• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
منظـــورابن خلدون في اكتساب اللغة العربية

منظـــورابن خلدون في اكتساب اللغة العربية

 

مفهوم المَلَكَة:

يرى ابن خلدون أنّ اللغات جميعها ملكات شبيهة بالصناعة، أي أنّ اللغة تُتعلم كما تُتعلم صناعة ما، والملكة عنده هي مهارة ثابتة تكتسب عن طريق التعلم، سواء تعلق الأمر باللغة أو بغيرها من الصنائع، وقد عرّفها بأنها صفة راسخة يكتسبها الإنسان عن طريق التعلم، وتَحْدُث هذه الملكة عن طريق التكرار والممارسة، قال ابن خلدون يشرح معنى الملكة: «والملكات لا  تحصل إلا بتكرار الأفعال، لأن الفعل يقع أولاً وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالاً، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة»[1].

وكانت ملكة اللغة العربية تكتسب طبيعياً بالسماع[2] حين كان المتكلم ينشأ في وسط لغوي كله عربية فصحى، فلا يحتاج إلى أن يتعلمها على يد معلم، وبهذا فسّر القول الشائع بأن اللغة العربية طبع في العرب[3]. لكن هذه الملكة فسدت بسبب اختلاط العرب بالعجم، لذلك لم يعد السماع وسيلة كافية لتعلم اللغة الفصحى، فما طرق اكتساب ملكة اللغة العربية؟

 كثرة الحفظ وجودة المحفوظ:

طريقة اكتساب العربية عند ابن خلدون هي حفظ كلام العرب القديم، وجَعَلَ القرآن الكريم والحديث الشريف من أوّل ما ينبغي أن يحفظ ابتغاء هذه الملكة، ثم يأتي بعد ذلك كلام السلف عامة، ثم كلام فحول العرب، قال ابن خلدون: «ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث، وكلام السلف، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم... حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم... منزلة من نشأ بينهم»[4].

هكذا؛ فابن خلدون يرى أن حفظ كلام العرب الفصيح طريقة فعّالة في اكتساب ملكة اللغة العربية، ذلك أن مَنْ حفظ كلام العرب الفصيح كَمَنْ عاش بينهم، فسمع منهم، والملكة التي تنشأ عن حفظ الكلام الفصيح هي نفسها التي تنشأ عن سماع الكلام الفصيح، فإذا كانت وسيلة السماع الطبيعية غير متاحة في الوسط اللغوي بعد فساد اللسان العربي بالعُجْمَة، فإنّ ابن خلدون يحثّ على خلق سماع اصطناعي.

ولنوعية المحفوظ وكميته أثر في امتلاك اللغة، إذ كلما كان المحفوظ جيداً كثيراً كانت الملكة أجود، قال: «وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظماً ونثراً»[5]. والدعوة إلى حفظ كلام العرب قديمة، ودليل ذلك ما جاء في كتاب «طبقات النحويين واللغويين»، حيث قال الزبيدي: «ولم تزل الأئمة من الصحابة والراشدين... يحضون على تعلم العربية وحفظها والرعاية لمعانيها...»[6].

ونبّه ابن خلدون مرة أخرى إلى أنّ على قدر المحفوظ كماً وكيفاً تأتي الملكة، وبيّن الفرق بين ملكة من يحفظ أشعار العرب الإسلاميين المتقدمين وبين من يحفظ أشعار المتأخرين منهم، إذ قال: «وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته من جنسه وكثرته من قلته، تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ...»[7]. وقد اعترف ابن خلدون نفسه بأنه كان يجد صعوبة في نظم الشعر، بسبب كثرة محفوظه من الأشعار العلمية في النحو والفقه والمنطق[8].

إنّ الحفظ في التراث التربوي العربي مسألة ضرورية، لِمَا لها من فوائد في تعلم اللسان العربي، وفي تعلم الأخلاق والشيم العربية، فقد أورد نايف معروف نصاً لابن سينا «ينصحنا ويحضنا على تلقين أطفالنا آيات القرآن الكريم وأبيات الشعر التي تحث على الفضائل وتنهى عن الرذائل»[9]. لكن هل الحفظ وحده كاف لاكتساب ملكة اللغة العربية؟

 الفهــــــــم:

إن الحفظ وحده لا يكفي لامتلاك اللغة العربية، بل لا بد من أمر مهم، هو الفهم، إذ الفهم هو الذي يمكِّن الحافظَ من استثمار محفوظه؛ إذ لا يمكن أن يتصرف المتكلم في محفوظه إذا لم يفهمه، قال ابن خلدون: «... ثم يتصرّف بعد ذلك  في التعبير عمّا في ضميره على حسب عباراتهم، وتأليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من أساليبهم وترتيب ألفاظهم؛ فتحصل له هذه الملكة بالحفظ والاستعمال»[10].

