ورغم اعتناقه لليهودية إلا أن ذلك لم يمنعه «من أن يكون موضوعيًّا في كتاباته، كان يَمْقُت التضليل ويحتقر الإيهام، وكان يؤمن بوجوب إعلان الحقيقة مهما كانت النتائج، وكان حريصًا على فَضْح التآمر البريطاني مع الصهيونية
في ربيع العام 1922م تلقّى المفكر النمساوي الكبير (محمد أسد) -البالغ من العمر
اثنين وعشرين عامًا، والذي لم يزل معتنقًا للديانة اليهودية حينها- رسالة من عمّه
(دوريان)؛ يدعوه فيها لمغادرة (برلين)، والمجيء للعيش معه في منزله الحجري القديم
في (القدس) على أطراف البلدة العتيقة، قريبًا من بوابة (يافا). واستجابةً لهذا
الطلب، وفي صباح ضبابي في صيف العام نفسه، وقف (أسد) على ألواح سفينة في طريقه إلى
الشرق؛ حيث سيختبر لأول مرة لقاءاته العربية الأولى، وكأنها إرهاصة لما يُخبّئه له
المستقبل.
بعد نحو سنتين من السفر -أي: قبل إعلان (أسد) لإسلامه بعامين- عاد إلى (ألمانيا)
مُحمّلاً بيومياته الصحفية التي سجَّلها باللغة الألمانية عن مشاهداته في بلاد
الشرق، وعلى رأسها مشاهداته في (القدس) محطته الأولى؛ تلك اليوميات التي نُشرت فيما
بعد في كتاب باللغة الألمانية تحت عنوان: (Unromantisches
Morgenland)
أو (الشرق غير الرومانسي).
بدأت قصة تأليف هذا الكتاب بعد محاورة ساخنة بين (أسد) وقائد الحركة الصهيونية في
ذلك الوقت (حاييم وايزمان)، والذي صار لاحقًا أول رئيس لدولة الاحتلال، جرت
المحاورة في منزل أحد أصدقاء (أسد) اليهود في القدس المحتلة، وقد أفحمه فيها (أسد)،
وأثبت حق العرب الأصيل في فلسطين، ثم ظهر له تداعي وتهافت الفكرة الصهيونية
وافتقادها للمنطق والحجة، وأن اليهود يفكرون في الصراع بوجهة نظر أحادية فقط.
عداء (أسد) للمشروع الصهيوني وتوقُّعه فشله:
من أبرز ما يحويه هذا الكتاب رأي (أسد) القاطع في الحركة الصهيونية، وعداؤه الصريح
والواضح لها؛ ذلك العداء الذي كان مترسخًا في قناعاته حتى وهو لا يزال معتنقًا
للديانة اليهودية وقبل إشهار إسلامه بسنوات، وسجَّل ذلك في سلسلة مقالات ضمَّها هذا
الكتاب حذَّر فيها العرب من مخططات المهاجرين اليهود الذين صدمته كثافتُهم حينما
رآهم يتدفقون بغزارة على فلسطين، وتصميمهم على أن يتحولوا بالهجرة إلى أكثرية؛
الأمر الذي جعل اليهود يَعُدّون موقفه هذا معاداةً للسامية.
وتوقَّع (أسد) في الكتاب فشل المشروع الصهيوني بسبب ميله الظالم لمشروع الدولة
الإسرائيلية المحتلة. كما هاجم الحركة الصهيونية بشراسة، ووصف اليهود المنتسبين
إليها بالخائنين لالتزامهم الأخلاقي ولعقيدتهم[1].
يقول (أسد) مقررًا لرأيه ذلك:
«من
البداية كان يتملّكني اعتقاد أن فكرة إقامة مستعمرات يهودية في فلسطين ليست إلا
فكرة مصطنعة، والأسوأ من ذلك، أنها تهدّد بتحويل جميع التعقيدات والمشكلات
المستعصية على الحل في المجتمعات الأوروبية، ونقلها إلى بلد كان سيظل أسعد حالاً لو
لم يأتوا إليه».
كما وصف وعد (بلفور) الذي صدر سنة 1917م واعدًا اليهود بـ«وطن
قومي»
في فلسطين بأنه
«مناورة
سياسية في غاية القسوة والوحشية، وتم إصداره لترسيخ السياسة التي اتبعتها كل القوى
الاستعمارية، وهي سياسة
«فرّق
تسد»
فيما يخصّ فلسطين، كان ذلك هو القرار الأقسى والأكثر إيلامًا»[2].
