• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الدولة العميقة .. معضلة الربيع العربي

الدولة العميقة .. معضلة الربيع العربي

 

الدولة العميقة.. ذلك المصطلح الذي أربك المشهد السياسي في كثير من الدول العربية، فرغم أن بن علي هرب من تونس، والقذافي قُتل في ليبيا، ومبارك سُجن في مصر؛ إلا أنه وبعد مضي عامين تزيد قليلاً أو تقل قليلاً، ما زالت دول الربيع العربي في تعثراتها، وما زالت تشهد حالة من عدم الاستقرار، وما زالت المظاهرات والاحتجاجات تجتاح الشارع.

ولنا أن نحلل ذلك الخبر الغريب، وهو وإن كان غير خاص بدول الربيع العربي، إلا أنه يعدّ حالة كاشفة لما نريد أن نلقي الضوء عليه؛ فقد تناقلت وكالات الأنباء العالمية أواخر العام 2012 خبراً يحكي عن اكتشاف أنقرة أجهزةَ تنصت ومكبرات للصوت مزروعة في بيت رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وفي مكتبه.

ما يعني أنه وبعد مضي نحو عشر سنوات لحزب العدالة والتنمية في الحكم، إلا أن هناك قوة خفية استطاعت اختراق مكتب رئيس الوزراء التركي ومنزله.. ورغم أن حزب الحرية والعدالة التركي قضى ما يقرب من عشر سنوات في الحكم خاض خلالها حرباً شرسة واسعة ضد بؤر الفساد التي ظلت تصنع السياسة وتدبر المؤامرات والانقلابات خلال الثلاثين سنة السابقة على الأقل؛ إلا أن تلك القوى الخفية ما زالت تعمل ضد السلطة الحاكمة الشرعية في الدولة وتتجس عليها من أجل إحباط إنجازاتها والانقضاض عليها.

ومن المشهد السياسي التركي إلى المشهد السياسي في مصر، فمؤسسات الإعلام والشرطة والقضاء ما زالت في معظمها تعمل لحساب قوى خفية تعمل ضد النظام، فعلى سبيل المثال: أصدر القضاء المصري في الآونة الأخيرة أحكاماً بتبرئة عديد من قادة الشرطة المصرية: حسن عبد الرحمن رئيس جهاز أمن الدولة، وإسماعيل الشاعر مدير أمن القاهرة، وحسن رمزي مدير الأمن المركزي، وإذا أضفنا إلى ذلك صدور أحكام بالبراءة لمعظم أقطاب وأعمدة النظام المصري السابق أمثال: أنس الفقي وزير الإعلام السابق، وفتحي سرور رئيس مجلس الشعب، وصفوت الشريف.

وفي الوقت الذي يُحكم فيه بالبراءة لتوفيق عكاشة في تهمة سبّ رئيس الجمهورية، يُحكم على عصام سلطان، نائب رئيس حزب الوسط، بالسجن والغرامة في تهمة سبّ رئيس وزراء مبارك السابق أحمد شفيق.. كل ذلك يؤشر لمعنى واحد فقط وهو أن هناك قوى خفية تعبث بكل نجاح تحققه الثورة وأنها تسعى لتوجيه الثورة في خط دائري يعود بها من حيث بدأت وإلى نفس النقطة التي انطلقت منها.

تلك القوى الخفية اصطلح على تسميتها بـ «الدولة العميقة». فما المقصود بالدولة العميقة، وما مكونات وجذور تلك الدولة؟

• الدولة العميقة وجذورها المادية:

يرجع تاريخ هذا المصطلح إلى الخبرة التركية، حيث يشير مفهوم الدولة العميقة إلى شبكة من عناصر رفيعة المستوى داخل أجهزة المخابرات (المحلية والأجنبية) والقوات المسلحة التركية والأمن والقضاء والمافيا.

فكرة الدولة العميقة مشابهة لفكرة ”دولة داخل الدولة“.. فالأجندة السياسية للدولة العميقة هي المحافظة على السلطة والنظام القائم، بحيث تعمل دوماً من وراء ستار لضمان هيمنتها على أجهزة الدولة الأمنية والإدارية.

وسائل الدولة العميقة لا تتوقف عند العنف، بل تستخدم كل وسائل الضغط الأخرى للتأثير في النخب السياسية والاقتصادية لضمان تحقق مصالح معيّنة ضمن الإطار الديمقراطي ظاهرياً لخريطة القوى السياسية.

وتحرك قيادة الدولة العميقة شبكة تابعة خفية تشكّل جسم الهرم الغاطس، وتتكوّن من رجال أعمال وبعض البيروقراطيين والمثقفين والإعلاميين والفنانين والرياضيين، الذين يقومون «بالتخديم» على رغبات الدولة العميقة، في العادة مقابل منافع سياسية واقتصادية واجتماعية.

تعادي الدولة العميقة بطبيعة تكوينها فكرة الثورات الشعبية وتعتبرها أخطر أعدائها، حيث من المؤكد أن تحرص الثورة على الإنهاء الكامل السريع، وربما العنيف، للوضعية الخاصة لهذه النخبة من الشبكات غير المعلنة بروافدها العلنية والسرية وتفكيك مفاصلها والقضاء على مصالحها الواسعة، ومن ثم، فمن المفهوم أن تسعى الدولة العميقة للقضاء على الثورة بكل السبل الممكنة.