إنّ الفهم أساس بالنسبة لابن خلدون في حصول الملكة اللغوية، وقد تحدّث عن أهميته في موطن آخر[11]، ورأى أن القصور اللغوي عند أهل المغرب وإفريقيا ناتج عن اقتصارهم على حفظ القرآن الكريم دون سواه من كلام العرب الفصيح[12].

وأراد أن يعزز هذه الفكرة بوصف حال أهل إفريقيا الذين يخلطون حفظ القرآن بحفظ «عبارات العلوم في قوانينها»، فلذلك هم أقدر على التصرف في الكلام، بيد أنّ ملكتهم كما قال ابن خلدون قاصرة؛ لأن محفوظهم من القوانين العلمية النازلة عن البلاغة[13].

وقد أقرّ ابن خلدون بجودة مذهب ابن العربي في التعليم، وهو مذهب يدعو إلى الفهم قبل الحفظ، وأنكر المذهب السائد الذي كان يبدأ بتحفيظ القرآن، حيث قال: «ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول عمره، يقرأ ما لا يفهم وينصب في أمر غيره أهم عليه منه»[14].

 الاستعمال:

هناك أمر ثالث لا بد منه لاكتساب ملكة اللغة العربية الفصحى، وهو الاستعمال، ومعناه أن يستخدم المتعلم ما حفظ وفهم في أساليبه، ومن طبيعة الحال ليس المقصود هنا أن يستظهر ما حفظ، بل أن ينسج كلاماً على منوال ما حفظ وما فهم، وعبر ابن خلدون عن هذا المعنى باستعمال فعل «تصرّف»، حيث قال: «... ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب عباراتهم، وتأليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من أساليبهم وترتيب ألفاظهم، فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال». إن الحفظ والفهم غير كافيين لحصول الملكة اللغوية، فالمتعلم الذي لا يستعمل ما حفظ وفهم لا يملك ملكة اللغة العربية الفصحى، وعلى هذا، فملكة اللغة العربية لا تحصل إلا بهذه الأمور الثلاثة مجتمعة، ويبقى الاستعمال أهم هذه الأمور.

وقد تنبّه ابن خلدون إلى أهمية الاستعمال فجعله حداً فاصلاً بين مصطلحين، هما صناعة اللغة العربية وملكة اللغة العربية، فمعنى صناعة العربية أن يمتلك المتعلم قوانين اللغة من إعراب ونحوه، وأن يحفظ كلام العرب، لكن دون تطبيق ذلك في كلامه هو، فهذه لا تسمى عنده ملكة، بل صناعة، وحين يستعمل المتعلم المحفوظ والمفهوم، فهو عندئذ يملك الملكة اللغوية، وقد أجاد ابن خلدون في شرح الفرق بين الصناعة والملكة بالتمثيل بمثال حسي، إذ اعتبر من لا يستعمل اللغة وهو يعرف قوانينها كمن يعرف قوانين الخياطة والنجارة معرفة نظرية فيصف ما ينبغي القيام به في الصناعتين، لكن إذا طُولِبَ بأن يطبق معرفته النظرية عجز[15].

ولم يتحرج ابن خلدون في اتهام بعض جهابذة النحاة بقصورهم في التعبير، فقد جعلهم مثالاً مقابلاً لمثال الخياط أو النجار الذي يملك الصناعة ولا يملك الملكة، قال: «وكذلك تجد كثيراً من جهابذة النحاة... إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه... أخطأ فيها الصواب وأكثر من اللحن»[16].

إنّ هذا القول ثقيل، على النحاة خاصة، ولا شك أنّ القصد منه إظهار مدى أهمية الاستعمال في اكتساب اللغة، هكذا أثبت أن ملكة اللغة العربية ليست هي صناعة العربية، حيث قال: «ومن هنا يعلم أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية».

