قال سعيد بن جبير والضحاك: الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر وثلج، وقيل المراد بالسماء: السحاب؛ فيكون المعنى: وفي السحاب رزقكم. وقيل المراد بالسماء: المطر، قال ابن كيسان: يعني وعلى رب السماء رزقكم.
الكون كله مسخَّر للإنسان لكي ينتفع به، وهو يضرب في مناكب الأرض (بالفكر والتأمل)؛
ليحصل من وراء ذلك على فراش وطيء وعيش رغيد وأوقات سعيدة هنيئة؛ ليعينه ذلك على
القيام بالوظيفة الشرعية التي أُنيطت بخلافته في الأرض.
وما يزال الخطاب السماوي يشنّف الآذان بقوله تعالى:
{فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17]؛
ليكون بمثابة القيد والاحتراز عن تحصيل الرزق بغير الطرق المشروعة، ليصل ذلك بنا
إلى حقيقة مفادها أن المال المغصوب والمسروق والحرام ليس هو المراد ألبتّة في تحصيل
أمر المعاش؛ لأنه ليس كما أمر به الشارع الحكيم، بل هو مما نهى عنه أشد النهي، وحذر
من الوقوع فيه غاية التحذير.
وقد طالب الله -سبحانه- في طليعة المكلفين بهذا صفوة رسله ومُبلِّغي رسالاته بقوله:
{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِـحًا}
[المؤمنون: 51]؛
حيث قدّم سبحانه أكل الحلال الطيب وكسبه على العمل الصالح الذي يُمثِّل الذخر
الحقيقي في يوم معاده، بل ربما يعود عليه من ثماره في حياته له، ولعقبه من بعده
{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِـحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا
وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} [الكهف: 82].
والمؤمن وقّاف عند حدود الله تعالى، يجدّ كل الجد في أن يتحرك حركة نظيفة ومشروعة
تُعينه على بلوغ المأمول من مطعم ومشرب حلال، بيد أن آخرين يعتقدون أن الحصول على
أقواتهم لا يتم إلا بممارسات ملتوية حينًا ومجنحة حينًا آخر؛ تبدأ عندهم من الكذب
والنفاق والتزوير لتنتهي بالتغرير والتدليس والنصب والغصب، معتمدين على تلك الوسائل
باعتبار أنها جدّ ومهارة ومغالبة، والقرآن الكريم يُبكّتهم بقوله:
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82].
ولقد شغلت قضية الرزق الحسن أذهان الكثير من الناس على اختلاف في الثقافة والبيئة
والمعتقد؛ إذ ظن البعض أن الرزق لا يمكن تحصيله أو نواله إلا بشقّ الأنفس، وبذل
أقصى الجهد، وإذلال النفس وترغيمها على السعي والكدح حتى وإن كلفها ذلك الكثير
جدًّا من أوقاتها وآلامها وأعراضها وراحتها، واعتقد هؤلاء أن الرزق عبادة تعدل
الصلاة والصيام والحج وسائر القربات، وليس همّ أحدهم سوى أن يحصل على الرغيف
والقميص.
أما الفريق الآخر فإنه نظر إلى قضية الرزق بمنظار واسع اتكالًا في غير موطنه،
وفهمًا في غير محلّه، وزعم أنه من التوكل الخالص واليقين المحض أن ينشغل العبد بأمر
آخرته، ولا شأن له بأمر معاشه ألبتّة إلا بمقدار بُلْغة يَتبلّغها حتى ولو لم تكن
من كسب يده.
وكأنه لا علم لهم بترابط الأسباب التي رتّبها الله تعالى للحصول على المسببات
بقدَره سبحانه، وأن للكون سننًا غلابة خلقها الله تعالى كما خلق الإنسان، لا يقدر
العبد على تعطيلها أو تغيير مسارها؛ لأنها ماضية لا تتخلف ولا تتحول؛
{فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ
تَحْوِيلًا} [فاطر: 43]،
والسعي على الأرزاق من سنن الله تعالى في كونه.
