• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
لماذا ينتصر الضعفاء؟

وإنَّ توالي الدواهي العظام لمِن المُربكات المُحيّرات، ومما يعجّل بنكبات ونكسات حقيقية للأقوياء ويزيدها أن الغرور يدفع القوي لإعلان أهداف كبيرة؛ فلا يستطيع تحقيق واحد منها، ومهما بدا أنه متفوّق فهو بدونها أجذم مقطوع!


الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:

فهل ينتصر الضعفاء أصلًا حتى يصحّ عقب ذلك السؤال المستفيض عن أسباب انتصارهم؟ والجواب الذي يُصدّقه التاريخ القديم والحديث، ولا يحول دونه منطق سليم، أن الضعفاء ينتصرون أحيانًا على الأقوياء، بل ربما مرّغوا أُنوفهم بالتراب، وأحالوا عُلوّهم إلى سفال، وحوّلوا زَهْوهم إلى خذلان وتباب، ولذا فلا ضَيْر من البحث عن العوامل التي قادت لذلكم النصر المفاجئ وقْعُه، المذهلة آثارُه.

ومن الأمثلة التي تهمّنا للدلالة على هذه الحقيقة؛ أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم  وصحابته الأماجد -رضوان الله عليهم- قد هاجروا من مكة إلى المدينة نجاةً بأنفسهم، وفرارًا بدين ربهم -سبحانه-، وبعد ثماني سنوات عادوا إلى البلدة التي أُخرجوا منها فاتحين منتصرين، وصارت لهم الغلبة والكلمة العليا. ثمَّ لم يطل بهم زمان حتى أذعنت لهم الجزيرة العربية بأَسْرها، وأخضعت جيوش الخلافة الراشدة دولتي الروم والفرس، وهي أُمَم قوية متاخمة ممتدة مُدجَّجة بالعدة والعدد، ولها صولات وخبرات بمعارك عابرة للحدود، وتجارب مع القتال لا تخفى.

بناءً على ذلك، يمكن تقسيم أسباب نصر الضعفاء إلى أسباب معنوية وأخرى مادية، ويأتي على رأس الأسباب المعنوية: الإيمان بمعتقد راسخ مكين، وهو عند المسلمين إيمان لا يُدانيه إيمان؛ لأنهم يؤمنون بالله الناصر القويّ العزيز القهار، وبالتالي فلمعبودهم من الأسماء والصفات ما يزيد الضعفاء من المؤمنين قوةً وثقةً وطمأنينةً وثباتًا.

ومن أعظم الأسباب المعنوية أنّ هؤلاء الضعفاء من المؤمنين، بعد أن اتخذوا الأسباب، واجتهدوا وجاهدوا، ينتظرون إما النصر أو الشهادة، وأيّ الحسنيين ظفروا بها فقد فازوا وربِّ الكعبة؛ مثلما قال صحابي لقاتله، وجرحه يثعب دمًا، والموت أمامه ولا ريب حينها!

كذلك من الأسباب المعنوية: شدة الارتباط بالحق الشرعي والطبيعي والتاريخي والقانوني، وهو حقّ بالحياة، وحقّ بالحرية، وحقّ بالأرض، وحقّ بتقرير المصير؛ حسبما يتداول في لغة القانون الدولي، فأيّ قوة تستطيع أن تحلّ عقدة هذا الرباط بتلك الحقوق الراسخة، أو أن تكسر عُرَاه، أو تزيحه من عقول الأفراد والجموع أو من المجتمع ومن وجدان أهله؟ وإنه لحقّ تتوارثه الأجيال المتعاقبة، ويُوصي السابق به اللاحق، فلا تزيده الأيام والليالي إلّا متانة وصلابة.

ومن الأسباب المعنوية: تعاظم حُسْن الظن بالله، والتعلّق الوثيق به خاصة مع خذلان الناس، وانصراف ذوي القربى والجوار عن المعونة بأيّ صورة، وهذا الظن الحسن سبب في قوة الأمل بتكرار التحرير والنصر المبين والفتح الكبير، فكما سارت جيوش عمر إلى القدس فاتحةً، ثمّ كبّرت جنود صلاح الدين في حطين، وهي في طريقها لتطهير المسجد الأقصى من رجس الصليب وأعوانهم، ومثلما تدفقت خيل الله بقيادة قطز والظاهر بيبرس تصدّ عدوان المغول، سيأتي يوم ولا بدّ فيطرد هؤلاء الضعفة من رجال فلسطين اليهود ومَن شايعهم، حتى يرجعوا فلولًا منبوذين مثلما كانوا في الزمن الماضي، وسوف تندحر الوثنية وأهلها، وينكسر الصليب الجاثم، وما ذلك على الله بعزيز.