هذا التركيب المعقّد للدولة العميقة يجعل من عملية التحول إلى دولة الحرية مخاضاً صعباً ومعقّداً والطريق إليه محفوفاً بمخاطر أشدها تفتت كيان الدولة نفسه. لذلك؛ فإن معركة شعوب الربيع العربي الأخطر الآن هي معركة تصفية آثار الدولة العميقة.

• الدولة العميقة وجذورها النفسية (الحنين إلى الديكتاتور):

قبل فترة ليست بالطويلة صرّح المغني التونسي صلاح مصباح بأنه يحيّي بحرارة الرئيس السابق زين العابدين بن علي[1].

وفي اليمن يتلقى الرئيس السابق (عبد الله صالح) في مقر إقامته في صنعاء، برقيات ومكالمات التهاني والإشادة في ذكرى وحدة اليمن.

لكن الصورة المصرية تظل الأوضح، إذ تنعش نتائج انتخابات الدورة الأولى من الرئاسة اعتذاريي مبارك وتعيد حملة «أنا آسف يا ريس» التذكير بإنجازاته من خلال نشر كتاب «مصر مبارك».

والتاريخ شهد الكثير من حالات التوحد مع الجلاد: فحين قامت الحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال والجنوب وكان الشمال قد أقرّ قانوناً بتحرير العبيد، ومع ذلك قاتل الآلاف من الجنود السود في صفوف الجيش الجنوبي الذي رفض قرار تحرير العبيد.

ومن الأمثلة المشهورة أيضاً ما جرى في ستوكهولم عام 1973 وأطلق عليه علماء الطب النفسي متلازمة ستوكهولم، حيث اقتحمت مجموعة ملثّمة أحد البنوك السويدية واتخذوا كل من فيه رهائن، وقامت الشرطة السويدية بمحاصرة البنك لمدة 6 أيام كاملة.

قام الخاطفون بتهديد الرهائن بالقتل جميعاً.. وقتل عدد من الرهائن بالفعل عند محاولتهم الهرب أمام الجميع.

الغريب.. أنه بعد مرور أربعة أيام حدث ما لم يتوقعه أحد، حيث بدأ الرهائن الذين نجوا من الموت بالدفاع عن العصابة وبدأوا يفكرون لهم في طريقة للهروب من رجال الشرطة السويدية التي تحاصر البنك! بل قام بعضهم بالدفاع عن هؤلاء اللصوص والتماس الأحكام المخففة لهم، من هنا عرف هؤلاء الضحايا باسم متلازمة ستوكهولم أو حب الجلاد.

ويعرّف علماء علم النفس الشخص الذي يتعاطف مع جلاده بـ «المازوكي»، وهو الذي يقوم بأشياء (بوعي أو دون وعي) تعرضه للفشل أو الضياع أو الإهانة أو التحقير أو الإيذاء اللفظي أو البدني، وهو يكرر هذا السلوك ويجد متعة خفية في ذلك رغم شكواه الظاهرية. ويستمر الشخص في هذا السلوك بشكل شبه قهري مهما تعرّض للمشاكل والمتاعب، فهو يعشق دور الضحية والمظلوم والمقهور والمعذب. والمازوكية على هذا المستوى هي نوع من اضطراب الشخصية المصحوب بسلوك هادم للذات. هذا الشخص يستعذب الذل ويحب بالمهانة ويشعره الألم بالسعادة.

 • وأخيراً:

إذا كانت الشعوب تعاني فلول النظم السابقة وبقية أجهزتها المتغلغلة في المجتمع، فإن أزمتها الحقيقية تقبع بداخلها؛ لأن العبودية مرض عضال يعيق تقدم الشعوب ويجعلها تخشى أن تخرج من السجن الذي حُبست فيه، وكلما حانت ساعة الإفراج ازداد قلق السجين، حتى إذا دقت ساعة الحقيقة فإنه يفضل أن يقبع في سجنه الذي ظل يصرخ بداخله ويستغيث كي يأتي من يخرجه منه، واقرأ إن شئت قوله تعالى عن بني إسرائيل: (فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض)، ذلك أن الجيل الذي تربّى على ذل العبودية من فرعون سيظل يستعذب ويتلذذ بالعبودية.

ما يحدث الآن في كثير من دول الربيع العربي ليس استكمالاً لسياق الثورة، ولا هو موجة أخرى من أمواجها، بل هو أشبه بمحاولات العنف الذي يدفع به العبد عن نفسه إذا جاء موعد خروجه من قبوه. وإن من أوضح ما يستدل به في هذا المقام مقولة المفكر الإسلامي الكبير سيد قطب - رحمه الله -: «العبيد هم الذين يهربون من الحرية، فإذا طردهم سيد بحثوا عن سيد آخر.. إنهم لا يدركون بواعث الأحرار للتحرر، فيحسبون التحرر تمرداً».

 

:: مجلة البيان العدد 312 شعبان 1434هـ، يونيو - يوليو 2013م.


 [1] صحيفة الشرق الأوسط، الثلاثاء 1 رجب 1433، 22 مايو 2012، على الرابط:

 http://www.aawsat.com/details.asp?section=4&article=678386&issueno=12229

 

 

أعلى