الفساد في الكيان الصهيوني بعد 62 عاماً... سمة متأصلة
يعيش الكيان الصهيوني هذه الأيام ذكرى تأسيسه الثانية والستين على أنقاض الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، وفي الوقت الذي تُفاخِر فيه هذه الدولة بما لديها من قدرات عسكرية وإمكانيات اقتصادية تفوق ما لدى جاراتها من الدول العربية، فإن نخبة من المحللين والكتَّاب الصهاينة لفتوا الأنظار إلى مشكلة ترقى إلى منزلة «المعضلة»، وهي أزمة الفساد المستشري في مختلف مفاصل الدولة.
«يديعوت أحرونوت» كبرى الصحف الإسرائيلية اختارت عنوان «الهزة الأرضية» لقضايا الفساد التي تعيشها الدولة هذه الأيام في ظل التحقيقات التي تلاحق رئيس الوزراء السابق «إيهود أولمرت».
أضف إلى ذلك أن وباء الفساد الذي بات يضرب بأطنابه في مختلف مرافق الدولة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بما تعانيه منذ سنوات بما بات يعرف بـ «غياب جيل التأسيس» الذي رافقها من بداياتها الأُولَى؛ سواء بوفاة عدد منهم، أو باعتزال عدد آخر للحَلْبة السياسية، لكن المعضلة الأكبر التي تصدرت إثر غياب القيادة السياسية هذا العام، تكمن في تسلُّم عدد من القادة حديثي العهد للعمل السياسي، وقد أخذت الأزمة القيادية تستفحل عبر عدد من المحاور السياسية والعسكرية.
ومن أهم معالمها:
1 - الغياب القسري لـ «شارون» بفعل المرض، والغيبوبة الطويلة التي ألَـمَّت به حتى كتابة هذه السطور، وهو ما نتج عنه تزاحمٌ مرحليٌّ لعدد ممن رأوا أنفسهم مؤهلين لخلافته.
2 - المفاجأة التي ألَـمَّت بالوسط السياسي الإسرائيلي بعد اجتياز حركة حماس لنتائج الحرب على غزة، والإرباك الذي وقعت به المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
3 - تفاعل قضايا الفساد التي تورط بها جملة من كبار السياسيين، بدءاً برئيس الدولة، ورئيس الحكومة، ومختلف الوزراء والمسؤولين.
4 - أزمة القيادة العسكرية المتمثلة بتواصل عمليات المقـاومة، واستئناف إطـلاق الصـواريخ لتكشف العجز الذي ألمَّ بها، وانفجار الوضع في لبنان وغزة، وأَسْر مزيد من الجنود، وهـو ما جعـل الدولة تقف «عارية» أمام جنودها وجمهورها الـذي بـات يتفـرج علـى جيشٍ مهـزوم، وقيـادة عسكرية لا تليق بأسطورة «الجيش الذي لا يُقهَر»، وجعلت الصحافة الإسرائيلية تطلق أوصافاً معيبة بحق القيادة الحاكمة، كـ: «السخف، والخيبة، والجهل».
نجوم مسلسل الفساد:
أفردت الصحافة الصهيونية «معاريف، هآرتس، يديعوت أحرونوت» صفحات عديدة، وأسالت كمّاً كبيراً من حبرها، في استعراض فضائح الفساد التي ألَـمَّت بالدولة في السنوات الأخيرة، ومنها إدانة وزير المالية السابق «أبراهام هيرشزون»، ووزير الشؤون الاجتماعية الأسبق «موشيه بن عيزري»، باختلاس المال العام، وخيانة الأمانة، وسوء التصرف في الممتلكات الخاصة بالدولة، وصدور حُكِم بسجن كلٍّ منهما عدة سنوات في السجن.
إلى جانب تتابع الكشف عن فصول جديدة في فضيحة «أولمرت» المتعلقة بتلقِّي رُشىً، واستغلالِ المنصب العام، وتضليل التحقيق القضائي، وهو ما سلط الأضواء مجدداً على فساد النظام السياسي، لدرجة جعلت كثيراً من مراكز الأبحاث في تل أبيب تؤكد أن الفساد أصبح سمةً متأصِّلةً للنظام السياسي الإسرائيلي.
«عفن» الشيفرة الأخلاقية:
لقد أكد «ألوف بن» الكاتب والمعلق الإسرائيلي، على أن النظام السياسي بات مستعداً ليس فقط لغضِّ الطرف عن الساسة الفاسدين، بل لتهيئة الظروف للارتقاء بهم ليتبوؤوا المناصب الكبيرة.