ورغم اعتناقه لليهودية إلا أن ذلك لم يمنعه
«من
أن يكون موضوعيًّا في كتاباته، كان يَمْقُت التضليل ويحتقر الإيهام، وكان يؤمن
بوجوب إعلان الحقيقة مهما كانت النتائج، وكان حريصًا على فَضْح التآمر البريطاني مع
الصهيونية، فراح يواصل الكتابة في العديد من الصحف الأوروبية مُحذِّرًا من خطورة
هذا التوجُّه الاستيطاني اليهودي، وحرص على أن يُفَنِّد ما أشاعه الصهاينة في
أوروبا من أن اليهود يمثلون أكثرية سكان فلسطين، وأن الوطن اليهودي قائم من الناحية
الواقعية، وأنه لا يحتاج من العالم سوى الاعتراف به عمليًّا»[3].
لقد اغترّ الأوروبيون بمثل هذه الشائعات، حتى إن (أسد) نفسه قد تفاجأ بالواقع
المغاير حينما زار فلسطين للمرة الأولى، واكتشف الحقيقة بنفسه، لذا أخذ على عاتقه
فَضْح هذا الزيف أمام المجتمع الأوروبي من خلال مقالاته؛ يقول:
«لم
يكن اليهود يأتون إلى فلسطين كما يعود الغائب إلى منزله؛ بل كانوا يحاولون ويسعون
أن يجعلوها منازلهم، مخدوعين بالنموذج الأوروبي. باختصار، كانوا غرباء يقفون على
الأبواب، ولذلك لم أجد أيّ غضاضة في إصرار العرب على مقاومة فكرة إقامة وطن قومي
لليهود في قلب بلادهم»[4].
ويقول في موضع آخر:
«ومع
أنني كنت يهوديًّا إلا أنني تبنّيت موقفًا مُعاديًا للصهيونية، وأدنت الموقف غير
الأخلاقي للقوة العظمى -يقصد بريطانيا- التي تدفع بالمهاجرين اليهود من جميع أنحاء
الأرض حتى يصبحوا أغلبية، وينتزعوا الأرض والبلاد من أصحابها الشرعيين الذين يحيون
فيها من أزمان سحيقة؛ لذلك كنت أميل إلى الوقوف في صفّ العرب في كل مناسبة تُثار
فيها المسألة اليهودية-العربية، وكان موقفي يَصْعب فَهْمه لكثير من اليهود الذين
صادفتهم أو جمعتني بهم مناسبات مختلفة في تلك الأشهر؛ لم يفهموا ما الذي أراه في
العرب الذين لا يرون فيهم إلا أناسًا متخلفين همجًا، ولم تكن نظرتهم إليهم أفضل من
نظرة الأوروبيين إلى الإفريقيين في وسط إفريقية. لم يهتموا بأيّ قَدْر بما يشغل فكر
العرب، ولم يكلّف أحد نفسه عناء تعلم اللغة العربية، تقبلوا جميعًا بلا أيّ قَدْر
من التشكك أن فلسطين حق لهم، وأنها إرثهم التوراتي»[5].
شاهد عيان فاضح لتضليل الحركة الصهيونية:
لم يكتسب ما سجّله (أسد) في كتابه هذا عن هذه القضية أهميته من كونه مجرد رأي أو
أفكار استنبط (أسد) نتائجها بناءً على مقدمات منطقية، كلا، بل كانت شهادة عينية
سِيقَت لها الحجج والبراهين الحيَّة والواقعية للتدليل على وجودها، و(أسد) كان
بذاته شاهد عيان على جزئياتها وأحداثها، فهي تقارير ميدانية رافعة للواقع بتفاصيل
متناهية الدقة، وعلى أعلى درجات الموثوقية والحُجِّية، وهذا ما كان يُميِّز شهادته
تلك التي كانت قائمة على المعاينة والمباشرة.
يقول (أسد):
«ما
الذي كان يعرفه الأوروبي العادي عن العرب في تلك الأيام؟! عمليًّا، لا شيء، حين
هاجر اليهودي الأوروبي إلى فلسطين جاء مصحوبًا بمفاهيم عاطفية مغلوطة، ولو كان لديه
حُسْن نية وفِطْنة لأقرَّ أنه لم يكن لديه فكرة عن الوجود العربي بها، أنا أيضًا
قبل أن آتي إلى فلسطين لم أعرف أبدًا أنها أرض عربية تخصّ العرب، كنت أعرف فقط بشكل
مُبْهَم أن
«بعض»
العرب يعيشون فيها، إلا أنني تخيلت أنهم بعض قبائل مرتحلة تعيش في خيام، وأنهم رعاة
يسكنون واحات صحراوية، وأغلب ما قرأته عن فلسطين في أعوامي السابقة كتبه صهاينة
يعرضون قضيتهم فقط، لم أكن أعرف أن مدن فلسطين مدن عربية يعيش فيها العرب، كانت
النسبة السكانية سنة 1922م تبلغ خمسة من العرب مقابل كل يهودي، ويعني ذلك بكل وضوح
أنها بلد عربي»[6].
