إن ذاكرة التاريخ لا تنسى، وعَجلته إن أصابها التباطؤ فإن لها انعطافة مفاجئة، وإذا تسارعت زمنًا، وتدحرجت أحداثه تباعًا، فسوف تقف يومًا ما لتكشف الحقيقة أو ترويها، وهي التي ظن أهلها أن التراب قد أُهيل فوقها ركامًا، وحينها قد يعلو شأن مَن يستحق، ويُدان مَن يس
التزهيد في التاريخ إضرارٌ بالعِلْم والوعي والمستقبَل، وهذا التزهيد يأتي على عدة
صُوَر؛ بعضها في التعليم والمناهج بالتقليص أو الإلغاء أو سوء العَرض، وبعضها في
الإعلام والثقافة بالجد والهزل. وربما أن أجزاء من التزهيد بريئة من النية السيئة
المسبقة، ودليل على السذاجة وقِصَر النظر فقط، ومن المؤكد أن قسمًا منها يسير في
ركاب تفريغ العقل العربي والمسلم من تاريخه وأركان ثقافته وحضارته، تمامًا مثلما
يحاولون منذ القدم في العلوم الشرعية واللغوية والأدبية بالتشويه والتشغيب
والتهوين.
طبعًا ليس مطلوبًا أن يكون كل واحد من الناس مختصًّا بالتاريخ؛ فلهذا العلم والفنّ
أهله وأشياخه؛ بيد أن المراد الاشتغال بشيء من التاريخ والالتفات إليه لا عنه،
وأيضًا التأبي على دعوات القطيعة التامة معه، أو التشكيك الجائر المغرض فيه. وهذا
المطلب يتحقق بالسماع والحوار والقراءة والتحليل والمحافظة على حبال الصلة به،
وحُسْن الانتقاء للمادة المستفاد منها، وما أكثر المواد التاريخية المناسبة لغير
أرباب علم التاريخ، وهي في متناول اليد مع الالتزام عند الاختيار بالحذر والمقارنة
والسؤال؛ فليس كل كاتب أو مُتحدِّث أو متأمِّل صائبًا أو صادقًا دائمًا.
ومن المهم ألّا يكون التاريخ -على جلالة قدره- ضاغطًا على المسارات والقرارات،
ومُوجِّهًا لها؛ وذلك أنه ليس العامل الوحيد في الحسم واختيار التوجُّه، فالواقع
حاضر بقوة أيضًا بما فيه من اعتبارات ومتغيرات ومصالح، والنظر للمستقبل المنشود أو
المتوقع له قيمته ومكانته، بيد أن الشأن المراد هو ألّا يكون العامل التاريخي
غائبًا تمامًا، فمن البصيرة أن يغدو حاضرًا، وعنصرًا فاعلًا مع غيره، ومؤثرًا في
القرار دون انفراد في هذا الباب أو استقلال كلّي عما سواه.
ولأن التاريخ بهذه المكانة يلتصق بالعلوم كافة؛ فلكل عِلْم تاريخ من التأسيس
والتطوير والعقبات، وتاريخ من الرجال والنظريات ونَحْت المصطلحات أو سكّها، ولا
يكاد يلمّ أهل الاختصاص بعلومهم دون دراسة تاريخها والإحاطة بمراحلها الزمنية،
وغياب هذه الدراسة يُعدّ ثلمًا في التكوين العلمي، وهو من أسباب وقوع بعض القراء
والمثقفين في خلل منهجي أو علمي مُحرِج أحيانًا، ومن الغريب أن تغيب مادة تاريخ
تخصصات العلوم والفنون عن أقسامها الجامعية، أو برامجها التكوينية.
وإن البصر بالتاريخ لا يحتاج لمعرفة تاريخية فقط، وإنما يُعين عليه النظر إلى
البلاد بما فيها من موقع، وممرّات، وحدود، وتضاريس، وأجواء، وثروات، وإمكانات،
ومجموعات بشرية من مختلف المنابت والجذور، كما يزداد التاريخ قوةً بالإلمام -ولو
على سبيل الإجمال- بالأنساب والشعوب وعلائقها، وإن الأرض لمسرح للتاريخ، وأحد
محركات كثير من الأحداث، وليس من التوفيق في شيء إغفال علوم البلدان بسعتها وجمالها
وغزارة معلوماتها ودلائلها، ولكنها تحتاج لحُسْن عرض وتشويق، ومثلها أجناس الناس
وأصولهم؛ فالأعراق لها ثقلها، والحمية باقية.
