وقد لخَّص المستشار الألماني النتائج الكلية بوصف ما حدث بـأنه نقطة تحوُّل حرجة في المشهد السياسي بأوروبا. أما الرئيس الفرنسي فكان أكثر وضوحًا إذ قال: إن صعود القوميين والديماغوجيين هو خطر على فرنسا. وقد ذهب في قراءته لنتائج الانتخابات حد التحذير من احتمال
أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة للبرلمان الأوروبي، حدوث قفزة نوعية في المدّ الجماهيري الداعم والمؤيد للتيارات التي تُوصَف باليمين المتشدد حينًا، وبالشعبوية حينًا آخر، وبالوطنية (القومية) إلى درجة الفاشية في توصيف ثالث، وبالمتطرفة في توصيف رابع... إلخ.
ووصلت النتائج في بعض الدول إلى ما يمكن وصفه بالانقلاب التاريخي الذي لم تشهده أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية؛ إذ هي المرة الأولى التي تتقدم فيها تلك التيارات لتحتل الصدارة على حساب الوسط، ويمين الوسط، واليسار -بحسب التوصيفات السياسية الأوروبية-؛ وهي التيارات التي طالما تناوبت على حكم دول أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وهو ما أدَّى إلى قرع أجراس الإنذار بقرب حدوث تحوُّلات كبرى في السياسات الوطنية للدول وبشأن استمرار بقاء الاتحاد الأوروبي وحول قضايا السياسة الخارجية. وكذا، بتوقع حدوث اهتزازات تؤثر على استقرار المجتمعات والدول الأوروبية.
وقد لخَّص المستشار الألماني النتائج الكلية بوصف ما حدث بـأنه نقطة تحوُّل حرجة في المشهد السياسي بأوروبا. أما الرئيس الفرنسي فكان أكثر وضوحًا إذ قال: إن صعود القوميين والديماغوجيين هو خطر على فرنسا. وقد ذهب في قراءته لنتائج الانتخابات حد التحذير من احتمال اندلاع حرب أهلية في بلاده.
لقد احتل حزب التجمع الوطني، الموصوف بالتطرف في فرنسا، المركز الأول في نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، وبفارق كبير بينه وبين حزب النهضة الذي يقوده الرئيس الفرنسي. بالدقة حصل حزب التجمع على أكثر من ضعفي الأصوات التي حصل عليها حزب الرئيس (31.5% في مقابل 15%). وهو ما دفَع ماكرون لحل الجمعية الوطنية والذهاب لانتخابات تشريعية فرنسية مبكرة، على أمل توجيه ضربة إجهاضية لهذا المد الجماهيري الذي تحقّق لحزب التجمع الوطني.
وحقّق حزب إخوة إيطاليا الذي تتزعمه رئيسة الوزراء الحالية -وهو متَّهم وحلفاؤه في التحالف الحاكم بالإعجاب بالفاشية- قفزة كبرى في تلك الانتخابات؛ إذ أصبح في المركز الأول في البلاد على صعيد التمثيل في البرلمان الأوروبي. وكان قد حصل في الانتخابات السابقة على 6.44% فقط، فيما حصل في الانتخابات الأخيرة على 28.76%، بما يعني أنه ضاعَف نسبة تمثيله أربعة أضعاف دفعة واحدة.
وفي ألمانيا، حقّق حزب البديل من أجل ألمانيا -الموصوم بالتطرف- تقدُّمًا نوعيًّا؛ إذ احتل المركز الثاني (حصل على 15.9%) متقدمًا على الحزب الديموقراطي الاشتراكي الذي يقوده المستشار أولاف شولتز (الذي حصل على 13.9%)، والذي تراجع إلى المركز الثالث بعدما تصدر حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الانتخابات بنسبة 30% ـ
وفي النمسا احتل حزب الحرية اليميني المتطرف المركز الأول في تمثيل النمسا في البرلمان الأوروبي؛ إذ حصل على 25% من المقاعد. وهكذا كان الحال في مختلف دول الاتحاد الأوروبي. وهو ما يؤكد على أن أوروبا تشهد ظاهرةً عامةً تتمثل في تصاعُد جماهيرية تلك التيارات الشعبوية أو اليمينية المتشددة أو المتطرفة... إلخ، على حساب جماهيرية ودور أحزاب الوسط، بل حتى على حساب يمين الوسط.
