• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
نظرة معاصرة إلى أيام العرب وحالة انفراط السلام

نظرة معاصرة إلى أيام العرب وحالة انفراط السلام

 

تمهيــد:

اتسم العصر الجاهلي بأنه عصر نزاعات استفاضت بها أيام العرب المشهورة التي خلدها التاريخ أمثلة للحروب التي تثيرها الحماقات، وتُضرِم نيرانها كلما خبت التِّرات والثأرات.

وبذا ظلت حالة الحرب هي الحالة الأصل في الحياة الجاهلية، ولم تتخللها إلا حالات سلام معدودة: «فقد تفرقت القبائل العدنانية بأحيائها وبطونها وقبائلها.. وكان كل منها مستقلاً بأحكامه وأعماله، يتخاصمون، ويتحاربون، على ما تقتضيه طبيعة البداوة، ويندر أن يجتمعوا تحت راية واحدة، يدلك على ذلك أنهم لم يجتمعوا في الجاهلية كلها إلا ثلاث مرات»[1].

هذا ما حققه المؤرخون، ومنه يمكن القول إن تلك الحروب هي أبرز ما في سجلات وصحائف تاريخ العرب، قبل الإسلام. وكانت هذه الحروب بعض أهم الأغراض التي دارت عليها قصائد الشعر الجاهلي ومقطوعاته التي نعتمد عليها في التصوير والتوثيق.

لكن لا بد من التنويه إلى أن العصر الجاهلي لم يخلُ من متأملين استبطنوا أحواله بعمق وحذق، وخرجوا بالعظات التي عبروا عنها في شعر جزل منيف.. بيد أن الشعر لم تكن له فائدة عملية في أخذ الناس إلى ناحية السلام؛ لأن الشاعر ليس نبياً، ولا صاحب سلطان يفرض به ما ينصح به للناس.

ولما جاء الإسلام هرع الناس إليه؛ لأنه جاء بما شجب عهود الفوضى، وجاء بالآلة التنفيذية التي تفرض واقع السلام.

ولم يستغرب أن تكون أول المجتمعات استجابة للإسلام أكثرها تعرّضاً لنيران الحروب، وهي جماعات الأوس والخزرج التي انخرطت في الحروب التي كادت تبيد خضراءهم وتأتي عليهم أجمعين.

1-  مظاهر انفراط السلام في الحياة الجاهلية:

وأيام العرب هي أبرز مظاهر انهيار حالات السلام في مجتمعاتهم. وقد نقل ابن منظور عن ابن السكيت أن العرب كانت تطلق لفظ الأيام في معنى الوقائع، وقد زادت، كما روى أبو الفرج الأصبهاني، عن ألف وسبعمائة يوم.

ومن أشهرها: حرب البسوس، وكان سببها أن ناقة كسرت بيض حمام، ويروي لنا القلقشندي القصة ببعض التفصيل، فيقول: «يوم البسوس، وهو من أعظم حروب العرب، كان بين بَكر بن وائل، وتَغلب بن وائل. وكان للبسوس، خالة جساس، ناقة، فرآها كليب بن ربيعة قد كسرت بيض حمام في حماه كان قد أجاره، فرمى ضرعها بسهم، فوثب جساس على كليب فقتله، فهاجت الحروب بسبب ذلك، ودامت بين الفريقين أربعين سنة»[2].‏

فسبب الحرب التي دامت أربعة عقود هي ناقة لا بشر، ومع ذلك أُخذ البشر بجريرتها، ولم تكن تلك إلا حماقة من حماقات الجاهلية، واستعدادها لخوض الحروب لأدنى التعلات. وأما نتائج الحرب فقد تمثلت في إهلاك مقاتلي القبيلتين، وفي طليعتهم قادتهم الكبار، وإضعاف القبيلتين، إذ قل عدد أفرادهما بالموت أو الهجرة إلى البحرين. وأطمع ضعف القبيلتين الأحباش، فأعدوا العدة للغزو، وأخذوا اليمن، وتهيّأوا للزحف على بقية أرض العرب[3].