ولا يمكن إغفال الدعاء والتضرع للمولى القدير -سبحانه-، سواء من الضعفة أو من ضعفة الضعفاء، وهم قوم أصابهم ضَعْف على ضَعْف، وقد صحّ في الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم  قوله: «هل تُنصرون وتُرزقون إلّا بضعفائكم؟»، وروي بطرق عديدة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ابْغُوني في الضعفاء، فإنما تُنصرون وتُرزقون بضعفائكم»، فأيّ نصر عظيم حينما تمتد أيدي أولئك الضعفاء الصادقين لمولاهم في السماء يستنجدون به ويستنصرونه ويستدفعون بجنده البلاء وكيد الأعداء؟!

ولذلك سأل قتيبة بن مسلم -وهو قائد شجاع يقف على رأس جيش عظيم- عن محمد بن واسع؛ فلما علم القائد أن العابد الصالح يصلي ويدعو؛ أعلن لمن حوله -وهو الفارس الجسور- أن تلك الأصبع المرفوعة لله أحبّ إليه من الجند والقوة المادية.

هذه الأسباب المعنوية تخصّ الضعفة، ولكن مما لا يخطر على البال أحيانًا، أن لدى الأقوياء أسبابًا معنوية ساهمت بإيقاعهم في حبائل الخزي والخسارة والعار التاريخي، فمنها عَمَه البصائر بسبب طغيان الإحساس بالقوة، فلا يرى الأقوياء سوى النصر الساحق، ولا يحلمون بغير مباهج ما بعد تحقيق آمالهم العريضة، فتأخذهم العزة بالإثم رويدًا رويدًا حتى يجدوا أنفسهم في مستنقع وحل لا يستطيعون منه الفرار ولا عنه التحول، وحينها فقط تنقلب الصورة؛ فيغدو الضعيف واقعًا هو الأقوى حكمًا.

ومنها فيما يخصّ الأقوياء أن من طبائع القوة: الاستهانة بالطرف المقابل لدرجة الاحتقار والازدراء، وهذا الاحتقار يُفوِّت فرصًا كثيرة من الترقُّب والمراقبة، حتى يأتي الضعيف للقويّ من ثغرات لم يَحتسبها، ويبدو في مكونات القوي ومكامن قوته من الخلل والخور ما لم يكن يظنّه ولا أقل منه؛ فلا يصحو من سَكْرة القوة والفتنة بها، إلّا على طامة إثر طامة.

وإنَّ توالي الدواهي العظام لمِن المُربكات المُحيّرات، ومما يعجّل بنكبات ونكسات حقيقية للأقوياء ويزيدها أن الغرور يدفع القوي لإعلان أهداف كبيرة؛ فلا يستطيع تحقيق واحد منها، ومهما بدا أنه متفوّق فهو بدونها أجذم مقطوع!

ثمّ إن القوي ومجتمعه وأفراده يُصابون بالهلع الخالع للقلوب، والخوف المُعطِّل عن العمل والإنتاج؛ بسبب صمود الضعيف وإصراره ومصابرته، وهذا الحال من الجبن والذل كفيل بكسر نفوسهم، والعودة بالتلاوم على بعضهم، حتى تفترق الصفوف، وتختلف القلوب، ويكثر الشقاق والنزاع، ويستبين للقاصي والداني أن قلوبهم شتَّى وليسوا جمعًا واحدًا، حتى وإن ظهروا بتماسك وائتلاف، وهذا العامل أوله معنويّ خالص، ومآله ماديّ صِرْف، والله يزيدهم من رجس العذاب بصنوفه، وهو رجس يتضاعف بتكاتف الضعفاء وشيوع الولاء بينهم.

ومما يشترك فيه الضعيف والقوي: مسألة الترف ومستواه؛ فالضعيف يعيش في خشونة أحوال، وشظف معيشة، وانعدام أساسيات، وهذه الأوضاع المأساوية صيّرته قادرًا على التكيُّف مع أيّ خيار، وهذا بخلاف القوي الذي اعتاد على الرفاه والنعومة والتمتع بكمالات الحياة فضلًا عن الحاجيات والضروريات، وعليه فصبر الضعيف عالٍ لا تكاد نهايته أن تبلغ، وبأسه لا يتضعضع من نقص، والقوي نافد الصبر، قريب التضجر، قليل الحيلة، سريع التململ، وقد يبكي من فقدان ما لا يحلم الضعيف بمعشاره، وهذا العامل معنوي مادي، والله ينصر جنده وأولياءه.

أما الأسباب المادية الخالصة التي بها -بعد عون الله وفضله- ينتصر الضعفاء، فهي أسباب متنوعة من التدبير والعمل وتحيُّن الفرص المواتية، فمنها الاستعداد بالقوة الممكنة، مهما كانت قليلة قياسًا بما لدى الأعداء؛ ذلك أنها تتكامل مع القوى المعنوية فتغدو مثل الجيش اللجب الذي لا ينقطع عنه المدد، وكم كانت الغلبة لسلاح الضعفاء بسبب عمق إيمانهم، وقوة قلوبهم، ومضاء عزائمهم!