وقد أثارت تلك النتائج مخاوف متعددة؛ فهناك مَن نظر إلى خطورة تأثير تلك النتائج على التشريع وسنّ القوانين الصادرة عن مؤسسة التشريع الأوروبية. وهناك مَن أبدى مخاوفه من عمل تلك المجموعات على توسيع نفوذها من داخل آليات العمل الديموقراطي، والانقلاب عليها فيما بعد بحُكم فِكْرها الشمولي المنغلق. وهناك مَن دقَّ جرس إنذار بقرب حدوث انقلاب في توجهات الحكم في الدول الأوروبية عند أول انتخابات قادمة على المستوى الوطني للدول؛ إذ حمل التصويت مؤشرات على تغيُّر أو حتى انقلاب في مزاج الرأي العام، الذي انتقل إلى دعم تلك المجموعات الجديدة على حساب التيارات الأخرى الراسخة في إدارة الحكم والمجتمعات الأوروبية.
وكان الأشد وضوحًا في التقديرات والتخوفات هو ما ذُكِرَ حول تأثير هذا الصعود على بقاء الاتحاد الأوروبي. وعلى الموقف والدور الأوروبي الداعم لأوكرانيا في الحرب مع روسيا؛ إذ كثير من تلك التيارات ترفع شعارات «وطنية»، وتتحدث عن ضرورة وقف الحرب، وهناك مَن يتحدَّث حول ضرورة التراجع عن العقوبات المفروضة على روسيا، وعن أهمية استعادة العلاقات معها.
الأسباب والتوصيف
لا يوجد اتفاق حول توصيف أو تسمية محددة لتلك التيارات التي تنامت كالفطر في المجتمعات الأوروبية خلال السنوات الأخيرة؛ حيث تجري الإشارة لتلك المجموعات بمسميات متعددة، فهناك دُوَل تصفها بالمتطرفة، وأخرى تصفها بالشعبوية، وثالثة تصفها بالحركات الوطنية (القومية) المتطرفة، وهناك من يصمها بالإعجاب بالنازية والفاشية. وهناك مَن يطلق عليها وصف اليمين المتشدد. كما تتواتر توصيفات جديدة الآن حول ظهور تيارات أشد تطرفًا من تلك التي تُوصَم بكل تلك الأوصاف السابقة.
ويعود التعدد في التوصيف إلى النشأة المختلفة حسب ظروف كل بلد أوروبي، كما يعود إلى تعدُّد وتنوع الشعارات التي تركز عليها تلك المجموعات، وكذا لوجود تيارات متعددة من هذا الصنف السياسي في البلد الواحد.
ومع ذلك فالملاحظة البارزة، هي أن مختلف التوصيفات المتداولة في أجهزة الإعلام الأوروبية تتحاشى إطلاق أوصاف دينية على بعضٍ منها، رغم وضوح هذا البُعْد في شعاراتها وفي ممارساتها.
وإذ شهدت نشأة بعض تلك المجموعات حدوث بعض الممارسات المعادية لرمزيات يهودية في أوروبا -مثل رسم الصلبان على مقابر يهود-؛ فسرعان ما انتهى الأمر، ليصبح السائد والشائع هو الشعارات والممارسات المعادية للمسلمين والإسلام. وهو ما تابعه العالم وما يزال في مسلسل الرسوم البذيئة، وفي جرائم حرق المصحف الشريف، وفي سنّ التشريعات التي تُضيّق على التزام النساء المسلمات بارتداء الحجاب -بل حتى الأطفال-، وتلك الخاصة ببناء المساجد، وغيرها.
وهذه هي الملاحظة الجديرة بالتأمل، إن لم تظهر بعدُ في الإعلام الغربي، دراسات وكتابات معمقة حول أسباب ظهور تلك التيارات. ما يزال التعامل الإعلامي والسياسي -المنشور- في طور التفسير المبسط حتى الآن.
هناك مَن يربط أو يخلط بين الشعارات التي تطرحها تلك الجماعات والأسباب الدافعة لتشكلها وتصاعد القوة الجماهيرية التصويتية لها. فإذ تطرح تلك الجماعات قضية المهاجرين، وتطالب بسَنّ التشريعات المشددة لمنع وصولهم لأوروبا -ويصل الأمر حد المطالبة بالترحيل القسري- يجري التركيز على تأثير الهجرة والمهاجرين في نشوء وتصاعد تلك الظاهرة. وكأنها «حركات ضد» تزول وتضمحل بانتهاء تلك المشكلة. بل إن النظر لقضية الهجرة لا يجري بالعمق الكافي. فكثير من الكتابات تركّز على تجريم المهاجرين غير النظاميين، ولا تتحدَّث عن أصحاب المنشآت الذين يرحبون بتلك العمالة ويوظفونها كعمالة رخيصة على حساب فرص عمل المواطنين الأوروبيين مرتفعي الأجور بحكم ما تُوفّره القوانين لهم من حماية.