وفي هذه الغضون ظل العرب يتقاتلون، واحتدمت المعارك بين تميم من مضر وبكر بن وائل من ربيعة، رغم جوارهما في الأرض، أو ربما بسبب ذلك الجوار، الذي قاد إلى التنازع حول المرعى، ونشبت بين القبيلتين 12 معركة حامية، انتصرت تميم في نصفها، وبكر في النصف الآخر.

ومن أشهر الأيام: ذي طلوح، ولم يكن سببه سوى سوء تفاهم يسير؛ وذلك أن عميرة بن طارق اليربوعي، التميمي، تزوج مرية بنت جابر العجلي البكرية: «وكان له في بني تميم امرأة أخرى، تعرف بابنة النطف، من بني تميم، فأتى أبجر أخته يزورها وزوجها عندها‏.‏ فقال لها أبجر‏:‏ إني لأرجو أن آتيك بابنة النطف امرأة عميرة‏. فقال له‏:‏ ما أراك تبقي علي حتى تسلبني أهلي‏. فندم أبجر، وقال له‏:‏ ما كنت لأغزو قومك، لكنني مستأسر في هذا الحي من تميم‏»[4].‏ وهكذا قاد سوء تفاهم يسير، كان بالإمكان تداركه، إلى قتال عنيف وطيس.

ومن أشهر المعارك: يوم الوقيظ ومعركة يوم الشيطين، وهما واديان خصيبان كانا لبكر بن وائل.. ويوم المشقر، أو الصفقة، بين فارس وتميم. ويوم الفِجار، ونقل صاحب السيرة الحلبية، عن ابن سعد، قال: قال رسول الله #: «قد حضرته مع عمومتي، ورميت فيه بأسهم، وما أحب أني لم أكن فعلت». وقد كان لرسول الله # من العمر حينها أربع عشرة سنة. قال الحلبي: وهذا الفجار الرابع، وهو فجار البرّاض.

وذكر الحلبي خبر يوم الفِجار الأول، وسببه، فقال: إن رجلاً يقال له بدر بن معشر الغفاري جلس يوماً بسوق عكاظ، وبسط رجله، قائلاً: أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف. فوثب عليه رجل فضربه بالسيف على ركبته، وأسقطها. واقتتل القوم على أثر ذلك قتالاً شديداً. وحينذاك كان لرسول الله # من العمر عشر سنين.

ومن أشهر أيام العرب: يوم بُعاث، وقد جاء ذكره في حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان يوم بُعاث يوماً قدَّمه الله لرسوله #، فقدم رسول الله # وقد افترق ملؤهم، وقتلت سرواتهم، وجرحوا، فقدَّمه الله لرسوله # في دخولهم في الإسلام»[5]. وقد كان من تقاليد العرب أن الشخص الأصيل لا يقتل بالشخص الحليف؛ ولذلك لما قتل رجل من الأوس حليفاً للخزرج أرادت الخزرج أن يقيدوه فامتنعوا، فوقعت عليهم الحرب لهذا السبب»[6]. وقيل إن حرب بعاث دامت أكثر من مائة سنة.

هذه نماذج من أيام العرب ومآلاتها ذكرناها باختصار، وأخبارها منثورة في مراجع تاريخ الجاهلية، وهي أكثر من ألف وسبعمائة يوم، تدلُّ أسبابها، ونتائجها، على مدى اتساع الخرق في الحياة الجاهلية، واتسامها بحالة العداء، وانفراط عقدة السلام.

2- أسباب انفراط السلام في الحياة الجاهلية:

فمن أسبابها ما يرجع إلى الطبائع النفسية العربية، ومنها ما يرجع إلى الظروف الاقتصادية، ومنها ما يتعلق بعدم وجود رابطة روحية دينية بين الجاهليين.

