فكرة التهجير التي تحاول أن تُروِّج لها «إسرائيل»، ومن خلفها الولايات المتحدة؛ ليست جديدة على الفكر الغربي؛ فهي إحدى ركائز الليبرالية الغربية المقيتة، فالهولوكوست أو عمليات إبادة اليهود، بدأت في ألمانيا بمحاولات التهجير أولاً، وللمفارقة كانت بولندا حاضرةً
منذ شهر تقريبًا نشرت جريدة «فايننشال تايمز» البريطانية تقريرًا وثَّقت فيه دَفْع
الحكومة البريطانية لرواندا مبلغًا إضافيًّا قدره 100 مليون جنيه إسترليني؛ ضمن جزء
من خطة رئيس الوزراء ريشي سوناك لتهجير طالبي اللجوء إلى رواندا، ممّا رفَع التكلفة
الإجمالية لهذه الخطة حتى الآن إلى 240 مليون جنيه إسترليني (300 مليون دولار).
لكنَّ ألمانيا يبدو أنها كانت أكثر سخاءً، فأعلنت أنها على استعداد لدفع مبالغ
أكبر؛ فقد تفاوضت مع بولندا على ترحيل مليون من مواطنيها السود والمهاجرين إلى
بولندا مقابل 4.5 مليار يورو.
وقالت وزارة الداخلية الألمانية لوكالة الأنباء الألمانية: إن المفوض الخاص الذي تم
تعيينه لإبرام الاتفاقيات التي باتت تُعرَف بـ»شراكات الهجرة»؛ يواخيم شتامب، يُجري
حاليًّا مناقشات سرية مع عدة دول.
ووقَّعت ألمانيا على الأقل إعلاني نوايا مع الدولتين الواقعتين في آسيا الوسطى،
أوزبكستان وقيرغيزستان.
أما في دولة «إسرائيل» -ذنب الحضارة الغربية-؛ فقد أعلن موقع «زمان إسرائيل»
الإخباري أن «مسؤولي الموساد (جهاز المخابرات) ووزارة الخارجية يتفاوضون مع رواندا
وتشاد لاستيعاب الفلسطينيين الذين يختارون الهجرة من غزة».
وأضاف: «تقدم إسرائيل للدول حزمة مساعدات يحصل بموجبها أي فلسطيني يقرر الهجرة إلى
هناك على منحة مالية سخية، إلى جانب مساعدات واسعة للبلد المُستقبِل، تشمل مساعدات
عسكرية».
وتابع: «صاغت إسرائيل آلية للمفاوضات مع البلدين، تتمثل في تقديم منحة مالية سخية
لأيّ فلسطيني يرغب في الهجرة من غزة، إلى جانب مساعدة واسعة للبلد المُستقبِل، بما
في ذلك مساعدات عسكرية.
سواءٌ صدق الخبر أم لا (وقد نفت الدولتان تلك الأخبار)؛ فإن فكرة التهجير قائمة في
النُّخبة السياسية فكرًا وواقعًا، وما التصريحات والمؤامرات الساعية لتهجير أهالي
غزة إلى سيناء منّا ببعيد.
ففكرة التهجير التي تحاول أن تُروِّج لها «إسرائيل»، ومن خلفها الولايات المتحدة؛
ليست جديدة على الفكر الغربي؛ فهي إحدى ركائز الليبرالية الغربية المقيتة،
فالهولوكوست أو عمليات إبادة اليهود، بدأت في ألمانيا بمحاولات التهجير أولاً،
وللمفارقة كانت بولندا حاضرةً أيضًا؛ فقد حاولت ألمانيا في بداية الأمر إرسال
اليهود بالقطارات خارج ألمانيا، وبالتحديد إلى بولندا، والتي رفضتهم أيضًا، كما
رفضتهم معظم الدولة الأوروبية.
إما التهجير وإما الإبادة.. هذه هي فلسفة الغرب تجاه الآخر، فعندما لا تُفلح حملات
الاقتلاع من الأرض والنفي وكأن هذا هو الموقف الرحيم؛ يبدأ دور المتوحشين في إقامة
المجازر والمذابح لإنهاء الوجود بالكلية.