ومنها قدرة الضعيف على النجاح في استنزاف الآخر، وإنضاب قوته المادية والمعنوية، وتسريب طاقته في غير اتجاه؛ إذ لا حصانة لأيّ قوة أيًّا كانت من الاستنزاف والإنهاك والتشتت. ومن المهم: اهتبال هذه القوة مِن قِبَل الضعفاء؛ فربما يُغفل عنها أحيانًا، فالقوي لا يطيق احتمال أيّ خسائر بسبب الضعيف، وهي التي إذا وقعت طاش عقله، وإذا أُعلنت فقد تركيزه ومصداقيته لدى شعبه، وهذا عامل مادي يؤدي لنتائج معنوية حاسمة أحيانًا.

أيضًا من الطرق المادية التي يغنم بها الضعيف، ويتضرر منها القوي، إثارة غضبه، وزيادة هيجانه؛ فالغاضب فاقد للصواب غالبًا، ولا يفرّق كثيرًا عن الأعمى الذي يسير بلا هدًى ولا دليل، وهذه الطريقة مدخل مضمون العاقبة لفضح عوار القوي، وكشف سوءاته للداخل والخارج، على أن يستخدمها الضعيف في وقتها المناسب، ويحمي نفسه من بطش القوي قدر المستطاع، مع أن المآل في النهاية واحد بالبطش وبدونه، وبالتالي فإغضاب القوي مَغْنَم بيد الضعيف.

ومن أخطر العوامل المادية للتعامل مع عدوان الأقوياء وجبروتهم: أن يسعى الضعفاء لبناء آلة إعلامية تخاطب أهل العصر، وتستعمل وسائلهم، وتنطق بلغتهم، وهذا العامل يحرج القوي المعتدي، ويبين عن كذبه وتزويره، وليس هذا فقط؛ إذ إنه يقلل من مساندة الأقوياء الآخرين علانية للمعتدي، ويجعلهم في موضع المساءلة أمام شعوبهم وإعلامهم؛ خاصةً أن مستوى التعبير عن الرأي مرتفع السقف في بلادهم، ويا لها من غنيمة تحتاج إلى مَن يلتقط الصورة، ويبرع في العرض، ويُجيد النشر، وحشود المتفاعلين من ذوي النفوس الشريفة في البلدان قاطبة كفيلة بجعل المادة عالمية واسعة التداول، وزيادة مفعولها في غرف القرار ومجالسه وتحت قببه.

ويعين على ما سبق: أن يتصيّد الضعفاء أخطاء الأقوياء بمجرد وقوعها، ويجتهدون في توثيقها، وبعد أن يصطاد الضعفاء تلكم الأخطاء يتفاعلون معها بالمناسب؛ فبعضها يساعد على الانقضاض والفتك بالقوي، ومنها ما يكون سببًا للمغانم والمقايضة، وبعضها يصلح مادة إعلامية للتشهير والتنكيل، وهكذا مما يجدر الالتفات إليه، وإعماله دون إهمال، فكم في أخطاء القوة من مقاتل! وكم في استعجالهم من خبال يجلب عليهم الأهوال!

هذا، وإن استثمار هذه الأسباب والعوامل المادية والمعنوية، يجعل مقابض التحكم في يد الضعفاء حتى يجثو الأقوياء على ركبهم يطلبون التفاوض أو التفاهم، وإن أظهروا الاستعلاء أو الصلف والخشونة، ويا له من نصر! كما أن ثبات الضعفاء يزيد من تكاليف القوة على أهلها، ويُضخّم فواتير المساندة والتأييد على مَن يناصرهم، حتى ينجم سؤال من عقلاء القوم فحواه: وما جدوى هذه المصارف والمغارم؟ ولِمَ لا تُحقِّق أموالنا وأسلحتنا أيّ نتيجة مرجوة؟ ويا له من نصر!

وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية -على جبروتها وامتلاكها للقوة في مجالات متنوعة- قد انتصرت نصرًا مؤقتًا في عدة مواضع؛ إلّا أن النصر الحقيقي كان لمن قاومها في فيتنام وأفغانستان وغيرها من البلاد، وستبقى الجرائم الأمريكية شاهدة على ذلكم المصير، إضافةً إلى خذلانها لخونة الأوطان إبَّان هروبها من البلدين، وإنَّ ما حدث لأمريكا لواقع ولا محالة بدولة «إسرائيل» في عاجل أو آجل، وسوف يكتب المرابطون في الأرض المباركة ملحمة جديرة بالدرس والتدوين الخالد، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وسوف تردّد المنابر حينها قول المولى العزيز المتعال -سبحانه-: {وَاذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26]

 

  

أعلى