ومما يتصل بطبائع الجاهليين العدوانية، ذلك القانون التاريخي الذي انتبه إليه الإمام ابن خلدون، وقرر في صياغته له أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب؛ وذلك لأن من طبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، ولأن رزقهم في ظلال رماحهم، ولأنه ليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه[7].

فالتعدي واللصوصية لم تكن من منكرات الأفعال، بل ربما كانت شرفاً لدى بعض الأقوام، وكان الأخذ بالثأر قانوناً في مقام التجلة والتقديس؛ فلا تسامح، ولا سلام، يقر بين الأقوام، وهو الأمر الذي بعثر المجتمعات الجاهلية شذر مذر، ومنع نشوء حكومات مستقرة صالحة فيها.

وهذا ما حدا بالإمام ابن خلدون لأن يصوغ قانوناً تاريخياً آخر، يقرر فيه: «إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية، من نبوة، أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة. والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبعد الهمة، والمنافسة في الرئاسة.

فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة، أو الولاية، كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكِبر والمنافسة منهم، فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والألفة، الوازع عن التحاسد والتنافس.

فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق، ويأخذهم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق؛ تم اجتماعهم، وحصل لهم التغلب والملك، وهم مع ذلك أسرع الناس قبولاً للحق والهدى؛ لسلامة طباعهم من عوج الملكات، وبراءتها من ذميم الأخلاق، إلا ما كان من خلق التوحش، القريب المعاناة، المتهيئ لقبول الخير، ببقائه على الفطرة الأولى، وبعده عما ينطبع في النفوس من قبيح العوائد، وسوء الملكات، فإن كل مولود يولد على الفطرة، كما ورد في الحديث»[8].

وفي معرض ذمٍّ قال الحطيئة وهو يعرِّض بإحدى قبائل العرب ويعيِّرها بحفظ الذمم والعهود والامتناع عن الظلم:

قُبِّيلةٌ لا يغدِرون بذمـَّة

                        ولا يَظلمون النَّاس حبَّة خردل!

وقد استخدم الشاعر لفظ التصغير في الإشارة إلى القبيلة إمعاناً في التنكيل بها.

وقد عرف الجاهليون عواقب الحروب حق المعرفة، ومع ذلك لم يتقونها، بل تفاخروا بخوض غمارها، والاصطلاء بنارها.. وهذا جساس بن مرة يصف الحرب وهولها فيقول:

تأهب مثل أهبة ذي كِفَاح

                        فإن الأمر جلَّ عن التَّلاحي

وإني قد جنيت عليك حرباً

                        تُغِصُّ الشيخَ بالماء القَراح

مُذَكَّـرةً متى ما يَصْح منها

                        فتى نشبَتْ بآخر غير صاح!

ومنهم من خاض أعنف الحروب، لكنه انتهى إلى شجبها، ودعا إلى السلم، ومنهم قيس بن زهير القائل:

يـود سنانٌ لو نحاربُ قومَنا

                        وفي الحربِ تفريقُ الجماعةِ والأزلِ

يـَدبُّ ولا يخفى ليُفسدَ بيننا

                        دبيباً كما دبَّت إلى حُجرها النَّمل

فيا ابني بغيضٍ راجعا السِّلم تسْلَما

                        ولا تشمِتا الأعداء يفترقُ الشَّمل

وإن سبيلَ الحربِ وعرٌ مضلةٌ

                        وإن سبيلَ السِّلــم آمنةٌ سَهل!

وقد نجمت ظاهرة طلب الثأر بسبب افتقاد المجتمع السلطة، الحكومية، الشرعية، القوية، الملزمة، التي تتولى إنفاذ أحكام القانون؛ ولذلك طفق المظلوم يأخذ القانون بين يديه، وينفذه كيف يشاء، ويوقع أحكام الثأر على من يجده من أهل الظالم، مجانفاً بذلك مبادئ النصفة التي لا تسمح بأن يؤخذ بريء بجريرة مجرم.