هذه هي سردية التاريخ الغربي كله، القائم على ركزتين أساسيتين: التفوق العرقي،
والمادية المفرطة التي تسلب الإنسانية من الإنسان، وتتركه مادة صماء، أو حيوان
أبكم.
والحدائق البشرية شاهدة على هذا الاستعلاء البغيض، فحتى عام 1958م كانت بلجيكا تعرض
بشرًا من إفريقيا داخل أقفاص بجانب الحيوانات، خاصةً القرود؛ تأصيلاً لتفوُّق
العِرْق الأبيض، فما عداهم هم أعلى سُلّم الحيوانات، وتلك أعلى مكانة يمكن أن
يَصلوا إليها، وحظيت تلك الحدائق البشرية بشهرة واسعة داخل المجتمعات الغربية،
والتي انتشرت وتوسعت خلال القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة وأوروبا، وحوت
أفارقة وهنودًا حمرًا وفلبينيين، وغيرهم، وبلغ رُوّاد تلك الحدائق الملايين من
الغربيين، بعضهم كان رحيمًا، وبدا عليهم التعاطف مع المحبوسين في الأقفاص؛ فتدمع
أعينهم، فيُخرجون بعضًا من فتات طعامهم فيلقونهم إليهم لا على أنهم بشر جائعون، لكن
ربما لتَذكُّرهم نباح كلابهم أو مواء قططهم عندما يُصيبها الجوع، فحَرّك ذلك
مشاعرهم الرقيقة تجاه هؤلاء السود أو الحمر الجائعين.
واليوم تدور دورة التاريخ بين التهجير أو الإبادة بنفس المشاريع القديمة التي روّج
الغرب أنها كانت حقبة تاريخية وانتهت، والحقيقة أنها ما زالت قائمة في مخيالهم؛ لأن
حضارتهم أُسِّست على ذلك، ينقصها فقط الحدائق البشرية، ومن يدري ربما تُعدّ الأقفاص
حاليًّا، لتكون أكثر تطورًا؛ فيُعِدّون بيئة ملائمة محاطة بأسوار عالية، تمامًا كما
يطوّرن الآن بيئات مشابهة للأسود والزرافات والقرود.
تضجّ وسائل الإعلام الآن بمئات، بل آلاف المتعاطفين مع المسلمين في غزة، يبكون
طفلاً قُتل أو أُمًّا مكلومة، ويتحدثون عن تغيّر في الرأي العام العالميّ.. لا
تُصدّقهم؛ فإنهم يكذبون.
إنهم يتعاطفون معك تمامًا كما يتعاطفون مع صغير وحيد القرن الذي قتله الصيادون
ببشاعة، ويمدحون شجاعة أُمّه في الدفاع عن صغيرها، وقد تخرج المظاهرات مُندِّدة
بقتل هذا الحيوان المسكين، والمطالبة بحمايته.
لا تُصدِّقهم؛ لأنه بعد انتهاء العاصفة يمكن لتفجير صغير في إحدى مدن العِرْق
الأبيض الهادئة أن توقظه مِن غفلته تجاه المسلمين المستضعفين ليعود لنغمته القديمة
عن الإرهاب الإسلامي، وتعود موجات الإسلاموفوبيا على وَقْع مشهد الإرهابي الملتحي
والإرهابية المحجّبة.
لا تصدقهم؛ لأنهم ما زالوا يكذبون على أنفسهم في حُريتهم وماديتهم واستعلائهم، ما
دامت حضارتهم حاضرةً في نفوسهم، فكل ما يحدث هو تقسيم أدوار بين النازيين جُلّهم
متوحشون وبعضهم رحماء.
الشيء الذي الوحيد -بعد قدَر الله- الذي أبقاهم قادرين علينا، هو أننا ما زالنا
نُصدّقهم. ننسى وعد الله وننتظر وعد محكمة العدل أو خروج المتظاهرين نُصرةً
لقضيتنا.