كيف تفرِّغ آلية الديمقراطية الشريعــــةَ من محـــتواها
المطّلع على الكم الهائل للتقارير والدراسات
والأبحاث التي تعدّها وتنجزها المراكز والمراصد والمؤسسات الغربية عن بلداننا
ومجتمعاتنا الإسلامية؛ يحس كأن شعوبنا تحت عدسة مجهر يراقب حركاتنا وسكناتنا ويحصي
أنفاسنا ونبضات قلوبنا، ولا أكون مبالغاً إن قلت إن هذه المراكز بباحثيها
واستراتيجييها، تعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا، ومن ثم فهي تخطط لمستقبلنا
وترسم مسارنا بطريقة تخدم مصالحها.
مع هذا الوضع نقول إنه يستحيل أن يسمح الغرب
بقيام نظام سياسي (إسلامي)، إلا إن كان عبر أدوات وآليات النظام العالمي الجديد،
بل يستحيل قيام حتى نظام وطني شريف يهدف لتأسيس دولة وطنية مستقلة وقوية.
وبوجود شعوب تتوق للحرية والانعتاق بالعودة
لدينها تدريجياً والرغبة في أن تسود أحكامه وتعلو شريعته، وبوجود بيئة جديدة
مناسبة لتحقق هذا الهدف عن طريق الانتخاب الحر واختيار من يرفع مثل هذا الشعار
بالوسائل الديمقراطية؛ تسعى القوى الغربية المتربصة والمتيقظة والمراقبة للوضع عن
كثب، للحيلولة دون تحقيق الهدف بشتى الوسائل والسبل، بما فيها الديمقراطية، فتكون
هذه الديمقراطية التي يعتقد البعض أنه سيطبق الشريعة من خلالها، وسيلة لإفراغ
الشريعة من محتواها، أو لمحاصرتها ومحاربتها وعرقلتها، حسب الظروف والسياقات.
بين أيدينا نموذج لإحدى تلك الدراسات التي
أصدرها مركز كارينغي لأبحاث السلام الدولي بتاريخ 15 مايو 2012.
الدراسة أعدّها أحد أهم وأبرز باحثي المركز
أستاذ العلوم السياسية، ناثان براون، خلال فترة النقاشات الدستورية الساخنة في
مصر، بعنوان: "مصر والشريعة الإسلامية دليل الحيران".
ما يهمنا في هذه الدراسة هو الجزء المتعلق
بعرقلة تطبيق الشريعة أو إفراغها من محتواها بآليات الديمقراطية، لكن قبل ذلك لا
بأس أن نمهد للحديث عن ذلك بتوطئة أراها مهمة وضرورية؛ تبدأ من تعريف أو فهم ناثان
براون للشريعة، فهو يسعى جاهداً لتقريبها متخطياً مصاعب الترجمة والإيحاءات
والتراكمات التاريخية والبُعد القانوني أو الزجري أو العقابي للشريعة، لذلك فهي
عنده مزج بين بُعد تعبدي فردي، وبُعد تنظيمي تقنيني تشريعي عام، وبُعد أخلاقي
وقيمي؛ وبالتالي فهي عنده الطريقة الإسلامية لممارسة الأمور، كل الأمور.
بحسب التعريف السابق فإن معارضة الشريعة
كطريقة تغطي مساحات شاسعة من السلوك الشخصي؛ أمر جدّ صعب بالنسبة للدراسة
المقدمة.. إن مطالبة المسلمين بالابتعاد عن الشريعة أو ممارسة حياتهم بطريقة غير
إسلامية؛ أشبه عند الساسة الأمريكيين بتفضيل الطريقة غير الأمريكية.
إلغاء أو إبعاد الشريعة الإسلامية صعب لكنه
ليس مستحيلاً، حيث يمكن الحديث عن تحجيم الشريعة، وعن استغلال الثغرات والمنافذ
الموجودة فيها لاختراقها وتطويعها أو حتى القبول بما لا يتعارض مع القيم والقوانين
الغربية؛ وعن استعمال آليات الديمقراطية والدولة المدنية، أي عن نفس تلك الوسائل
والآليات التي أتت بالإسلاميين؛ لعرقلة مشروعهم أو إفراغه من محتواه.
تتحدث الدراسة بكل مكر ودهاء عن إمكانية
الالتفاف على مطلب تطبيق الشريعة بالحديث عن روحها ومبادئها ومقاصدها؛ لأنها عامة
ويمكن توسيعها لأبعد حد، خاصة إن كانت تتوافق مع المنظومة الغربية، وهنا لا بأس
بالحديث عنها وتطبيقها، لكن حين يتعلق الأمر بهامش التفسير الضيق، والمقصود هنا
أحكام الشريعة؛ الأحكام الثابتة والقطعية (وليس فقط مبادئها أو مقاصدها أو روحها
كما يروج البعض ومنهم إسلاميون للأسف الشديد)؛ فإن التصدي لها يكون عن طريق
المراقبة اللصيقة والدائمة وتقديم الاقتراحات والاستشارات، ويمكن تقسيم الوسائل
المعتمدة لإفراغ الشريعة من محتواها أو التصدي لها وعرقلتها، إلى:
- وسائل فكرية (اجتهادات، أفكار، أدلة،
منطق، وحجج...).