واتخذت قضية الثأر بُعداً اجتماعياً مهماً في حياة الجاهليين، فما برحوا يحرّمون على أنفسهم متع الحياة وزينتها، وتضخمت قضية الثأر في ضمائر الجاهليين، حتى غدت عقيدة لا يمترون في صحتها. وفحوى تلك العقيدة أن طائراً يقبل من جهة رأس المقتول ولا يني يصرخ مطالباً بالأخذ بثأره، ويحدو بأهله أن يشربوا من دم قاتله، ولا يهنأ لهم عيش دون الأخذ بثأره، طال الزمن أو قصر.

3-  نتائج انفراط السلام في الحياة الجاهلية:

وقد أدى انفراط حالة السلام في حياة الجاهليين إلى نتائج سلبية عانت مجتمعاتهم منها طويلاً، من أهمها:

1 - انحسار ظل القانون، وتضاؤل سلطانه، وطغيان معيار القوة، الذي صار الحكم الأعلى.. فالقوي قاهر غالب، والضعيف مقهور مغلوب، ولا يمكن أن تنشأ حياة فاضلة على هذا المنوال، فالقوة ما لم يعادلها حكم القانون العادل تمسي داعياً ملحاً للغي، والبغي، والفساد.

2 - انطباع حياتهم بالفوضى، والتنقل، وقلة الاستقرار، وذلك ناتج عن ضعف مدنيتهم، وانطباعهم بطباع الخشونة، وتضعضع نظمهم، فلم يقدروا على أن يكونوا كالأمم التي عاصروها، وحكمتها دول قوية مستقرة، في فارس وروما.

3 - رسوخ التخلف في حياة القوم، فما كانت حياة تفتقد حالة السلام بصالحة لنمو الحضارة والمدن فيها، فالحرب تهدم كل جهد، ولو ضئيل، يبذل في اتجاه تنمية تلك المجتمعات.

4 - تناقص أعدادهم باستمرار؛ لأن أيام العرب، ووقائعها، أفنت أعداداً وفيرة منهم. والعجيب أن مـن عرب تلك الأيام من كان يفخر بتلك الظاهرة المدمرة للعمران، ويقول مباهياً:

 إنا لمن معشر أفنى أوائلَنا

                        قولُ الكُماةِ ألا أين المحامونا؟!

5 - ومن نتائج هذه الحروب مسألة وأد البنات، وهي مسألة اجتماعية غاية في الخطورة. وقد وأد العرب بناتهم لأسباب عدة، منها: عدم انفراط حالة السلام في مجتمعاتهم، وخشيتهم من الغارات التي قد تسبي نساءهم وبناتهم.

وقد عاتبهم الله تعالى في ذلك بقوله جل وعلا: {وَإذَا الْـمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: ٨].. وكانوا يدفنون بناتهم أحياء لخصلتين: إحداهما: كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله فألحقوا البنات به. الثانية: إما مخافة الحاجة والإملاق، وإما خوفاً من السبي والاسترقاق[9].

4-  البحث عن السلام في العصر الجاهلي:

ولشناعة نتائج حالات انفراط السلام في المجتمعات الجاهلية، أخذ بعض عقلاء القوم، في ذلك العصر، يبحثون عن السلام، واعتبروا بأهوال الحرب، وتشوقوا إلى عيش السلام، ولهم في ذلك شعر تخلل شعر الحرب؛ منه المديح، حيث: «أشاد الشعر بمحاولات الساعين لإصلاح ذات البين، وإشاعة السلام، بين القبائل المتحاربة، واعتد ذلك عنصراً مهماً من عناصر الصفات المؤهلة للمدح»[10]. ومن أمثلة ذلك قول الحارث بن حلزة يمدح ويدعو إلى الصلح:

أَعَمرو اِبنَ فَرَّاشَــةِ الأَشيَمِ

                        صَرَمتَ الحِبالَ وَلَم تُصرَمِ

وَأَفسَدتَ قَومَكَ بَعدَ الصَّلاحِ

                        بَني يَشكُرَ الصيدَ بِالمَلهَمِ

دَعَوتَ أَبـــاكَ إِلى غَيرِهِ

                        وَذاكَ العُقوقُ مِـن مَأثَمِ

كَفى شاهِداً إِلى الصَفــَا

                        إِلى مُلتَقى الحَجِّ بِالمَوسِمِ

فَهَلَّا سَعَيتَ لِصُلحِ الصَّديقِ

                        كَسَعي ابنِ مارِيَةَ الأَقصَمِ

وَقَيسٌ تَدارَكَ بَكرَ العِراق

                        ِوَتَغلِبَ مِن شَرِّها الأَعظَمِ

وَأَصلَحَ ما أفسَدُوا بَينَهُم

                        وَذَلِكَ فِعلُ الفَتى الأَكرَمِ

وَبَيتُ شَراحِيلَ مِن وائِلٍ

                        مَكانَ الثُّرَيَّا مِنَ الأَنجُمِ!

ومبعث ذلك أن المنذر بن ماء السماء كان قد أصلح بين بكر وتغلب بعد حرب البسوس، وأرسل أعلام الحيين وأشرافهما إلى مكة، لينزعوا ما في صدورهم من ضِغن وغِل، وأوكل تنفيذ ذلك الصلح إلى قيس بن شُراحبيل بن مرة بن همام، فمدحه الحارث بهذه الأبيات.

ومن شعر السلام عند الجاهليين ما اتخذ مسرب الرثاء، ومن ذلك شعر جليلة بنت مرة الشيبانية، أخت الجساس الذي قتل كليباً زوجها، وقد أخرجوها من مأتم كليب؛ لأنها أخت واتره، وقالت لها أخت كليب: رحلة المعتدي، وفراق الشامت، ويل غداً لآل مرة من الكرة بعد الكرة!

فردت عليها جليلة تقول: وكيف تشمت الحرة بهتك سترها، وترقب وترها؟! أسعد الله جَدَّ أختي، أفلا قالت: نُفرة الحياء وخوف الأعداء؟!

ثم جاءت جليلة أباها فسألها: ما وراءك؟ قالت: ثكل العدد، وحزن الأبد، وفقد حليل، وقتل أخ غير قليل، وبين ذين غرس الأحقاد، وتفتت الأكباد، وأنشأت تنشد من شعرها:

يا ابنةَ الأعمامِ إن لمتِ فـــلا

                        تَعجلي باللــومِ حتى تسألي

فإذا أنتِ تبيَّنتِ الــــذي

                        يُوجبُ اللومَ فلومي واعذلي

إن تكنْ أختُ امرئٍ ليمت على

                        شفقٍ منا عليه فافعلـــي

جَلَّ عندي فعلُ جسَّاسٍ فيــا

                        حسرتي عمَّا انجلى أو ينجلي

فعلُ جسَّاسٍ على وَجدي بـه

                        قاطعٌ ظهري ومُدنٍ أجلـي

يا قتيلاً قوض الدَّهرُ بـــه

                        سقفَ بيتيَّ جميعاً مـن عَل

هدم البيتَ الـذي استحدثتُه

                        وانثنى في هـدمِ بيتِي الأول

خصَّني قتلُ كليبٍ بلظــىً

                         من ورائي ولظىً مستقبلي

ليسَ مـن يبكي ليوميْه كمَن

                         إنما يبكي ليومٍ ينجلــي

يشتفي المُدرِكُ بالثأرِ وفـي

                         درَكيَ ثأري ثُكلُ المثكـل

أيتمَ المجدُ كُليباً وحْـــدَه

                        واستوى العالي معاً والأسفل

مـن لحكمِ الناسِ في حَيْرتهم

                         وقِرى الأضيافِ يومَ البُزَّل

ولإصلاحٍ وإفسادٍ معـــاً

                        في صدَى الرُّمحِ وريِّ المُنصِل!