وإذ تطرح تلك الجماعات شعارات ومواقف ضد المسلمين والإسلام، فهناك من يذهب إلى القول بأن كثرة عدد المسلمين الذين هاجروا للدول الأوروبية، وأحداث الإرهاب التي شهدتها بعض البلدان الأوروبية، هو ما استنفر المجتمعات الأوروبية، وأوجد الدافع لظهور تلك التيارات... إلخ.
وفي ذلك يجري الحديث عن تأثير وجود المهاجرين والاحتكاك الحضاري في شعور مواطنين من الدول الأوروبية بخطر على هوية المجتمعات. وهو حديث يتجاهل حقائق كلية بعضها يتعلق بعدم وضع تأثير الظاهرة الاستعمارية التي تسبَّبت في نهب وسلب مقدرات الدول الإسلامية -بما في ذلك العقول النابغة-وبعضها يتعلق بالفكر العلماني السائد في أوروبا وبالانهيار الحضاري... إلخ.
وباعتبار أن تلك المجموعات تبدو رافضة أو غير متحمسة للاتحاد الأوروبي؛ فهناك من يرى أنها مجموعات تعود للماضي بمعنى أنها تخشى ذوبان بلادها وضياع الكينونة الوطنية للدول.
مثل تلك التفسيرات لا تُظهر تصديًا حقيقيًّا لظاهرة بهذا الاتساع والشمول، خاصةً وأن الظاهرة ليست مقصورة على الدول الأوروبية، فالولايات المتحدة تعيش ذات الحالة التي يمثل ظهور ترامب والتحولات الحادثة في الحزب الجمهوري مثالاً عليها. بل إن الظاهرة أعمّ وأشمل، ولا تتوقف على المجتمعات الغربية، فالهند وحزب بهاريا جاناتا نموذج من تلك الحركات.
أبرز أسباب نشوء تلك الظواهر
إنَّ أسباب نشوء تلك الظواهر تُعدّ أكثر عمقًا وشمولية باعتبارها ظواهر عالمية، ونذكر منها ما يلي:
أولاً: تراجع الدور الأوروبي عالميًّا، وتقدُّم دُوَل من العالم الثالث -الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا- لتحتل مراكز متقدمة في الإنتاج والتصدير وإدارة العالم، وذلك أفقَد المواطنين الأوروبيين ثقتهم في النموذج الأوروبي السائد، ودفَعهم للبحث عن حلول أخرى غير السائد العمل بها. وفي ذلك يجري الحنين للماضي؛ إذ كانت الدولة الوطنية (القومية) عنوانًا للتوسُّع الاستعماري -وكانت عنوانًا للفكر العنصري الذي يُقلّل من إنسانية سكان الدول المستعمَرة- كما كانت عنوانًا لقوة الدور الأوروبي عالميًّا.
لقد تغيَّر المزاج الشعبي الذي كان متعاطفًا مع تلك النخب ذات النزعة العولمية -وهو أمر ينطبق على ظهور تيار ترامب-؛ إذ النخب العولمية التي قادت ظاهرة العولمة، قد أدَّت جهودها إلى نتيجة معاكسة على الصعد الاقتصادية والاجتماعية للمواطن الأوروبي. ولقد أصبح المواطن الأوروبي في حالة شعور بالعجز عن تفسير أسباب انتهاء حالة الرفاه التي عاشها من قبل؛ بسبب عدم فتح المجال العام للحوار للكشف عن أنها كانت حالة قائمة على نَهْب خيرات الدول الأضعف.
ثانيًا: تأثير انضمام دول أوروبا الشرقية للاتحاد الأوروبي على ميزانيات الدول الأوروبية المحورية ودوره في تراجع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بتلك الدول. لقد خرجت دول أوروبا الشرقية من تحت عباءة الاتحاد السوفييتي، وهي تعاني من الحكم المركزي ومن التخلف الصناعي، غير أنها دول تتمتع بمقدرات هائلة في مجال الإنتاج الزراعي والحيواني. وقد أدى انضمامها للاتحاد الأوروبي إلى فتح أسواق الدول الأوروبية لمنتجاتها الأرخص، كما أدَّى هذا الانضمام إلى حرية حركة العمالة التي كان طبيعيًّا أن تتحرَّك من الدول الفقيرة باتجاه الدول الغنية بما رفع نِسَب البطالة فيها. وقد أدى فتح باب الاستثمار الأوروبي في تلك الدول التي كانت في أمسّ الحاجة لرؤوس الأموال، إلى ضعف الإنتاج في الدول الغربية.
ثالثًا: ويأتي ظهور تلك التيارات ضمن تأثيرات ظاهرة العولمة؛ بسبب تنامي الاحتكاك الحضاري بين الدول والمجتمعات والثقافات والحضارات على المستويات الشعبية إلى أبعد مدى -بسبب ما وفَّرته مواقع التواصل الاجتماعي-؛ إذ كان طبيعيًّا أن تنشأ تيارات لمواجهة التحولات الثقافية في تلك البلدان، وأن تكون أفكار تلك التيارات خليطًا معقدًا يجمع بين التجارب السابقة في الماضي وبين رفض الجديد الذي بات يُعيد أوروبا للوراء خلف دول كانت حتى وقت قصير مجرد مستعمرات أوروبية.
