ولكنَّ الأحداث استطاعت أن تُوقظ المسلمين، وتكشف لهم المغالطة والمؤامرة، لتُقرِّر في وضوحٍ أن مشروع النهضة «المُغرَّب» قد أُعْلِن إفلاسه، وأن الإسلام لم يشترك في قيادات الهزيمة والنكبة والنكسة حتى يتحمَّل أوزارها.
كان من أكبر أخطاء دعاة التنوير والغزو الثقافي ظنُّهم أن النهضة ستشرق من الغرب، وأن المسلمين والعرب يجب أن يتخلوا عن كثيرٍ من مفاهيمهم في سبيل تحقيق القدرة على الدخول في دائرة الحضارة الغربية وامتلاك التكنولوجيا، وظلت هذه الفكرة المسمومة مسيطرةً على العرب والمسلمين دون أن تُعطيهم تطورات الأحداث عبرةً أو عظةً، حتى وقعوا في أزمات الهزيمة والنكبة والنكسة؛ لينتهوا أن للمسلمين منهجهم وطريقهم الذي لا يمكن أن يتحقق لهم النصر أو امتلاك الإرادة إلا عن طريقه.
وقد تبين أن مشروع النهضة الذي أعدَّه لطفي السيد وطه حسين وسلامة موسى لم يكن قائمًا على الأسس الحقيقية التي يجب أن يقوم عليها مشروع نهضة أيّ أُمّة، وهي القيم الأربع: العقيدة واللغة والتاريخ والتراث. ومن هنا فإن كل ما اتُّهِمَ به هذا المشروع من قصورٍ وما تحقَّق له من عجز عن إقامة مجتمع أصيل قادر على الاندفاع نحو طريق التقدم، هو أمر صحيح. فقد حرص هؤلاء على أن يعزلوا الأمة الإسلامية عن مجرى تاريخها، وأن يسدوا القنوات التي بناها لهم الإسلام منذ أربعة عشر قرنًا.
وطرح هؤلاء أسماء جديدة قائمة على الإقليمية الضيّقة، كالأدب المصري، والتاريخ المصري، والتراث المصري، علمًا بأن مصر لم يكن لها خلال أربعة عشر قرنًا من تاريخ مستقل عن الأمة الإسلامية، فضلًا عن إعلاء شأن الفرعونية في مصر، والفينيقية في لبنان، والآشورية في العراق؛ وبذلك تمزَّقت الأمة وراء تواريخ جزئية قاصرة، بينما كانت الأمة تصدر عن تكامل جامع بوصفها الأمة الإسلامية الممتدة من أرخبيل الملايو إلى الدار البيضاء؛ حيث تتوازن عناصرها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتتلاقى.
كان واضحًا أن أصحاب مشروع النهضة الذي طُرح على المسلمين؛ من خلال مدارس الإرساليات وبعثات المدارس التبشيرية وقيادات المستشرقين وولايتهم على تلك الأسماء اللامعة التي ترجمت كتب الاستشراق لتجعلها أساسًا لعصر جديد منفصل عن التاريخ الإسلامي، يبدأ بالحملة الفرنسية، ويتحرك في إطار إقليمي؛ يرمي أساسًا إلى تمزيق وحدة هذه الأمة، والتمهيد لتصفية الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية، وفتح الطريق أمام اليهودية العالمية إلى فلسطين، كان الهدف واضحًا هو القضاء على الجامعة الإسلامية باعتبار ذلك منطلقًا حقيقيًّا لتمزيق كل القيم والقدرات التي عرفتها الأمة من خلال العقيدة أو اللغة أو التاريخ أو التراث.
ولكنَّ الأحداث استطاعت أن تُوقظ المسلمين، وتكشف لهم المغالطة والمؤامرة، لتُقرِّر في وضوحٍ أن مشروع النهضة «المُغرَّب» قد أُعْلِن إفلاسه، وأن الإسلام لم يشترك في قيادات الهزيمة والنكبة والنكسة حتى يتحمَّل أوزارها.
