• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الإصلاح بالأعمال قبل اللسان والأقوال

إن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته كانت معروفة للعرب قبل البعثة، يعرفها القاصي والداني، فلم يُؤْثَر عنه قبيحٌ قط، هذه الأخلاق قد أثَّرت في العرب قبل الإسلام تأثيرًا إيجابيًّا؛ حيث دفعتهم هذه الأخلاق إلى الدخول في دين الله أفواجًا


ينبغي للآمر بالخير أن يكون أول الناس مبادرةً إليه، والناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس عنه، وهذا هو منهج الأنبياء في كل زمان ومكان من لدن آدم إلى محمد -عليهما الصلاة والسلام-، والقدوة الحسنة هي أيسر السبل للتأثير على الآخرين، ولقد مقت الحق -سبحانه وتعالى- القول بغير عمل وذمَّه قائلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ 2 كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: ٢، ٣] ؛ حيث إن انقطاع الصلة بين القول والعمل كان سببًا رئيسًا في الكوارث التي حلَّت بالأمة الإسلامية منذ الفتنة الكبرى إلى سقوط الخلافة العثمانية.

وإذا كان ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انحرافًا عن الصراط المستقيم؛ فإن هناك انحرافًا آخر قد لا ينتبه له كثير من المربين والمصلحين، وهو أن يأمر الإنسان وينهى، ولكنه لا يلتزم بما يدعو الناس إليه وينهاهم عنه، وقد شدَّد الله -عز وجل- النكير على مَن يسلكون هذا المسلك قائلاً: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: ٤٤].

إن الوقوف بالإصلاح المنشود عند حدّ الكلام المُرسَل والمقترحات المبتوتة يفتح أبوابًا مخوفة للجدل الطويل وللثرثرة القاتلة للوقت والجهد، ولو أن كل امرئ عنده حبّ للخير ارتقى بعاطفته تلك إلى مرحلة تنقل الخير من دائرة التصورات النظرية إلى عمل يبصر الضوء ؛ لاختصرنا -كما يقول ديل كارنيجي- نصف متاعبنا[1].

العِلْم يُدْرَك بالبصائر والعمل يُدْرَك بالأبصار

لا يشك عاقل أو يماري مجادل في أهمية القدوة الصالحة في كل ميدان؛ فنفسك ميدانك الأول؛ فإن قدرت عليها فأنت على غيرها أقدر، وعلى سواها أمكن، فابدأ بها فأَصْلِحْها يصلح الله لك رعيتك، ومَن هم تبع لك، فإنهم يوم يسمعون منك ما يناقض ما صدر عنك يقع الخلل، ويعظُم الزلل، ويصبح الدين عندهم شعارات براقة، وكلمات جوفاء ليس لها في حياتهم أثر، ولا في واقعهم وقع.

يقول أبو حامد الغزالي -رحمه الله-: «فإذا خالف العملُ العلمَ منع الرشد، وكل من تناول شيئًا وقال للناس: لا تتناولوه؛ فإنه سُمّ مُهلِك. سخر الناس به واتهموه، وزاد حرصهم على ما نهوا عنه، فيقولون: لولا أنه أطيب الأشياء وألذها لما كان يستأثر به، ومثل المعلم المرشد من المسترشدين مثل النقش من الطين والظل من العود، فكيف ينتقش الطين بما لا نقش فيه، ومتى استوى الظل والعود أعوج، ولذلك قيل في المعنى:

لا تنهَ عن خُلق وتأتي مثله

عارٌ عليك إذا فعلت عظيم[2]

الرسول صلى الله عليه وسلم  يبدأ بنفسه قبل غيره

إن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم  وصفاته كانت معروفة للعرب قبل البعثة، يعرفها القاصي والداني، فلم يُؤْثَر عنه قبيحٌ قط، هذه الأخلاق قد أثَّرت في العرب قبل الإسلام تأثيرًا إيجابيًّا؛ حيث دفعتهم هذه الأخلاق إلى الدخول في دين الله أفواجًا، وقد شهد له المشركون بذلك قبل الإسلام.

ويؤكد هذا الحوار الذي دار بين جعفر بن أبي طالب والنجاشي حينما سأل النجاشي جعفرًا عن سر تركه لدينه واعتناقه للإسلام؛ فردَّ عليه قائلاً: «أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ»[3].

