وما أحرانا أن نُحسن الظن بالله -تعالى- بأن يمنّ على الأمة المستضعَفة بالنصر والتمكين، وأن يصدق علينا وعلى أهل غزة وصف «عباد الله المستضعفين»؛ قال الشيخ السعدي في تفسيره للآية الكريمة: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ}
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، فله الحمد والمنة على هدايته لنا؛ {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].
وكما حذرنا من المَنّ على الله؛ فقد خوّفنا من إبطال صدقاتنا بالمنّ على العباد؛ في تصويرٍ دقيقٍ لحال المنان من البشر؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْـمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْـهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264].
وفي هذا المقام، لا يسعنا إلا الوقوف طويلًا أمام عظمة الله -سبحانه-، والتفكر في أسمائه ذات المعاني والدلالات؛ فالعليم تُثبت لله علمًا يليق بجلاله وعظمته، وهذا لا يمنع اتصاف المخلوق بعِلْم يتناسب مع حاجته وما خلقه الله لأجله، ومِثْلها كثير من الأسماء.
ولكن هناك أسماء تحمل صفات يختص بها الخالق، ويُمنَع على المخلوق الضعيف المحدود الاقتراب منها والتصرف على أساس تخيُّل وجودها فيه؛ فالكبرياء صفة كمال لله، ولكنّها بالنسبة للمخلوق تجاوزٌ للحدّ أدت بإبليس للاعتراض وادّعاء أفضليته على آدم، مما أدخَل العالَم في صراع أزلي مستمر إلى قيام الساعة، ولذا كان الوعيد الشديد لمن اتَّصف بالكِبْر؛ كما جاء في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه-، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قالَ اللَّهُ -عزَّ وجلَّ-: الكبرياءُ ردائي، والعظمةُ إزاري، فمَن نازعَني واحدًا منهُما؛ قذفتُهُ في النَّارِ».
وكذلك اسم المنان، والذي يعني المُنْعِم المُعْطِي من «المَنّ»، ويكون أيضًا مشتقًّا من «المنَّة»، وهي التفاخر بالعطية على المعطَى بأن يذكرها ويكررها، والمعنيان في حق الله -تعالى- صحيحان، وأما بالنسبة للإنسان فيمكن أن يتَّصف بهما، ولكنّ «المَنّ» وهو العطية لوجه الله ممدوح، وذلك عكس «المنة»؛ فهي صفة مذمومة في حق الإنسان؛ كما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهم اللهُ، ولا ينظرُ إليهم يومَ القيامةِ، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ». قيل: من هم يا رسولَ اللهِ؟ خابوا وخسِروا! فأعادها ثلاثًا، قيل: مَن هم؟ خابوا وخسِروا! فقال: «المسبلُ، والمَنَّانُ، والمُنَفِّقُ سِلعتَه بالحلِفِ الكاذبِ أو الفاجرِ».
ولابن القيم كلام جميل في هذا المجال؛ حيث قال: «وحَظَر الله على عباده المنّ بالصَّنيعة، واختص به صفةً لنفسه؛ لأن مَنّ العباد تكديرٌ وتعييرٌ، ومنُّ الله -سبحانه وتعالى- إفضالٌ وتذكيرٌ. وأيضًا فالامتنان استعباد وكَسْر وإذلال لمن يمنّ عليه، ولا تصلح العبودية والذل إلا لله تعالى».
والآيات التي ذكَر الله فيها المنّ كثيرة، نختار منها آيتين تناسبان حال الأمة، وما تَعيشه من اضطراب وصراع؛ إحداهما تُبيِّن أن التعامل مع البشر قائم على محبَّة الهداية والابتعاد عن إرادة الدنيا، وتَذكر منَّة الله علينا بنعمة الهداية؛ قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِـمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94].