ويعود ابن خلدون ليشير إلى أمر الاستعمال الذي كان غائباً عند المغاربة، خاصة في تعليمهم، إذ أشار إلى أنّ التعليم لم يكن يدرّب أو يسمح للمتعلم على التمرن باستعمال اللسان العربي[17].

وقد ذمّ ابن خلدون طريقة التلقين والتحفيظ التي لا تسمح أو لا تدرّب المتعلم على الحديث والمناظرة، أي على استعمال اللسان، حيث قال في موطن آخر من المقدمة: «... فتجد طالب العلم منهم... سكوتاً لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة»[18]. ونتيجة هذا الأسلوب التعليمي هي: «فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم»[19].

واضح إذن أنّ ابن خلدون يدعو إلى استعمال اللغة، كي يكتسب المتكلم الملكة اللغوية، وقد ربط الاستعمال بطرق التعليم، وهنا حثّ على أن يسمح التعليم للمتعلمين بالحديث والمناظرة، أي أنه يرفض طريقة التلقين والتحفيظ التي تُبْقِي المتعلم ساكتاً طول حياته التعليمية. إنّ ابن خلدون كان واعياً بأن لا قيمة لحفظ لا يتصرف صاحبه فيه بالاستعمال، فالحفظ ما هو إلا وسيلة لغاية، وهي استعمال اللغة على منوال المحفوظ، هكذا فإن «الملكات اللسانية كلها تكتسب بالصناعة والارتياض»[20].

هذه أفكار تربوية حضارية يحق للمرء اليوم أن يعتز بها، وأحسب أنّها جديرة بالأخذ بها في تدريس اللغة العربية، وإعداد البرامج التعليمية في عصرنا، إنها أفكار ثمينة أخالها قادرة على المساهمة في النهوض باللغة العربية في المدارس والجامعات، ومما يؤسف له أنّ واقع تدريس اللغة العربية ما زال بعيداً عن منظور ابن خلدون في تدريس اللغة العربية وإعداد البرامج، إذ ما زال الحفظ الأعمى مهيمناً على طريقة تعليم النحو العربي خاصة، وما زال الاستعمال اللغوي الفصيح في التدريس والتحدث في الفصول الدراسية غائباً، وما زالت البرامج التعليمية للغة العربية شبه خالية من نصوص فصيحة ذات قيمة أخلاقية وفنية قادرة على إكساب المتعلم ملكة لغوية سليمة.

 

:: مجلة البيان العدد 310 جمادى الآخرة 1434هـ، إبريل - مايو 2013م.


[1] مقدمة ابن خلدون، تحقيق: درويش الجويدي، المكتبة العصرية، صيدا - بيروت، 2002، ص 554.

[2] المصدر نفسه ص 554.

[3] المصدر نفسه ص 555.

[4] المصدر نفسه ص 559.

[5] مقدمة ابن خلدون، تحقيق: درويش الجويدي، المكتبة العصرية، صيدا - بيروت، 2002، ص 559.

[6]  أبو بكر بن محمد بن الحسن الزبيدي الأندلسي، ت. أبو الفضل محمد بن إبراهيم، دار المعارف بمصر، ط 2، ص 12.

[7] مقدمة ابن خلدون، تحقيق: درويش الجويدي، المكتبة العصرية، صيدا - بيروت، 2002، ص 577-578.

[8] المصدر نفسه ص 579.

[9] خصائص العربية وطرائق تدريسها، ص 113.

[10] مقدمة ابن خلدون، تحقيق: درويش الجويدي، المكتبة العصرية، صيدا - بيروت، 2002، ص 559.

[11] المصدر نفسه ص 553.

[12] المصدر نفسه ص 537.

[13] المصدر نفسه ص 537.

[14] المصدر نفسه ص 538.

[15] مقدمة ابن خلدون، تحقيق: درويش الجويدي، المكتبة العصرية، صيدا - بيروت، 2002، ص 559-560

[16] المصدر نفسه ص 560.

[17] المصدر نفسه ص 561.

[18] المصدر نفسه ص 403.

[19] المصدر نفسه ص 403.

[20] المصدر نفسه ص 568.

أعلى