وفي مقال نشره في صحيفة «هآرتس» يضرب مثالاً بما سيحدث لوزير الداخلية الأسبق «آرييه درعي» الذي أُدِين باختلاس المال العام قبل سبع سنوات وحُكِم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات، وهو الآن يستـعد ليحل محل وزير الخارجية «أفيغدور ليبرمان» الذي من المتوقع أن يستقيل بسبب قضايا فساد مماثلة.
ويشير إلى أن رئيس الوزراء «بنيامين نتنياهو» أصر على تعيين ليبرمان في منصب وزير الخارجية (ثاني أهم منصب في الحكومة)، على الرغم من تحذير المستشار القضائي للحكومة من أنه لا يجوز تعيين وزير تُجْرى ضده تحقيقات حول شبهة ارتكاب قضايا فساد خطيرة كما هو الحال بالنسبة لليبرمان.
وأضاف: «إن مجرد فكرة عودته «درعي» للحكومة مع كل ما ارتكبه من جرائم وجُنَح؛ بطريقة هزت الجهاز السياسي والقضائي تثير الحفيظة في النفوس، وإن حدث هذا الأمر فعلاً، فإنه لا يوجد شيء غير ممنوع في إسرائيل».
وأكد «ألوف بن» على أن «السماح بعودة درعي للحكومة رغم فساده الكبير سيشجع الفاسدين ويقلِّص من تأثير العقوبات التي تفرضها المحاكم على الساسة الفاسدين؛ لأن المشكلة الأساسية التي تهدد الدولة أنها لا تمتلك ثقافة سياسية، وأن الجهاز السياسي تحوَّل مع الوقت إلى جهازٍ بلا خجل أو وَجَل. لقد اجتزنا درباً طويلة منذ أن كان النشطاء الحزبيون ضالعين في أعمال فساد بذريعة أنهم يفعلون ما يفعلونه من أجل الحزب».
أما «بامبي شيلغ» فقد اعتبر أن الفساد لم يقتصر على السلطة التنفيذية فقط، بل إن السلطة التشريعية والقضائية قد نخر فيهما الفساد نخراً جائراً، واعتبر الكنيستَ الذي من المفترض أن يراقب أداء السلطة التنفيذية مؤسسةً تثير الخجل والاكتئاب، في حين أن الجهاز القضائي والنيابة والشرطة قد استحكمت فيها المعايير غير الموضوعية، منوهاً إلى أن كبار موظفي النيابة العامة والشرطة يسرِّبون المعلومات حول كل قضية يَرِد فيها أشخاص لا يروقون لهم، منوهاً إلى أن الجمهور الإسرائيلي بات لا يثق بالشرطة والنيابة.
وفي مقال نشرته صحيفة «معاريف» أوضح «شيلغ» أن النواب والأحزاب تفضِّل القادة الذين تحوم حولهم شبه الفساد، وأضاف: «إن أزمة المجتمع الإسرائيلي تتمثل في أنه يحتاج إلى قيادة تتمتع بقاعدة جماهيرية واسعة، وقادرة على شنِّ الحرب أو الدخول في سياقات من المفاوضات، وفي الوقت نفسه لا ينزعج الجمهور الإسرائيلي من إمكانية أن تضطر الدولة للدخول في مواجهة عسكرية مع أيٍّ من أعدائها، بينما يقف على رأسها قائد عديم الإسناد الجماهيري».
من ناحية أُخرَى قال الكاتب والمعلق «عوزي بنزيمان»: إن أحد العوامل التي تشجع الساسة في إسرائيل على الفساد هو حقيقة أن الجمهور الإسرائيلي لا يبدي اكتراثاً إزاء سلوكهم المشين، معتبراً أن الجمهور الإسرائيلي يعتمد منظومة قيم أخلاقية غريبة.
وفي مقال نشره في صحيفة «هآرتس» أعاد للأذهان حقيقة أن رئيس الوزراء «بنيامين نتنياهو» اعترف عندما تنافس على منصب رئيس الوزراء لأول مرة عام 1996م بأن شخصاً مَّا قام بتصويره وهو يمارس الرذيلة مع صديقته على الرغـم من أنه كـان متزوجـاً، وأضـاف: «إن الجمهور الإسرائيلي لا يعنيه أن يتحول قادتُه إلى ممارسة الفجور طالما أن سلوكهم لا يؤثر على رفاهيتهم».
وأردف خاتماً حديثه: «الشيفرة الأخلاقية الإسرائيلية تفيد بحكمةٍ بأن الحياة الفاسدة للسياسيين، هي مسألة شخصية تخصُّهم طالما كانت لا تؤثر سلبياً على أدائهم لمنصبهم العام».