هكذا تمكّن (أسد) من فَضْح مخططات الحركة الصهيونية قبل الإعلان الباطل لقيام دولة
إسرائيل بنحو ربع قرن. وهذا الوضوح في الرؤية -الذي كان يعلنه بلا هوادة أو خوف،
وبأدق التفاصيل المعتمدة اعتمادًا كليًّا على ما رآه رأي العين في فلسطين المحتلة
بوصفه شاهد عيان وصحفيًا ومراسلاً، وأديبًا قبل كل شيء- غيَّر الصورة الذهنية
المشوشة التي تشكلت لدى كثير من الباحثين الغربيين بناءً على المعلومات المغلوطة
التي كان ينشرها اليهود عن فلسطين ونسبة العرب إلى اليهود هناك في ذلك الوقت؛ حيث
كان اليهود هم المصدر الوحيد تقريبًا للمعلومات والصحافة في تلك الحقبة التي لم تكن
فيها وسائل الإعلام بهذا القدر الحالي من الانتشار والتوسع، وهذا ما جعل الصحيفة
نفسها التي كان ينشر مقالاته على صفحاتها تُعلن بعد نشر المقال الأول رفضها وعدم
مسؤوليتها عما يكتبه (أسد) خوفًا من سطوة اليهود.
لقاؤه مع (حاييم وايزمان):
ونختم هذا العرض بإيراد مقتطفات من الحوار الساخن الذي دار بين (أسد) وزعيم الحركة
الصهيونية آنذاك (حاييم وايزمان)، والذي يكشف عن رأي (أسد) في الحركة ومساعيها في
تزييف الواقع الفلسطيني والعربي وتصدير صورة زائفة عنه للرأي العام العالمي؛ لنكشف
مدى سطحية المنطق الصهيوني في تبرير الاحتلال، ومدى ثقافة (أسد) ومبلغ معلوماته
الغزيرة حول التاريخ العِرقي لهذه المنطقة الملتهبة من العالم.
بدأ الحوار حينما كان (وايزمان) يتحدَّث عن المصاعب المالية التي تعيق تحقيق حلم
الوطن القومي لليهود في فلسطين، وضعف استجابة اليهود في الخارج؛ يقول (أسد):
«تملَّكني
انطباع أنه هو أيضًا مثل أغلب الصهاينة، يميل إلى إلقاء المسؤولية الأخلاقية لكل ما
يحدث بفلسطين على
«العالم
الخارجي».
دفعني ذلك إلى استغلال فترة صَمْتٍ في حديثه، وسألته:
«وماذا
عن العرب؟».
بدا كما لو كنت قد ارتكبت خطأ جسيمًا بتلك الملاحظة الشاذة؛ فقد أدار الدكتور
«وايزمان»
وجهه ببطء إليَّ، ووضع القدح الذي كان يحمله بيده، وكرر سؤال:
«ماذا
عن العرب؟»،
وأكمل (أسد):
«حسنًا،
كيف تتوقع بأي حال أن تكون فلسطين وطنك القومي وتلك المقاومة العنيفة من العرب
تواجهنا، وعدا ذلك يشكلون أغلبية؟».
هزّ الزعيم الصهيوني كتفيه كإجابة لتساؤله، ثم أردف بجفاء:
«نتوقع
ألا يكونوا أغلبية بعد بضعة أعوام».
رددت قائلًا:
«ربما،
أنت تسعى في هذا الأمر على مدى أعوام طويلة، ولا بد أنك تعلم حقائق الموقف أفضل
مني. ولكن... ألم يُؤرّقك الجانب الأخلاقي من المشكلة في أيّ وقتٍ؟ ألا تظن أنه من
الخطأ من جانبكم طَرْد شعب عاش طول عمره في هذا البلد؟».
أجاب
«وايزمان»
رافعًا حاجبيه في تحفُّز:
«ولكنها
أرضنا، نحن لا نفعل أكثر من استرداد ما سُلِبَ منا بطريق الخطأ».
رددت:
«ولكنك
كنت بعيدًا عن فلسطين على مدى ألفي عام تقريبًا، قبلها كنت سيّد هذا البلد، ليس كله
بالطبع؛ لمدة تقل عن 500 عام، ألا تعتقد أن العرب بإمكانهم بالمنطق ذاته المطالبة
بإسبانيا، فهم على الأقل حكموا إسبانيا مدة سبعمائة عام، وخرجوا منها بعد خمسمائة
عام فقط؟!».
تحوَّل الدكتور
«وايزمان»
إلى حالة من نفاد الصبر الواضح. قال:
«كلام
فارغ. العرب غزوا إسبانيا فقط؛ لم تكن أبدًا أرضهم، والصحيح والصواب في نهاية
المطاف أن يطردهم الإسبان منها».
