• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الإسلاميون والموقــــف مــن الدستور في مصر

الإسلاميون والموقــــف مــن الدستور في مصر


الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيّنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه، وبعد:

بعد صراع مرير، حُسمت معركة الدستور المصري لصالح الموافقة عليه دستوراً للبلاد، وهو الخيار الذي نصره الإسلاميون بمعظم أطيافهم، ووقفت ضده الاتجاهات العلمانية والليبرالية، ونرجو أن يكون في هذا خير لمصر وأهلها ودينها ومستقبلها.

ولأن معركة الدستور ستتكرر في ليبيا وتونس وسورية، فمن المفيد استحضار التجربة المصرية وتقويمها بهدوء ورويَّة.

حين نقرّب عدسة التقويم على مواقف الإسلاميين تجاه الدستور المصري، نستطيع أن نفرز بوضوح وجود اتجاهات رئيسية ثلاثة:

الاتجاه الأول: ن يرى أنه دستور إسلامي يطبق الشريعة ويلتزم بأحكامها، ولا يرى فيه إشكالات أو مخالفات شرعية.

الاتجاه الثاني: من يرى أنه دستور كفري مناقض لأصول الإسلام ولا يجوز التصويت عليه ولا دعمه، وهم في الحقيقة فريقان:

الفريق الأول: من لا يرى التصويت أساساً على الدستور ولو سلم من بعض المواد المخالفة؛ لأنه لا يرى جواز التصويت على الشريعة.

الفريق الثاني: من لا يمانع من التصويت على الشريعة بغرض تطبيقها، إنما ينازع في التصويت لوجود مواد تخالف الشريعة.

الاتجاه الثالث: من يرى أن ثم إشكالات في الدستور لتضمّنه مواد محرمة أو كفرية، لكن يرى أهمية المشاركة لكونه هو الأصلح للمسلمين، فهو من باب ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما.

ولكل اتجاه من هذه الاتجاهات مبرراته وأدلته، وفي الشبكات الاجتماعية مساحة واسعة من الحوارات والسجالات الفكرية بين الشباب الإسلاميين تظهر فيها بوضوح مثل هذه الاتجاهات.

وهذه الخلافات العلمية على ما يحصل فيها من أخطاء وتجاوزات وانحرافات، لا تسلم منها أي قضية فكرية تثار في الشأن العام، فما بالك بقضية ساخنة وحيوية مثل هذه القضية، إلا أن لمثل هذا الخلاف فائدة كبيرة للتيار الإسلامي، ومن المهم استثمار هذا الخلاف لإنضاج الفكر الإسلامي المعاصر وتطوير أدواته وتقويم أفكاره وتحديد منطلقات الخلاف السائغ وغير السائغ فيه، وللتجربة العملية التطبيقية في تحقيق هذه الأهداف ما لا يمكن أن يتحقق من دونها.

أولاً: فمن الملامح المهمة المفيدة في الخلاف الإسلامي حول الدستور:

ضرورة تعزيز حاكمية الشريعة، وعلوّها على أي تشريع أو سيادة أخرى، وبطلان أي حكم يخالفها، وهو معنى شرعي تظافرت النصوص الشرعية في تقريره {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. ولئن اختلف الإسلاميون في موقفهم من الدستور، إلا أن روح هذا الخلاف وسياقه واتجاهاته كلها تعزز حاكمية الشريعة وضرورتها، فحوارهم في مسائل تفصيلية متعلقة في كيفية تحكيم الشريعة وفي الموقف من الدستور؛ يصب في النهاية في معين تعظيم الشريعة، ويعزز في نفوس الناس ضرورة المطالبة بها والوعي بما يخالفها، تماماً كما أن كثيراً من حوارات العلمانيين مع بعض الإسلاميين وضغطهم بمفاهيم الحقوق والحريات الليبرالية ومحاولة بعض الإسلاميين التوفيق والتلفيق؛ يصب في النهاية في تعزيز قيم الحريات وتعميقها في النفوس.