ومن قلب هذا الظلام الشديد بدأت خطوط الضوء تكشف نورها، وكان أوّلها وأهمّها استعلاء روح المقاومة وإحياء فريضة الجهاد، ظهر ذلك في معركة الجزائر، وحرب رمضان، ومعركة أفغانستان، وفي ثورة الحجارة الباهرة، وإن كانت الجزائر التي حاربت تحت لواء (لا إله إلا الله) قد سُرقت ثورتها ليلة انتصارها؛ فإن الأمر لم يكن إلا مجرد إغفاءة قليلة عادت فيها دماء الإسلام إلى عروق المسلمين قوية دفّاقة على ما نرى اليوم ونسمع في أجواء الحرية، وهذا هو التيار الأصيل الذي قدمته الدعوة الإسلامية حين علّمت أتباعها (صناعة الموت)، وبدأت ذلك في معركة فلسطين في أول مراحلها على نحوٍ لم يَعرف له التاريخ مثيلًا، وها هو يعود بعد أن عجزت كل وسائل وأساليب الخداع السياسي ليقدّم نفسه على أنه الحل الأمثل.
الدعامات الأربع
لقد اتضح اليوم أن هذه الأمة يجب أن تقوم على تعبئة الجهود، وأن يكون أبناؤها على استعداد للتضحية والاستشهاد، وأن يعلموا صدق حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مواجهة خطر العدو الماثل والقائم على مجتمعنا اليوم؛ في محاولة لاحتوائنا وإبادتنا «ألا إن القوة الرمي»، والرمي في عصرنا اليوم هو الصاروخ القادر على حماية أُمتنا، وعلامة قدرتها على الردع، وهذه هي الدعامة الكبرى في مشروع النهضة الإسلامية اليوم.
أما الدعامة الثانية فهي تحرير المال الإسلامي من حرمة الربا وتقديم منهج الإسلام في مجال الاقتصاد، وإذا كانت هذه الدعامة تُواجه اليوم امتحانًا شديدًا؛ فإن كل المحاولات التي جرت من أجل تزييفها أو حجبها أو هدمها قد باءت بالفشل، وإن الأمة الإسلامية المؤمنة بربها ما تزال تطلب صيغة إسلامية للتعامل الاقتصادي.
أما الدعامة الثالثة فهي المرأة المسلمة التي عرفت طريق ربها، وأسلمت وجهها إلى الله تبارك وتعالى؛ من خلال فهم حقيقة رسالتها ومسؤوليتها نحو بيتها وزوجها وأولادها، وقد تكشف لها زيف تلك الدعوة المضللة التي قادها كرومر عن طريق قاسم أمين ونازلي فاضل تحت اسم (تحرير المرأة).
أما الدعامة الرابعة فهي تحرير أدوات التسلية والفن والمسرح من الإباحيات وسموم الجنس والإغراء والفساد الخُلقي، فقد أصبح ذلك مطلبًا عامًّا، وقد تبين للناس مدى الأثر الخطير لهذه المسرحيات المكشوفة في هدم الأسر والبيوت وإفساد أخلاق بناتنا وأولادنا، وعرفوا ما وراء ذلك من أهداف وغايات ترمي إلى تدمير الحصانة النفسية والجسمية والاجتماعية في شبابنا الذي يجب أن نعدّه لحماية هذه الأمة والمرابطة في ثغورها.
تحديات خطيرة
وما يزال أمام الدعوة الإسلامية مراحل عديدة وتحديات خطيرة؛ أهمها: مجال التربية والتعليم والمخاطر التي تُسبّبها التبعية لمناهج الغرب التي تحاول أن تقدم عقيدتنا ولغتنا وتاريخنا وتراثنا بأسلوب انتقاص كمال هذه المناهج؛ في محاولة لخلق جوّ من الكراهية والاحتقار لمنهج الإسلام الذي أعطى البشرية الضياء والنور وأخرجهم من الظلمات.
وهنا نركز على مخاطر مناهج الثقافة والتعليم الوافدة؛ حيث تتصارع اليوم في أُفق الفكر الإسلامي ثلاثة تيارات خطيرة:
الأول: مفاهيم الفكر الغربي الليبرالي المأـخوذ من التراث اليوناني والروماني ومفاهيم النصرانية الوافدة لا المنزلة.
الثاني: مفاهيم الفكر الماركسي الشيوعي المأخوذ من نظرية إنجلز ماركس ولينين، وهي التي سقطت اليوم في بيئتها سقوطًا شنيعًا، وإن كانت لا تزال تجد من أوليائها في بلادنا العربية والإسلامية مَن يدافع عنها وينادي بها.