فهي قطعة قوية من الشعر، تنبض بالأسى الحارق، وتكمن قيمتها التاريخية في أنها واحدة من أقدم قطع الشعر العربي التي وصلت إلينا، كما أنها أقدم قطعة تعرف لشاعرة عربية على الإطلاق، وهي بعد ذلك كله زاخرة بتصوير الوضع الاجتماعي، الحربي، لذلك العهد البعيد، وشديدة الدعوة للتخلص من عقابيله الوبيلة.

ومن الشعر الجاهلي الذي دعا إلى السلام شعر النصح والإرشاد، ومن ذلك شعر زهير بن أبي سُلمى:

وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُم

                        وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ[11]

مَتى تَبعَثوها تَبعَثوهــا ذَميمَةً

                        وَتَضْرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَم[12]

فَتَعرُككُّمُ عَركَ الرَحَى بِثِفالِها

                        وَتَلقَحْ كِشافاً ثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِ[13]

فَتُنتَج لَكُم غِلمانَ أَشأَمَ كُلُّهُم

                        كَأَحمَرِ عـادٍ ثُمَّ تُرضِع فَتَفطِم[14]

فَتُغلِل لَكُم ما لا تُغِلُّ لِأَهلِها

                        قُرىً بِالعِراقِ مِن قَفيزٍ وَدِرهَم![15]

وللشاعر في هذه الأبيات إشارة سديدة إلى ما تنجب الحرب من أجيال السوء، والجنوح، والشر.

استخلاص:

وهكذا بلي أُناس العصر الجاهلي بشرور حالات انفراط السلام، وخبروها عن قرب ومعايشة، وذاقوا مرارتها وضراوتها، وغدوا يستشرفون عصراً جديداً يأتي بقيم جديدة تعلي من شأن حالة السلام، وتظلل بها مجتمعاتهم.. ولذا كانت استجابتهم عظيمة لنداء الإسلام ودعوته الكبرى إلى السلام، فكأنما كانت حياتهم السابقة خير تمهيد أعدَّهم لقبول نقيضها، المتمثل في قيم الإسلام، والتسامح، والإخاء، والوئام.

:: مجلة البيان العدد 312 شعبان 1434هـ، يونيو - يوليو 2013م.


 [1] جورجي زيدان، العرب قبل الإسلام، (القاهرة)، دار الهلال، 2006م، ص 251. وقد ذكر ابن الأثير تفصيل ذلك، الكامل في التاريخ، 1415هـ، ص 400.

[2] نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، دار الكتب العلمية، 1997م، ص 64.

[3] دراسات في تاريخ العرب: عصر ما قبل الإسلام، دار المعارف، 1967م، ص 378.

[4] الكامل في التاريخ، 1415هـ، ج/ 1، ص 209.

[5] أخرجه البخاري، باب مناقب الأنصار، رقم 3566.

[6] المرجع السابق، ص 140.

[7] عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، دار الفكر، د.ت. ص150.

[8] المرجع السابق، ص 151.

[9] الجامع لأحكام القرآن، دار الفكر، د.ت. ج/19، ص 195.

[10] المرجع السابق، ص 18.

[11] المرجم: المظنون.

[12] ضريتموها: أوقدتم نارها.

[13] تلقح: حمل الولد. تتئم: تلد توأمين.

[14] أحمر عاد: قصد أحمر ثمود اتساعاً وهو من عقر الناقة.

[15] تغلل لكم: أي تغل لكم من الديات بدماء قتلاكم ما لا تغل قرى العراق من المحصولات الوافرة. قفيز: مكيال ثمانية مكايك.

 

 

أعلى