فمن المهم على الأطراف كافة أن تستحضر هذا المعنى في خلافاتها التفصيلية، وأن تجتهد في تعميقه في نفوس الناس بكل طريق؛ فهو من أصول الإسلام المحكمة، ويواجَه بحملة تشويهية واسعة النطاق لتنفير الناس منه.

ثانياَ:

ضرورة نبذ الغلو في الدين والتجاوزات الشرعية التي تُرتكب باسم الديانة والغيرة والحمية، ومن مظاهر الغلو الظاهرة في هذه السجالات ما صدر من بعض الجُهّال من تكفير أهل العلم أو الدعاة أو المشاركين في التصويت بدعوى أنهم ارتكبوا كفراً برضاهم، وهذا غلو مقيت دفعه الجهل المحض، فحتى لو كان في مواد الدستور كفر فمن يشارك في دفع ما هو أشد ضرراً وشراً لا يقال إنه قد وقع في كفر، ولا إنه قد رضي بالتحاكم إلى غير ما أنزل الله، وعجباً أن يكون الإسلاميون الذين يسعون إلى تحكيم الشريعة ويخوضون غمار الخصومة والنزاع مع العلمانيين وعاداهم كثير من الناس بسبب تحكيم الشريعة؛ أن يكونوا قد اختاروا التحاكم إلى غير ما أنزل الله برضاهم!

من الضروري أن لا يكون ما يظهره أمثال هؤلاء من حمية للدين وغيرة على أحكامه حائلاً دون نقدهم وبيان انحرافهم ومخالفتهم للشريعة، فالعبرة بموافقة الشريعة، والغيرة والحماس الذي يخالفها ليس محموداً، وكثيراً ما يكون ملتبساً بالهوى، ولهذا قرن الله الهوى في النهي عن الغلو في الدين {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْـحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: ٧٧].

ثالثاً:

 أهمية العناية بباب المصالح والمفاسد برؤية فقهية واعية، فالخلاف حول الدستور كان قائماً حول الموازنة بين المصالح والمفاسد، فالمشاركون رأوا ضرورة المشاركة بناءً على تقدير اجتهادي لها، ورأى آخرون أن المفاسد ربما تكون أغلب، ويبقى موضوع النظر في تقدير المصالح اجتهادياً تقديرياً يجب تقدير جميع الأطراف فيه ما دام الخلاف متعلقاً بتحقيق المنوط فيه؛ فلا يُحكم على من شارك بأنه يقدم المصلحة على النص، ولا يحكم على من يرفض المشاركة بأنه غالٍ جاهل كما يشتمهم آخرون، بل كلاهما مسلكان اجتهاديان تقديريان.

وإذا كان الغالب على الصف الإسلامي هو الاتجاه نحو المشاركة، فمن الضروري أن يحافظ هذا الصف على الرأي الآخر الذي رفض المشاركة وأن يُظهر أدلته ولا يستخف بها ولا يعاملها بانتقاص، بل عليه أن يؤمن أن ظهور صوتهم وعلو حجتهم هو من أسباب تمكّن المشاركين من تحقيق أهدافهم في المشاركة، فحين تؤمن بأن في الدستور مخالفات شرعية وأنك تشارك لأجل تحقيق المصلحة، فوجود صوت آخر يرفض المشاركة لأجل هذه المخالفات هو مكمّل لك ومحقّق لغايتك، بل إن غياب هذا الصوت قد يكون له أثر سلبي مع الأيام في نسيان هذه المفاسد وفي التصالح معها وجعلها أمراً مشروعاً لا إشكال فيه، فالضمان الحقيقي للقول بالمشاركة لأجل المصالح هو بقاء وقوة الصوت الآخر.