وابتعد كلا الفريقين عن الرشد والقصد؛ فالله تعالى لم يرد للعبد أن يُهلك نفسه في
تدبير أمر معاشه، ولا أن يترك المأمور به ديانةً من عبادة الله وإعلاء كلمته
والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام وتسخير طاقات
الكون والفكر والعمل الجادّ في مجالات الحياة المختلفة لتحقيق الخير اللازم للبشرية
جمعاء.
ومن جانب آخر لم يُرِد الله تعالى للعبد أن يُعطِّل الأسباب؛ فيهمل غرس الدنيا، وهو
الطريق الأكيد إلى غرس الآخرة.
لقد نسي الفريق الأول أن المعيشة الطيبة الهنيئة إنما تنتج عن العمل الصالح، كما أن
العيش الضنك سبب من أسباب الانحراف عن منهج الله تعالى:
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى 5 وَصَدَّقَ بِالْـحُسْنَى 6 فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرَى 7 وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى 8 وَكَذَّبَ بِالْـحُسْنَى 9
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10]،
وليس بخفيّ أن الآيات والأحاديث جاءت واضحة كل الوضوح في تقرير أمر الرزق؛ يقول
تعالى:
{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: ٢٢]،
ثم يقسم تعالى لهم بذاته المقدسة:
{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إنَّهُ لَـحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ
تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23].
قال سعيد بن جبير والضحاك: الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر وثلج، وقيل المراد
بالسماء: السحاب؛ فيكون المعنى: وفي السحاب رزقكم. وقيل المراد بالسماء: المطر، قال
ابن كيسان: يعني وعلى رب السماء رزقكم.
وقال ابن كثير:
«يقسم
تعالى بنفسه الكريمة أن ما وعدهم به من أمر القيامة والبعث والجزاء كائن لا محالة،
وهو حق لا مرية فيه؛ فلا تشكوا فيه كما لا تشكوا في نطقكم حين تنطقون»
(تفسير ابن كثير 7/420).
وهنا لفتة لطيفة تُوحي بأن نشمِّر عن سواعدنا فنعمّر الصحراء الممتدة؛ فيتحقق
للإنسان كفايته من الطعام والشراب والكساء والمأوى؛ فتخضر الأرض بماء السماء النازل
عليها، فيكون غيثًا لها تربو وتزدهي وتخضر.. وهذا المعنى الواضح جعل الحسن البصري
يقول: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«قاتل
الله أقوامًا أقسم لهم ربهم ثم لم يصدّقوا».
ولقد تكفّل الله سبحانه برزق جميع الدواب التي تدبّ على الأرض؛ لقوله تعالى:
{وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ
مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [هود: ٦]؛
«فأخبر
تعالى أنه مُتكفِّل بأرزاق المخلوقات من سائر دوابّ الأرض؛ صغيرها وكبيرها، بحريّها
وبريّها، وأنه يعلم مستقرها ومستودعها؛ أي أنه يعلم أين ينتهي سيرها في الأرض، وأين
تأوي إليه من وكرها»
(تفسير ابن كثير 7/414).
وفي الحديث الذي رواه ابن مسعود -رضى الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إنَّ
أحَدَكُمْ يُجْمَعُ في بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ
ذلكَ، ثُمَّ يَكونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا
فيُؤْمَرُ بأَرْبَعٍ: برِزْقِهِ وأَجَلِهِ، وشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، فَواللَّهِ إنَّ
أحَدَكُمْ -أوْ الرَّجُلَ- يَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، حتَّى ما يَكونُ
بيْنَهُ وبيْنَها غَيْرُ باعٍ أوْ ذِراعٍ، فَيَسْبِقُ عليه الكِتابُ فَيَعْمَلُ
بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ، فَيَدْخُلُها. وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ
الجَنَّةِ، حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَها غَيْرُ ذِراعٍ أوْ ذِراعَيْنِ،
فَيَسْبِقُ عليه الكِتابُ، فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُها».
(صحيح البخاري، حديث رقم: 6594).
وفي الحديث الصحيح عن أبى هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: قال الله تعالى في الحديث القدسي:
«يا
ابن آدم، تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنًى وأسدّ فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلًا ولم
أسدّ فقرك»
(صحيح الترمذي للألباني، حيث رقم: 2466).