والشاهد من هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم  كان حَسنَ السيرة والسلوك الحكيم في حياته كلها، فلم يُتَّهم بشيء مما كان يعمله قومه، فقد نشأ في مجتمع كَثُرت فيه المفاسد، وعمَّت فيه الرذائل: فالبغاء، والاستبضاع، والزنا الجماعي والفردي، ونكاح أسبق الرجال ممن مات زوجها، والاعتداء على الأعراض والدماء والأموال.. كل ذلك كان شائعًا في قومه قبل الإسلام، لا يُنكره أحد، ولا تحاربه جماعة، هذا بالإضافة إلى وَأْد البنات وقتل الأولاد خشية الفقر أو العار، ولعب الميسر وشرب الخمر، أمور تُعدّ في الجاهلية من المفاخر والتباهي، وليس من شرط أن يكون المجتمع كله يَرتكب هذه الجرائم، وإنما عدم إنكارها هو دليل على الرضا بها، وهذا ما يدعو إلى انتشارها إلى جانب الأفكار الأخرى، والنبي صلى الله عليه وسلم  لم يعمل أيّ عمل أو يباشر أيّ خُلق من هذه الأخلاق الرذيلة، بل قد اتصف بجميع مكارم الأخلاق بين قومه، فكان صادقًا لا يعرف الكذب، أمينًا لا يعرف الخيانة، وَفِيًّا لا يعرف الغدر، حتى كان معروفًا في مجتمعه بهذه الصفات، مُميَّزًا بها عن غيره، ولا يجهل ذلك أحد ممن عرفه، ولا يساويه في ذلك أحد مِن خلق الله، ولا ينكر ذلك أحد، سواء كان عدوًّا أو غيره، فقد بُعِثَ صلى الله عليه وسلم  وناصَبه قومه العداء، ولكن لم يستطع أحد منهم أن يتَّهمه بصفة غير لائقة أو خُلُق يعيبه به، ولو عرفوا شيئًا من ذلك -وقد عاش بينهم أربعين عامًا- لأراحهم من التنقيب عن خَصلة غير حميدة يتَّهمونه بها عندما يحل الموسم[4].

إنقاذ العباد من جور الأديان إلى عدل الإسلام نتيجة الامتثال والتطبيق

فضل الصحابة على الإسلام فضل عظيم، لا ينكره إلا جاهل أو حاقد، وما حاز الصحابة الأجلاء هذا الفضل إلا بسبب التربية النبوية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ حيث كان دأْبهم ومن جاء بعدهم من التابعين الحرص على العمل، يؤكد هذا ما رواه أبو عبد الرحمن السلمي قائلاً: «حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم  عَشْرَ آيَاتٍ، فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالُوا: فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ»[5].

ولهذا فتح الله على أيديهم قلوب العباد، فأخرجوهم من ظلمات الشرك إلى نور الإسلام، يقول الشيخ محمد الغزالي: «وجدنا بدويًّا كربعي بن عامر -رضي الله عنه- يقول لقائد الفرس: جئنا لنُخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، إنهم فتح جديد للعالم، وحضارة جديدة أنعشت الإنسانية ورفعت مكانتها؛ لأن الأمة الإسلامية كانت في مستوى القرآن الكريم، والحضارة الإسلامية إنما جاءت ثمرة لبناء القرآن للإنسان، لذلك بدأت تختفي الآثار الفكرية والنفسية لآداب الفرس ولفلسفة الروم؛ لأن القرآن الكريم جاء بجديد حول الكلام، والتوجيه من تجريدات ذهنية نظرية جدلية كما يفعل الفرس واليونان والرومان إلى منطق ملاحظة واستقراء، ومنطق وعي الكون واحترامه، والتعرُّف على سننه، ومشروعية التعامل معه لعمارة الأرض وبناء الحضارة[6].

هذه حركة حضارية عليا هدفها تحرير الإنسان من عبادة الطاغوت إلى عبادة الواحد القهار، ومن اعتناق الوهم إلى اعتناق الحقيقة، ومن الجور والظلم إلى العدل والقسط، ومن الجهل إلى العلم، ومن الظلمات إلى النور، ولو أن الصحابة فعلوا كما فعلت بنو إسرائيل، وقالوا: سمعنا وعصينا ما تحققت الحضارة الإسلامية على أرض الواقع، ولكنهم سمعوا وأطاعوا، وأُمِرُوا فامتثلوا، ونُهِوُا فاجتنبوا، سادوا بالإسلام وساد بهم الإسلام.

فاللهم ثبِّت قلوبنا بعد إذ هديتنا، واجمع لنا خيري الآخرة والأولى.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. 

 


[1] محمد الغزالي، جدد حياتك  ص49، دار نهضة مصر، ط: الأولى.

[2] محمد بن محمد أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين1/58، دار المعرفة، بيروت.

[3] أخرجه أحمد في مسنده 3/263، رقم (1740)، عن أم سلمة -رضي الله عنها-. وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن. مؤسسة الرسالة، ط: الأولى، 2001م.

[4] د. سعيد بن علي بن وهب القحطاني، مقومات الداعية الناجح في ضوء الكتاب والسنة، ص50، مطبعة سفير، الرياض.

[5] أخرجه أحمد في مسنده 38/466، رقم ( 23482)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن.

[6] محمد الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن؟ ص28، دار نهضة مصر، ط: الأولى.

 

 

أعلى