زيدان»، وأخيه عبد الملك[3].
ومن الكتب التي ترجمها أفوقاي: كتاب (العز والمنافع للمجاهدين بالمدافع)، وكان قد أعطاه له أحد المهاجرين الأندلسيين، التقى به في تونس، ويدعى «إبراهيم غانم»، ويتحدث الكتاب عن فنّ صناعة المدفعية وكيفية استخدامها. كما ترجم أفوقاي -وبأمر من السلطان زيدان- قرار طرد مسلمي الأندلس من بلادهم الذي أصدره الملك الإسباني «فيليب الثالث»، وكذلك، وبأمر من زيدان أيضًا، وضع الحجري مشروعات لترجمة كتاب «الجغرافيا»، باللغة الفرنسية لمؤلف يدعى (القبطان)[4].
وكان المهاجرون الأندلسيون قد حملوا معهم من العلوم ما أحيوا به الدراسات الطبية والصيدلية بالمغرب الأقصى، خاصةً في فاس ومراكش، وقد قام سلاطين الدولة السعدية بالتقرب من الأطباء الأندلسيين، واتخذوا من بينهم طبيب القصر الخاص، وأغدقوا عليهم من الصلات والمكافآت ما شجَّعهم على النشاط في علاج المرضى، وصنع الأدوية، وتأليف الكتب.
ومن الأطباء الأندلسيين الذين كانوا محط اهتمام السلاطين السعديين: الطبيب «علي بن إبراهيم الأندلسي»، الذي نظم طرق التغذية النافعة، ومداواة بعض الأمراض، وقد قام بإهداء منظوماته إلى السلطان «الوليد بن زيدان». وكان علماء الأندلس كثيرًا ما يقومون بإهداء مؤلفاتهم إلى السلاطين السعديين؛ تقديرًا لترحيبهم واهتمامهم ورعايتهم لهم، فعلى سبيل المثال، أهدى العالم «محمد بن أحمد الأندلسي»، كتابه (لطيفة الرسائل في العمل بالريع)، إلى السلطان أحمد المنصور السعدي[5].
وقد عُرف عن السلطان المنصور وَلَعه بالكتب، وعشقه لجمعها؛ فقام بشراء الكثير من الكتب من المشرق الإسلامي، فقد كان يرسل مبعوثين لجلب هذه الكتب، وكذلك راسل العلماء في مصر والحجاز والعراق وطلب منهم إرسال مؤلفاتهم إليه. كما أنَّه حصل على الكثير من المؤلفات كهدية من العلماء في المغرب، فضلًا عن ذلك، حصل على مؤلفات علماء الأندلس التي جلبها المهاجرون الأندلسيون خلال هجرتهم إلى المغرب الأقصى، وانتقلت هذه المكتبة بعد وفاته إلى ابنه زيدان، لكنّ هذا الأخير فقد هذه المؤلفات الثمينة خلال صراعه مع أبي محلى؛ فقد قام بنقلها على متن سفينة فرنسية لقاء أجرٍ معين، لكن الإسبان استولوا عليها، فغضب زيدان وطالبهم بإرجاعها لكنهم رفضوا ذلك، وبقيت الكتب إلى هذا اليوم لدى الإسبان، والآن موجود قسم منها في مكتبة «الأسكور ريال»[6].
وبرز في المغرب علماء في الفقه أمثال «محمد بن عدة الأندلسي»، وعُرف عنه معرفته العميقة بالقرآن الكريم، حتى إنه اشتُهر بلقب «شيخ المقرئين بفاس». وكذلك الفقيه عبدالرحمن الوقاد، كان فقيهًا متخصصًا يدرس كتب الفروع في مدينة مكناس، كما عمل مفتيًا فيها. والعالم «أبو عبدالله محمد بن قاسم القصار الغرناطي»، مفتي فاس في عهد السلطان أحمد المنصور السعدي. وقد لقي هذا العالم الجليل العناية والاهتمام من جانب المنصور عندما وفد إليه بعد عُسر حاله؛ فقد أعطاه العطاء الجزيل، وولّاه الفتوى والخطابة في جامع القرويين بفاس[7].
وعلى الرغم من الرعاية التي أحاط بها سلاطين الدولة السعدية العلماء الأندلسيين المهاجرين إليها؛ إلا أنَّ الساحة لم تخلُ من بعض العلماء الذين كانت لهم مواقف سلبية تجاه الدولة السعدية، وشكّلوا في الوقت ذاته خطرًا عليها. وكان «محمد الأندلسي»، في عهد السلطان «عبدالله الغالب» خير نموذج على ذلك؛ إلا أنَّ المصادر لم تمدّنا بمعلومات مفصلة عن حياته؛ فهي لم تذكر اسم والده، أو جدّه، أو حتى بلده، لكن ما يدلل على أنه أندلسي لقبه، وأنَّ أغلب أتباعه كانوا من المهاجرين الأندلسيين، وقد لُقِّبوا «بالطائفة الأندلسية». وقام بنشر أفكار وآراء ابن حزم الظاهري، كما يؤكد ذلك «الوفراني» عندما ذكر «أنه كان متظاهرًا بالزهد والصلاح حتى استهوى كثيرًا من الناس، واتبعوه، وكانت تصدر منه مقالات من الطعن على أئمة المذهب المالكي -رضي الله عنهم-، ينحو فيها منحى ابن حزم الظاهري».[8] وكانت له معرفة بمختلف العلوم العقلية، كالطب، والرياضيات، والكيمياء، فضلًا عن معرفته بالعلوم الشرعية.