وقد يقول البعض: إن ما سقتموه من آيات وأحاديث حجة للفريق الثاني، وهو ما آخذتم
عليه جانب اللائمة؟ والحق أن المقصود بالعبادة -كما فهمها السلف الصالح- ليس هي
التي تتبادر إلى ذهن العوام من الناس، بل نعني بالعبادة الشاملة من عمارة الأرض،
وبناء السدود، وإنشاء الثغور، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو ما أثنى فيه
القرآن الكريم على ذي القرنين عندما أقام السد العظيم. لهذا قال عمر بن الخطاب -رضي
الله عنه-:
«لا
يقعد أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تُمطر ذهبًا
ولا فضة»
(إحياء علوم الدين للغزالي: ص504).
فإذا أحسن العبد توكُّله على الله سالكًا طريق الأسباب؛ فقد قام بالواجب عليه، ولم
يقصر أو يضيع؛ فإن أهمل الأسباب، وفرَّط فيها ضيَّع مَن هم تحت يديه من زوجة وولد،
وقد جاء في الحديث
«كفى
بالمرء إثمًا أن يُضيِّع مَن يقوت»
(صحيح أبي داود، حديث رقم ١٦٩٢)، وفي رواية في صحيح مسلم:
«كَفَى
بالمَرْءِ إثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ»
(صحيح مسلم، حديث رقم 996).
«وقد
جعل الله طلب الرزق مفروضًا على الخلق كلهم من الإنس والجن والطير والهوام، منهم
بتعليم ومنهم بإلهام، وأهل التحصيل والنظر من الناس يطلبونه بأحسن وجوهه من التصرف
والتحرز، وأهل العجز والكسل يطلبونه بأقبح وجوهه من السؤال والاتكال والخلابة
والاحتيال»
(العقد الفريد: 2/343).
إن الأفراط أو التفريط في هذه القضية يُحْدِث أضرارًا جسامًا، منها:
أمراض نفسية وعضوية.
قلق نفسي وأُسري وحياتي.
ضعف الروابط الاجتماعية بسبب الشّح والخوف من البذل والعطاء.
التقصير في حق الزوجة والأبناء والأرحام.
ضعف العملية التنموية في المجتمع.
سوء التقدير لكثير من المعايير الثابتة.
وعلاج ذلك أن يتحرك العبد حركة مشروعة نظيفة، يسير مع نواميس الكون الغلَّابة،
آخِذًا بالأسباب من غير إضاعة ولا سرف، مطمئنًا نفسه أن رزقه لن يفوته لاقترانه
بأجله. وفي الحديث عن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال:
«قالَتْ
أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي
بزَوْجِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيانَ، وَبِأَخِي
مُعاوِيَةَ. قالَ: فَقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : قدْ سَأَلْتِ اللَّهَ
لِآجالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَأَيّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ
يُعَجِّلَ شيئًا قَبْلَ حِلِّهِ، أَوْ يُؤَخِّرَ شيئًا عن حِلِّهِ، ولو كُنْتِ
سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِن عَذابٍ في النّارِ، أَوْ عَذابٍ في القَبْرِ،
كانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ»
(صحيح مسلم ٢٦٦٣).
قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث:
«وهذا
حديث صريح في أن الآجال والأرزاق مُقدَّرة لا تتغير عمَّا قدَّره الله تعالى وعلمه
في الأزل فيستحيل زيادتها أو نقصها».
فحقيقٌ بأهل الإيمان الذين يعقلون عن الله وعن رسوله، أن يفرحوا بوعد الله لهم؛ فهم
ما بين الرضا والرزق والحسن في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة؛ فقد شاءت إرادة
الله أن يكافئ الناس جزاءً بجزاءٍ وإحسانًا بإحسانٍ:
قال -جل وعلا-:
{فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً}
[النحل: من الآية 97]،
{لَيَرْزُقَنَّهُمُ
اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج: 58]،
{لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} [الحج: 59]،
{لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [هود: ١١١]
؛ فليقنعوا فيما بين أيديهم، وليرضوا عن ربهم؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله
السخط.