وهذه الآية العظيمة تُنَبِّه أن مِن أعظم النِّعم على المسلم المجاهد، أيًّا كان وَضْعه قوةً أو ضعفًا «أن الله اصطفاه ليكون في صفّ أهل الحق والإيمان»، وكان يمكن أن يكون في الصفّ المقابل، وإحساس المسلم بهذه النعمة والمنَّة الإلهية عليه؛ يدفعه لشُكرها بتعظيم قَدْرها وتقديمها على المغانم الدنيوية؛ فيكون الهدف الأسمى للجهاد هو هداية الناس، ومِن هنا نفهم الهدي الإسلامي عند تصافّ الجيوش وقبل القتال؛ حيث يَعرض على العدو أحد الخصال الثلاثة؛ الإسلام أو الجزية أو الحرب.
وأما الآية الثانية العظيمة التي تحوي جماع رعاية الله لعباده؛ فوجود طائفة قائمة على نُصرة الحق والدين والجهاد في سبيله مشيئة نافذة، ووعدهم بالنصر والتمكين مُتحقِّق كونًا وشرعًا، ولكنَّ ما قد يَخفى هو المدى الزمني اللازم لتحقُّق الإرادة؛ فالله -سبحانه وتعالى- يمتنّ على أُمة مستضعفة بالتمكين في الأرض كما في قوله -تعالى-: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ 5 وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [القصص: ٥، ٦].
وهي آية عظيمة في هذا المقام؛ فيها امتنان على بني إسرائيل، وما حصل لهم من العزة والقوة والتمكين في الأرض بعد أن كانوا في ذلة واستضعاف وتبعية لفرعون وملئه؛ فقد وُلِدَ موسى في أَوْج طغيان فرعون الذي أمَر بقتل الأطفال الذكور لبني إسرائيل، ومع قتل كثير من الأطفال كان هناك مسار مختلف للوليد الصغير «موسى»؛ فبدون قتل الأطفال لا يمكن لأُمٍّ أن تُلقي فلذة كبدها في الماء، وقبيل انهيار الأم المكلومة ردَّ الله لها ابنها لتُرْضِعه بأُجرة من قصر فرعون، وينمو الشاب في ظل قصر فرعون؛ فهو ابنهم بالتبني، ولكنَّه أيضًا تربَّى في حضن أمه وبين قومه الحقيقيين، وأصبح له هيبة ونفوذ، ويُقدِّر الله أن يَقتل قبطيًّا، وينكشف أمره، وأصبح خائفا يترقب الانتقام، ويخرج -بعد تحذيره- إلى مدين.
وهنا نقف أنه بدون حادثة القتل ما كان له أن يخرج من مصر لمدة عقد من الزمن، وأنه في طريق عودته إلى المجهول يُكلّمه الله، ويأتيه التكليف مع التطمين {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35]، وتتابعت الأحداث، وانتهت بخروج بني إسرائيل من مصر، وتخلُّصهم من الاضطهاد، ودخولهم في عصر التمكين، تسوسهم الأنبياء؛ فهم مازالوا تحت الرعاية حتى تمام الوعد وتمام المنة.
ولنا أن نتساءل: مِن مرحلة الاستضعاف إلى التمكين كم مِن الوقت مرَّ؟ وكم مِن الضحايا سقطوا؟ وكم اختبار نجحوا فيه؟ وكم اختبار فشلوا فيه؟ ولكنهم تجاوزوا الإذلال أيام موسى الأولى، وتجاوزوا النهر أيام جالوت، ووصلوا إلى قمة الظهور والتمكين أيام سليمان -عليه السلام-؛ نعم إنها سنوات طويلة، ولكنها ضرورية لتكتمل صورة المنَّة الإلهية.
وما أحرانا أن نُحسن الظن بالله -تعالى- بأن يمنّ على الأمة المستضعَفة بالنصر والتمكين، وأن يصدق علينا وعلى أهل غزة وصف «عباد الله المستضعفين»؛ قال الشيخ السعدي في تفسيره للآية الكريمة: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} [القصص: ٥]؛ بأن نُزيل عنهم موادّ الاستضعاف، ونُهلك مَن قاومهم، ونَخذل مَن ناوأهم، {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} في الدِّين، وذلك لا يحصل مع استضعاف، بل لا بد من تمكين في الأرض وقدرة تامة، {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} للأرض، الذين لهم العاقبة في الدنيا قبل الآخرة.