إن مراعاة المصالح والمفاسد جزء أساسي من تطبيق الشريعة، ومن يعرض عن هذا الباب بدعوى الاستمساك بالكمال سيكون إعراضه تفريطاً في واجب تحكيم الشريعة، ويتحتّم التأكيد عليه في مثل عصرنا هذا الذي يتعذر فيه تطبيق أحكام الشريعة كافة، فمن يريد التطبيق المثالي للشريعة من دون اعتبار للقدرة والإمكان والاستطاعة؛ هو في الحقيقة يعزز موقف الرافضين للشريعة والمحادين لها، لأنه أعرض عن قاعدة الشريعة في تطبيق الأحكام قدر الإمكان {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

ضرورة التآلف والتآخي بين جميع العاملين للإسلام، وأن لا يكون خلافهم سبباً للتناحر والتدابر، ولا حائلاً دون اتحادهم واشتراكهم في العمل لكل خطة تُعظَّم فيها حرمات الله، وأن يكونوا ملتزمين فعلاً بكونهم إخوة {إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وأن يكون مسلكهم قائماً على {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ} [المائدة: ٢].

وقد ظهر في الموقف من الدستور تكاتف الإسلاميين وتعاونهم ووقوفهم صفاً واحداً، كما كان ثمّ التزام كبير بآداب الخلاف وتقدير المجتهدين وإحسان الظن، وهو تطبيق عملي وتدريب ميداني يستفيد منه المسلم في تربية نفسه على آداب الاختلاف وجمع الكلمة والتكامل ما لا يمكن أن تصل إليه آلاف الكلمات والمحاضرات، والعمل الإسلامي بحاجة ماسة إلى ترجمة أدبياته الجميلة في جمع الكلمة ووحدة الصف في برامج عملية متنوعة تعمق هذه المفاهيم وتجعلها سلوكاً عميقاً في نفس  المسلم.

خامساً:

أهمية التفريق بين الوصول إلى تحكيم الشريعة من خلال التصويت وبين التصويت الاختياري عليها، والخلط بينهما يدفع لاتخاذ موقفين متضادين منحرفين، فيرفض بعضهم المشاركة في التصويت لأجل تحكيم الشريعة ويجعلها كفراً وضلالاً، أو ينتقل للجهة الأخرى فيقول لا بد من التصويت لأن هذا من خيار الأمة وحقها.

والعاقل يميز بين الحالتين، فالشريعة ليست محلاً للتصويت؛ لأن المسلم لا اختيار له مع أحكام الله {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، فالواجب هو التسليم لها والانقياد، ولهذا؛ فالصورة الشرعية الكاملة هي أن يتم تطبيق الشريعة دون عرضها على التصويت والاختيار، أما إذا لم يمكن - كما هو حال النظم السياسية المعاصرة - إلا من خلال التصويت، فيجب التصويت إذن لأجل إعادة الشريعة لموقعها الطبيعي في السيادة، وليس هذا من التصويت المحرم، بل هو فرض لازم؛ فهو تصويت لإعادتها وليس تصويت لأجل أن من حقنا أن نختار أو لا نختار، ولو شارك غير الإسلاميين بهذا المقصد فاللوم والنقد يوجه إليهم لا إلى من يشارك بقصد إعادة سيادة الشريعة، فترك المشاركة في التصويت بدعوى حرمته وكفره غلط محض.

وفي المقابل يجعل بعض الناس مشاركة الإسلاميين في التصويت بهدف تحكيم الشريعة، دليلاً على أن السيادة للأمة والأحقية لها وأنه لا طريق لتحكيم الشريعة إلا من خلال آلية الديمقراطية الغربية وفلسفتها، وأن أي طريق خلافه فهو إكراه ومخالف للحرية، وهو رؤية منافية للحكم الشرعي ومتأثرة بالفلسفة الليبرالية، وهي منطلقة من تفسير للحرية بحسب المفهوم الليبرالي لا الإسلامي.

فهذان طرفا نقيض يجب التمييز بينهما، فلا تكون المشاركة لتحقيق المصالح ودرء المفاسد سبباً لتأصيل النظام المخالف للشريعة، ولا يكون المسلم متطلباً للكمال فيرفض المشاركة في السعي إلى تحكيم الشريعة أو تطبيق ما يمكن منها أو تخفيف المفاسد مع قدرته على ذلك.

دعواتنا الخالصة وأمنياتنا الصادقة لأهلنا وأحبابنا في مصر الأبيّة الكريمة بخيرٍ وافرٍ، وعدل وكرامة، وأن يحفظ الله لهم مصر حرة مسلمة كريمة.

أعلى