ما بعد وصول تلك التيارات للحكم؟
باتت المسألة مجرد وقت؛ إذ بات مؤكدًا أن تلك التيارات ستتولى إدارة الحكم في دول كثيرة في الاتحاد الأوروبي. ومع كل انتخابات أوروبية ستتعلق الأعين بالنتائج التي ستُحرزها تلك التيارات.
وإذ لا يمكن تجاهل ما حذَّر منه الرئيس الفرنسي من احتمال اندلاع حرب أهلية في بلاده -وهو ما يعني حدوث انهيارات لدول ومجتمعات-؛ فإن الأغلب في التقدير، أن يظل الإطار الديمقراطي حاكمًا لعمليات تداول السلطة. وفي كلتا الحالتين فقد بات النموذج الأوروبي مهدَّدًا. فإن وقعت حروب أهلية، فالنتيجة هي انهيار النموذج الأوروبي السياسي والثقافي بل حتى الحضاري، وتراجُع أوروبا عالميًّا على نحو حادٍّ ومباشر. وإن جرى وصول تلك التيارات للسلطة واستمرار قبولها بتداول السلطة، فإن ما ستطرحه من شعارات وممارسات سيؤدي لإضعاف بريق النموذج الأوروبي.
وتلك التيارات سينجم عن وصولها للسلطة حدوث تراجع فِعْليّ على صعيد البناء المشترك للاتحاد الأوروبي. وإذ يمكن استبعاد فكرة حل الاتحاد في فترة زمنية قصيرة -بحكم الأبنية الاقتصادية والسياسية والتشريعية المشتركة-؛ فالمؤكد أن الاتحاد سيضعف تأثيره لمصلحة الدولة الوطنية، كما ستتراجع مكانته على الصعيد الدولي.
وعليه يمكن تقسيم تأثيرات وصول تلك المجموعات للسلطة بين حزمتين من التأثيرات المحتملة:
الحزمة الأولى تتعلق بالقضايا الحالَّة والمباشرة، وأهمها الموقف من الحرب في أوكرانيا، والموقف من روسيا، واحتمالات حدوث اضطراب مجتمعي جراء الإجراءات التي يمكن أن تتخذها تلك التيارات بشأن اللاجئين والمسلمين، وغيرها
والحزمة الثانية تتعلق بزيادة منسوب دور الدولة الوطنية (القومية) على حساب البناء الأوروبي المشترك ممثلاً في الاتحاد الأوروبي، وهو ما سينجم عنه حدوث تغييرات بالغة الأهمية في العلاقات والتوازنات الدولية.
لقد أحدث بروز أوروبا الموحدة تغييرًا كبيرًا في توازنات الوضع الدولي. وإذا كانت النُّخب الأوروبية قد بذلت جهودًا مضنية للخروج من المأزق التاريخي الذي تسبَّب في حربين عالميتين، وإذا كانت قد أحرزت تقدمًا كبيرًا في سعيها لبناء قطب دولي قائم بذاته؛ فواقع الحال أن أكثر من رحَّب بهذا التطور هو روسيا والصين.
لقد نظرت روسيا لتشكيل الاتحاد الأوروبي باعتباره خطوة إستراتيجية كبرى في اتجاه الخروج من تحت العباءة الأمريكية، واعتبرت أن ظهوره سيوفّر فرصة مواتية لإدارة العلاقات مع روسيا على أسس التعامل بعيدًا من حساسيات الحرب الباردة وضغوط الولايات المتحدة. ولم تختلف نظرة الصين عن ذلك.
غير أن صدى تشكيل الاتحاد الأوروبي لم يكن كذلك في الولايات المتحدة، التي رأت فيه بناءً لقطب مستقل يقلّل من الاعتماد على الولايات المتحدة، ويُضْعِف الهيمنة الدولية للولايات المتحدة. وتصل بعض التقديرات حد القول بأن الولايات المتحدة التي شنَّت حربًا إعلامية ودبلوماسية -بل حتى اقتصادية- على مَن وصفتها بأوروبا العجوز أو القديمة؛ هي ذاتها مَن تدعم تلك التيارات الساعية لإضعاف أو تفكيك الاتحاد الأوروبي.
فهل ينتهي الاتحاد الأوروبي؟
لا يزال الوقت مبكرًا للحديث عن نهاية حلم أوروبا الموحدة القادرة على تشكيل قطب دولي.