الثالث: المفاهيم المسمومة التي أوجدتها اليهودية العالمية من أجل تأييد دعواها عن حق مزعوم من خلال الأسطورة القديمة، وما يتبعها من نظريات باطلة يُراد بها انتقاص العرب وكيانهم ووجودهم التاريخي، وتمتد آثار الصهيونية والفكر التلمودي إلى الأدب والفن والثقافة، وما يتصل بذلك من نظريات باطلة لهدم الإسلام والقرآن والنبوة والغيب، وما تزال نظريات الداروينية والوجودية والفرويدية والعلمانية والفلسفة المادية والتفسير المادي للتاريخ والجدلية والجبرية المنطقية تُدرَّس لأبنائنا في الجامعات والمدارس على أنها علوم وحقائق، بينما هي لا تزيد عن أن تكون وجهات نظر تخطئ وتصيب، والضلال هو الغالب عليها، وقد كتب الكثيرون في الكشف عن زيفها وأخطائها، وقد تبيّن للناس كيف أنها عجزت عن الإعطاء واحتاجت إلى الإضافة والحذف.
القضية الأساسية
تبقى بعد ذلك القضية الأساسية الكبرى: قضية الشريعة الإسلامية ونظام الحكم الإسلامي، والمطبات التي تقف في وجه تطبيقها، بالرغم من أنها ثابتة في كثير من دساتير البلاد العربية والإسلامية بوصفها المصدر الأساسي للتشريع؛ فهي حقيقة أساسية وقاعدة الأساس.
وقد تبين مدى عظمة التشريع الإسلامي بالمقارنة مع القانون الوضعي الذي فُرِضَ على المسلمين في فترة من فترات ضعفهم واحتلالهم؛ فهم لا يأخذونه بإرادتهم، ولكنه فُرض عليهم لصالح النفوذ الأجنبي الذي كان ولا يزال حريصًا على نهب ثروات الأمة الإسلامية والحيلولة دون امتلاك إرادتها، وقد جاءت شهادة علماء القانون العالمي في العديد من مؤتمراتهم على مدى تاريخ طويل يمتد أكثر من سبعين عامًا بالاعتراف والتقدير بفضل الشريعة الإسلامية وسماحتها وكمالها واستقلاليتها عن القانون الروماني ومدى دهشة رجال القانون من قومٍ -هم نحن المسلمين- يتركون هذ الكنز العظيم ويأخذون فتات موائد الغرب.
ولقد خطا المسلمون خطوات جديدة في مجال تطبيق الشريعة حين قامت كثير من البلاد العربية والإسلامية بتقنين الشريعة الإسلامية ووضعها في نظام عصري، وحين أقامت تلك التجمعات الجامعة بين رجال القانون ورجال الاقتصاد ورجال الفقه الإسلامي لوضع هذه القوانين في صورة قادرة على إسعاد المجتمعات الإسلامية حين يتم تطبيقها.
وبالرغم من التوقف والجمود على عدد جبهات البلاد العربية؛ فقد حققت الدعوة الإسلامية خطوات في مجال الانتخابات البرلمانية وانتخابات هيئات التدريس والنقابات العامة على نحوٍ يؤكد الثقة الكاملة بتلك العناصر المسلمة المخلصة، وجدارتها بالقيام بدور إيجابي في قيادة الأوطان وتحرُّرها من النفوذ الأجنبي.
بدا ذلك واضحًا في الجزائر والأردن ومصر والسودان وباكستان، فضلًا عن تلك الكتاتيب المؤمنة في تركيا وتونس وغيرها؛ ممَّا يؤكد عُمق أصالة الصحوة الإسلامية التي تُواجه الآن حربًا في الداخل والخارج، ويأتي بعد ذلك النضال الذي يقوم به المسلمون في بلاد الغرب والتحديات التي يواجهونها والأزمات التي تحيط بهم، والأجيال الجديدة التي يُخْشَى عليها الآن أن تنصهر في بوتقة الغرب فتفقد إيمانها بربها.
ويقف الغرب كله موقف الخصومة في وجه هؤلاء المؤمنين الذين ليس لهم مغنم مادي ولا هوًى ولا مطمع، وإنما يريدون أن يقدّموا الإسلام للناس ويُبلّغوه لأهل الأرض، وتكاد هذه الصورة -اليوم ومنذ مطلع هذا القرن- تحمل الإصرار والثبات في وجه الأحداث؛ إيمانًا بالله -تبارك وتعالى- وحق الإسلام في الحياة.