كذلك مما يصنع البصيرة التاريخية: الوقوف على أحوال العصر، ومفاهيمه، وعوائد أهله
وأعرافهم، وفهم العوائد والأعراف آنذاك؛ لأن بعض الناس يقيس أخبار من سلف وأعمالهم
بناءً على مفاهيم الحاضر دون تغيير، أو يُحاكم زمانه وفق طرائق السالفين، وليست
الطريق هنالك في الحالين، بل مصير الأول الظلم وسوء التفسير، ومآل الثاني التخبُّط
والخطأ في القرار، ولا يعني هذا الإهمال كليَّة، وإنما الإعمال بعد موازنة وفَهْم،
وأخذ جزء وترك آخر، بناء على مقتضى وجيه لا بالهوى الخالص؛ فالناس بأزمانهم أشبه
منهم بآبائهم؛ مثلما يُرْوَى.
ومما ينفع في هذا الباب كثيرًا: معرفة السنن الإلهية الشرعية والكونية، فلن يجد
المرء لسُنَّة الله تبديلًا، ومع أن البعض يتفيهق زاعمًا العقلانية والهروب من
الدروشة؛ فينكر الإفادة من هذه السُّنن؛ إلّا أن العاقل المتأني سيُلاحظها في أحداث
كثيرة؛ ولولا هذه الحقيقة لما قيلت جملة لا تخلو من صواب وخطأ حينما يتساءل
الكُتّاب والمفكرون إن كان التاريخ يُعيد نفسه أم لا؟ والحقيقة أن التاريخ مفعول به
وليس فاعلًا بذاته.
وإن العِبَر والمجريات تَرِد بصور عديدة أشكالها، متشابهة معانيها، ولذلك يأتي
السؤال عن إعادة التاريخ لنفسه؛ فالذي يبدو أن حوادث التاريخ وإن طال بها العهد،
وقُبرت تحت ركام السنين؛ فسوف تنبعث من مرقدها بصورة حادثة ذات شَبه بالأصل، أو على
هيئة رواية أو دراسة، والصواب أن التاريخ لا يموت، وليس الثارات وحدها، وإنما يغفو
ثم ينبعث، وبعض انبعاثه مُباغِت لم يتوقعه أحد؛ لسريانه الخفي، وبطء تفاصيله، وفي
تدبير الله حكمةٌ لا مردّ لها.
ثمّ إذا يسَّر الله لك سماع أو قراءة شيء من التاريخ ووثائقه، فلا تُبهرك أضواء
الأحداث عن ملاحظة مزابل التاريخ، وهي فاغرة أفواهها لتلتقم ضحاياها على حين غرة!
وتلك هي العِبَر.
وإن ذاكرة التاريخ لا تنسى، وعَجلته إن أصابها التباطؤ فإن لها انعطافة مفاجئة،
وإذا تسارعت زمنًا، وتدحرجت أحداثه تباعًا، فسوف تقف يومًا ما لتكشف الحقيقة أو
ترويها، وهي التي ظن أهلها أن التراب قد أُهيل فوقها ركامًا، وحينها قد يعلو شأن
مَن يستحق، ويُدان مَن يستأهل، وعند الله الجزاء الأوفى.
وعلى القارئ أن يُلاحظ أن في التاريخ زمنًا مفصليًّا لتبدّل كبير، وربما لا يشعر به
أحد إلا بعد ظهور نتائجه؛ لأنه سرى الهوينا، أو استخفى تحت ستار الأحداث، أو كان
الأداء المسرحي له متقنًا للغاية، فاللهم اجعلنا مِن جميع العِبَر مستفيدين
وسالمين، ولا تَجْعلنا عبرة فيما يسوء.
وإنه لمن الواجب على المصلحين العناية الشديدة بنشر علوم التاريخ واللغة والأدب مع
علوم الشريعة، وتقريبها للعامة والناشئة، فذاك مما يقوّي الشخصية الإسلامية
والعربية في نفوس المجتمع ومن فيه من ناشئة يُرَاد لها أن تكون بلا هوية، حتى
يزدريها الغربي، ويتعالى عليها، ويتجافى عنها الشرقي، فتغدو كمن أضاع مشيته، ولم
يكتسب بدلًا ولا حمدًا، وهذه العناية لها أبواب واسعة في التعليم والإعلام والتوجيه
والثقافة والتأليف.