- وسائل تنظيمية (قوانين، مساطر، آليات،
مؤسسات، شراكات، ومواثيق...).
ونجمع ما تفرق في تلك الدراسة ونجمله في:
- تشجيع الاتجاه الذي يطرح إعادة تفسير أو
تأويل القواعد الأساسية والنصوص القطعية والأحكام الثابتة، وجعل ذلك مدخلاً لعرقلة
تطبيق الشريعة.
- تشجيع الاتجاه الذي يقول باستحالة تطبيق
الشريعة لتغيّر الظروف والأحوال، مع الاستدلال من داخل الشريعة على ذلك.
- الاستدلال ببعض الأحداث والوقائع؛ كعام
المجاعة، والادعاء بأن الحالة الاقتصادية التي تمر بها البلاد الآن شبيهة بالظروف
التي أوقف فيها عمر رضي الله عنه حد السرقة، وهي ثغرة واسعة جداً حسب الدراسة.
- استعمال المقاصد للالتفاف على الأحكام
وإسقاطها.
- دفع الأفكار السائدة حول دور الشريعة
الإسلامية في النظام القانوني والدستوري في اتجاهات مختلفة للغاية.
تبدو الدراسة معنية ومهتمة جداً بالجهة التي
ستوكل إليها مهمة تفسير الشريعة وتطبيقها، لذلك تم طرح سؤال: من سيفسّر قواعد
الشريعة ويطبّقها؟ والجواب عن هذا السؤال جاء على شكل سلسلة من الأسئلة التي يمكن
فهمها على أنها اقتراحات أو خريطة طريق لما يجب أن يكون عليه الوضع، خاصة أن
الدراسة معنية بفهم الجهة التي سيُعهَد إليها أمر تفسير وتطبيق أي قواعد قائمة على
الشريعة، كما أن الدراسة مهتمة بالمعنى الدقيق لمختلف الصيغ اللفظية؛ لذلك جاءت
المقترحات على الشكل التالي:
- ما الذي ينبغي أن يكون عليه هيكل المحكمة
الدستورية العليا، حيث من المرجّح أن تكون لها سلطة تفسير أي اصطلاحات دستورية
بشأن الإسلام؟
- كيف سيتم تنظيم المحكمة الدستورية العليا
في مصر؟ وما يجب أن يكون هيكل المؤسسات الدينية ودورها في الدولة، بما في ذلك
الأزهر؟
- كيف يجب أن يُنَظَّم الأزهر؟ وما الذي
ينبغي أن تكون عليه طبيعة دوره في الدولة المصرية ومدى نفوذه الاجتماعي؟
- كيف يجب أن يكون هيكل مؤسسات الدولة
الدينية الأخرى، مثل دار الإفتاء المصرية؟
- ما الذي ينبغي أن يكون عليه وضع الوثائق
الدولية المختلفة لحقوق الإنسان التي وقّعت عليها مصر؟ ومَن يجب أن يكون مسؤولاً
عن تفسير التحفّظات القائمة على تلك الوثائق؟
- ما الأولوية التي يجب أن تُعطى لإصلاح
القانون الجنائي؟
تشكّل هذه الأسئلة وغيرها التي هي في عمقها
أجوبة ومقترحات، دليلاً عملياً على ما يتعيّن على المراقبين مراقبته، لذلك ورد في
الدراسة العبارة الصريحة التالية: "مراقبة وتحديد العناصر التي ينبغي تعديلها
في قانون الأحوال الشخصية المصري الحالي، وما الذي يجب أن تقوله؟"، ثم طرحت
الدراسة إمكانية الاختيار من بين مذاهب الفقه وأيضاً التفسيرات المناسبة والأكثر
ملاءمة، ثم يوكل الأمر للتشريعات البرلمانية لتسنّها على شكل قوانين.
من الواضح جداً هنا أننا نتحدث عن دولة ذات
سيادة عصفت ثورتها برؤوس الفساد، وعن انتخابات حرة ونزيهة أفرزت برلماناً إسلامياً
وحكومة إسلامية ورئيساً إسلامياً ودستوراً حصل عليه ما يشبه الإجماع الإسلامي،
وأغلب جمعيات المجتمع المدني والمنظمات والهيئات والنقابات المسيطرة على المشهد
إسلامية.. ورغم هذا الوضع شبه المتماسك والمتحد والمجمع على رؤية ومشروع وبرنامج
ولو في مبادئه وخطوطه العريضة؛ فإن الفيروس الغربي يحاول جاهداً أن ينخر هذا الجسم
بأساليبه الماكرة الملتوية وآلياته الديمقراطية التي ابتكرها لتكون قاطع طريق على
أي عودة حقيقية للإسلام.
:: مجلة البيان العدد 311 رجب 1434هـ،
مايو - يونيو 2013م.