وقد التف حوله عدد من الناس؛ فأفتى فقهاء مراكش بأنه شخص ضالّ، وأرسلوا رسالة إلى السلطان «عبدالله الغالب»، يُخبرونه بخطر محمد الأندلسي، وبأنَّ أفكاره ستُؤثِّر على وحدة صفّ المسلمين، فأمر بسجنه وبقي في السجن مدَّة، ثم أُخلي سبيله. لكنَّ أفكاره بقيت تُشكّل خطرًا على وحدة المسلمين، وعلى كيان الدولة السعدية. فقد لُقِّب أتباعه بالمحمدية -نسبة إليه-، ويسمون من خالفهم بالمالكية، نسبةً إلى المذهب المالكي الذي يتبعونه، فاعتُقل مرة أخرى، لكن أُخلي سبيله بعد مدة. ويرجع سبب إخلاء سبيل محمد الأندلسي، وعدم إبقائه في السجن، أو قتله؛ إلى أنَّ أغلب أتباعه كانوا من المهاجرين الأندلسيين، ولأنَّ العنصر الأندلسي كان يشكل ركنًا أساسيًّا في الجيش السعدي، فلهذا، كان الغالب يتجنّب إبقاءه في السجن أو قتله؛ لأنَّ ذلك يؤدي إلى انقلاب الأندلسيين ضده، وهكذا بقي ينشر أفكاره طيلة عهد السلطان عبدالله الغالب[9].
ولم يقف محمد الأندلسي وأتباعه عند الجانب الفكري فحسب، بل أخذوا يتدخلون في الجانب السياسي أيضًا؛ فخلال الصراع بين محمد المتوكل، وعمه عبدالملك المعتصم، أظهر محمد الأندلسي وأصحابه ميلاً إلى جانب عبدالملك، وكان المتوكل خارج مراكش، وعندما عاد وعلم بالأمر قام بإرسال قائده «محمد بن كرمان التركي»، للقبض عليه، فدافع أتباع محمد الأندلسي عنه، وقاموا بقتل قائد المتوكل، لكنَّ المتوكل قبض عليه في الأخير وتم قتله وصلبه على باب داره في حي رياض الزيتون، الذي يقع في مدينة مراكش، وكان مقتله أواسط شهر ذي الحجة سنة 980هـ/ 1573م[10].
خلاصة القول: من خلال ما سبق ذِكْره يتبين لنا أنَّ علماء الأندلس وجدوا في سلاطين الدولة السعدية خير راعٍ لهم ولمصالحهم، وبهذه الرعاية والاهتمام استطاع علماء الأندلس نشر حضارة بلادهم على أرض المغرب الأقصى، وأسهموا بشكل كبير في نهضة الحضارة العلمية فيه؛ وبذلك كان المغرب الأقصى الوعاء الذي صبَّت فيه الحضارة الأندلسية بعد هجرتها من بلادها، وأنَّ علماء الأندلس عندما نشروا الحضارة والثقافة الأندلسية في المغرب الأقصى، وغيره من بقاع العالم، فإنَّهم بذلك حافظوا على هذه الحضارة العريقة من الضياع والاندثار، وساهموا في نفس الوقت في استمرارها وتأصيلها.
[1] عبد العزيز الفشتالي، مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا، تحقيق لطفي بوشنتوف، الرباط: دار أبي رقراق، 2015م، ص 265.
[2] محمد حجي، الحركة الفكرية في المغرب في عهد السعديين، الرباط: دار المغرب، 1977م، الجزء الأول، ص 53.
[3] الفشتالي، مناهل الصفا، ص 266.
[4] ميكيل دي إيبالزا، الموريسكيون في إسبانيا وفي المنفى، ترجمة وتقديم جمال عبد الرحمن، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2015م، ص 196.
[5] أحمد بن محمد بن أحمد (المقري)، روضة الآس العاطرة الأنفاس في ذِكْر مَن لقيته من أعلام الحضرتين مراكش وفاس، تحقيق محمد سالم هاشم، بيروت: دار الكتب العلمية، 2012م، ص 217.
[6] محمد حجي، جولات تاريخية، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ج1، ص269.
[7] الفشتالي، مناهل الصفا، ص191.
[8] الوفراني، نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، تحقيق السيد هوداس، الرباط: مكتبة الطالب، ط.2، دون تاريخ، ص 50.
[9] محمد بن شريفة، حول الطائفة الأندلسية في عهد السعديين، الرباط: مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، 2000م، ضمن أعمال الندوة الثانية (الموريسكيون في المغرب)، ص 119.
[10] أحمد بن خالد (الناصري)، كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، الرباط: منشورات وزارة الثقافة، 2001م، ج5، ص 56.