محاسبة النفس بعرضها على كتاب الله (عز وجل)
( عادَةُ الْقُرْآن إِذَا ذُكِرَ الْكِتَاب المشْتَمِل
عَلَى عَمَل الْعَبْد حَيْثُ يُعْرَض يَوْم الْقِيَامَة ، أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ الْكِتَاب
الْمُشْتَمِل عَلَى الْأَحْكَام الدِّينِيَّة فِي الدُّنْيَا الَّتِي تَنْشَأ عَنْهَا
الْمُحَاسَبَة عَمَلًا وَتَرْكاً ) [1] .
قال ابن منظور : ( الحساب والمحاسبة : عدُّك
الشيءَ ، وحَسَب الشيءَ يحسُبُه ، بالضَّمِّ ، حَسْباً وحِساباً وحِسَابة : عدَّه
. وحاسَبَه : من المحاسبة ) [2] .
محاسبة النفس اصطلاحاً : قال الإمام الماوردي : ( محاسبة النفس : أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدرمن أفعال
نهارِه ؛ فإن كان محموداً أمضاه وأَتْبَعَه بما شاكَلَه وضاهاه ، وإن كان مذموماً استدركه
إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل ) [3] .
أدلة الجمع بين كتاب العبد ، وكتاب الرب ، جل
وعلا : يقول - تعالى - : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ
يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ
أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ
رَبُّكَ أَحَدًا } (
الكهف : 49 ) إلى قوله
تعالى: {
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرْءَانِ
لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } ( الكهف :54 ) ؛ فذكر كتاب العبد ، وذكر كتاب الرب الذي يجب علينا عَرْضُ أعمالنا عليه ،ويقول
- سبحانه - : {
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ
أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ
فَتِيلاً } (
الإسراء : 71 ) إلى
قوله تعالى : {
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْءَانِ
مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا } ( الإسراء :89 ) ، ويقول - تعالى - أيضاً : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } ( الانشقاق :7 ) إلى قوله - تعالى - : { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القُرْءَانُ لاَ يَسْجُدُونَ } ( الانشقاق : 21 ) .
منهج السلف في عرض أنفسهم على كتاب الله ، عز
وجل : قال مالك بن دينار - رحمه الله - : ( رحم الله عبداً قال
لنفسه : ألستِ صاحبة كذا ؟ ألستِ صاحبة كذا ؟ ثم زمَّها ، ثم
خطمها ، ثم ألزمها كتاب الله – عز وجل - فكان لها قائداً ) [4] .
وقال الحسن البصري - رحمه الله - : ( رحم الله
امرءاً عرض نفسه وعمله على كتاب الله ؛ فإن وافق كتاب الله حَمِد اللهَ
وسأله المزيد ، وإن خالف أعتب نفسه ورجع من قريب ) [5] .
وقد كان السلف ينصحون الخلفاء بعرض أنفسهم على
كتاب الله - تعالى - فقد روي أن سليمان بن عبد الملك قال لأبي حازم سلمة بن دينار
: ليت شعري ما لنا عند الله ؟ قال : اعرض عملك على كتاب الله ؛ فإنك تعلم ما لك عند
الله .
قال : فأين أجد في كتاب الله ؟ قال : عند قوله
: { إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ
لَفِي جَحِيمٍ } (
الانفطار : 13-14 ) .
قال سليمان : فأين رحمة الله ؟ قال : { قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ } ( الأعراف : 56 ) [6] .
من صور محاسبة النفس بهذه المنهجية : أولاً : تمثيل النفس في مكان أهل الجنة أو مكان
أهل النار : قال إبراهيم
التيمي - رحمه الله - : ( مثَّلت نفسي في الجنَّة آكلُ من ثمارها ، وأشرب من أنهارها
، وأعانق أبكارها .
ثم مثَّلت نفسي في النار آكل من زقُّومها ، وأشرب
من صديدها ، وأعالج سلاسلها وأغلالها ، فقلت لنفسي : أَيْ نفسي ! أي شيء تريدين ؟ قالت
: أريد أن أُرَدَّ إلى الدنيا فأعملَ صالحاً .
قال : قلت : فأنت في الأُمنيَّة ، فاعملي ) [7] .
ثانياً : عَرْضُ الأعمال على أعمال أهل الجنة
وأهل النار : قال الأحنف
بن قيس - رحمه الله - : ( عرضت عملي على أعمال أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا بوناً
بعيداً لا نبلغ أعمالهم : {
كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
} (
الذاريات : 17 ) .
وعرضت عملي على أعمال أهل النار فإذا قوم لا
خير فيهم ، يكذِّبون بكتاب الله وبرسوله وبالبعث بعد الموت ؛ فوجدنا خيرنا منزلة قوماً
: { خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا } (
التوبة : 102 ) . [8]
ثالثاً : العرض باتهام النفس دون أن تصل إلى اليأس
من الإصلاح : قال بعض السلف
: ( والله ! ما عرضت نفسي على كتاب الله إلا اتهمتها بالنفاق ) .
وهذه العادة تَعرِض لنا منهجاً تربوياً فريداً
في محاسبة النفس ؛ حيث يقوم العبد بعرض أعماله على كتاب الله
- تعالى - ليرى أين هو من صفات المؤمنين ؟ وأين هو من صفات المتقين ؟ وأين هو صفات
أهل الجنان ؟ وتكون نتيجة هذا العرض على كتاب الله :
أولاً : توفيق الله للعبد
بقيامه بأعمالٍ من أعمال أهل الجنة ؛ فيشكر الله ، ويطلب منه الثبات على ذلك والزيادة
؛ لأن الوصول إلى الله ليس له منتهى ، وهذه درجة عظيمة لا يبلغها إلا من اصطفاه الله
واجتباه .
ثانياً : الوقوف على تقصير العبد في جنب الله
؛ فيتدارك العبد التقصير بطلب المغفرة وطلب العون على استدراك ما فات ، والشعور بالتقصير
هو منهج الصالحين .
ثالثاً : أن يكون العبد ممن خَلَط عملاً صالحاً
، وآخر سيئاً .
وهذه الدرجة يدخل فيها كثير من المؤمنين ، نسأل
الله أن يعفو عنَّا برحمته .
وميزة هذه المنهجية : أن الميزان الذي يزن به
العبد نفسه عليه ميزانٌ ثابت لا يتغير .
ضوابط في تطبيق هذه المنهجية :
1 - مصاحبة القرآن : بمعنى أن يَأْلَف قراءته ، وأن يكون له مثل الصاحب الصالح الذي لا ينفك عن صاحبه ؛ بحيث يكون للعبد
وِرْدٌ يوميٌّ لقراءة القرآن وتدبُّره
.
2 - أن يكون للعبد دفتر لتسجيل صفات أهل الجنة
، ثم يعرض نفسه على هذه
الصفات واستدراك جوانب الضعف .
3 - الصدق مع النفس حين العرض ، واتهامها ومقتها في الله .
نسأل الله - تعالى - القبول الحَسَن ، وأن يوفقنا
ويسدِّدنا في تطبيق هذه المنهجية القرآنية .
(1) الإتقان : 1/ 360 ، والفتح لابن حجر :
14/ 68 .
(2) لسان العرب : مادة (حسب) .
(3) أدب الدنيا والدين : (ص342) .
(4) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ،
(ص 26) ، وإغاثة اللهفان لابن القيم ، (ص96) .
(5) أخلاق أهل القرآن للآجري : (ص39) .
(6) تفسير البغوي : 8/ 357 .
(7) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ،
(ص34) .
(8) تفسير القرطبي : 17/ 38 .