رددت على حجته قائلاً:
«عفوًا،
يبدو الأمر وكأن هناك تجاوزًا في الرؤية التاريخية؛ فعلى الرغم من أيّ شيء، جاء
العبرانيون أيضًا غزاة لفلسطين، قبلهم بعصور طويلة كانت قبائل سامية وغير سامية
تسكن فلسطين: العموريون، والفلسطينيون، والمؤابيون، والحثيون، واستمرت تلك القبائل
في العيش في فلسطين حتى بعد غزو العبرانيين لها. وكذلك في عصر مملكتي يهودا
وإسرائيل، واستمروا في العيش هنا بعد أن طرد الرومانيون أسلافنا اليهود من أرض
فلسطين، وهم مازالوا يحيون على الأرض ذاتها حتى اليوم...».
ابتسم الدكتور (وايزمان) في أدب ردًّا على حماسي، وأدار الحوار في اتجاه آخر
وموضوعات أخرى.
يقول (أسد):
«لم
أشعر بسعادة تجاه ما تمخّضت عنه تلك المواجهة، لم أتوقع أن تكون الخطة الصهيونية
بهذا التهافت وافتقاد المنطق والحُجَّة، أمَّلت أن يبعث دفاعي عن القضية العربية
بعض التشكُّك لدى قادة الخطة الصهيونية، أو عدم يقين قد يَدفعهم إلى مراجعة أفكارهم
ودوافعهم، وربما أدَّى عدم اليقين إلى استعداد أكبر لقبول وجود حقّ أخلاقي وراء
المعارضة العربية؛ إلا أن أيًّا من ذلك لم يحدث، بل على العكس، وجدت أني أُقابَل
بحائط بارد من النظرات المتسائلة: نظرات استنكار لتهوُّري وجرأتي على التشكيك فيما
لا يَقبل الشك، وهو حق اليهود في أرض أسلافهم»[7].
وهكذا لم تَصمد حجة زعيم الحركة الصهيونية بنفسه أمام منطق مجرد صحفي لم يتجاوز
عمره اثنين وعشرين عامًا فقط، بل وتملَّص من الإجابة، وحوَّل دفة الحديث؛ لعجزه عن
الرد أو الاستمرار في النقاش.
وبناءً على هذا التصور المريض، والمعطيات الواقعية الحاسمة؛ شيَّد (أسد) توقعاته
بمصير اليهود وزوالهم من فلسطين إن آجلاً أو عاجلاً؛ حيث يحكي الكاتب السوري
الدكتور (حيدر الغدير) عن (أسد) قوله له في لقاء خاص جمعه به في المغرب في العام
1979م:
«اليهود
قوم حمقى، لا يتعلمون من عِبَر التاريخ، ولا يستفيدون من أخطائهم، فيهم الغرور،
وفيهم الطمع، وهذا هو المقتل. إنهم يشبهون القرد الذي... رأى جرَّة فيها جوز، فسارع
إليه ليأكله، مدّ يده داخل الجرة وأمسك بجوزة وحاول إخراجها فلم يستطع؛ لأنَّ يده
تكوّرت بسبب الجوزة التي قبض عليها، فضاقت عليه فتحة الجرة، لذلك لم يكن أمامه بُدّ
من أن يترك الجوزة ليستطيع إخراج يده، لكنَّ طَمعه منَعه من ذلك، وظل حاله على ما
هو عليه، يده تمسك بالجوزة داخل الجرة وقد تجمدت عليها، حتى جاء صاحبه، فضربه،
فحلَّت به عقوبة مَطامعه. قال: وهكذا اليهود في فلسطين، إن عقوبة الطمع تنتظرهم،
وسوف يتركون فلسطين كارهين، كما ترك القرد الجوزة في الجرة كارهًا»[8].
[1]
A critical study of Muhammad asad’s,
the message of the Qur’an,
PhD in Islamic studies, Aligarh Muslim university (India), 2005,
by Abdul Majid khan ch.2 p82.
[2] الطريق إلى مكة، محمد أسد، ترجمة د. رفعت السيد علي، مكتبة الملك عبد العزيز
العامة، ص150.
[3] محمد أسد.. مفكر لم ينل حقه من الدراسة، جريدة الرياض، العدد 13586، سبتمبر
2005م.
[4] الطريق إلى مكة، محمد أسد، ترجمة د. رفعت السيد علي، مكتبة الملك عبد العزيز
العامة، ص150.
[5] المصدر نفسه ص151.
[6] المصدر نفسه ص149.
[7] المصدر نفسه ص151-153.
[8] الطمع القاتل.. مستقبل اليهود في فلسطين كما يراه محمد أسد، د. حيدر الغدير،
موقع الألوكة.