كيفية الخروج من المستنقع الأفغاني
لقد بدا واضحاً في الغرب أن الساسة يريدون الجواب على السؤال الآتي: لماذا نستمر في الحرب؟ وهل الاستمرار فيها يقدم لنا الأفضل؟ من المشَاهَد المحسوس، بل المعقول أن ما أُخِذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، وها هي الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها مرةً أخرى يجتمعون في لندن لمناقشة الأوضاع في أفغانستان والمصالحة الوطنية بين الشعب الأفغاني، ولكن: هل ستعطي مثل هذه المؤتمرات نتائج مؤثرة على أرض الواقع؟ هذا ما سيحاول هذا المقال أن يتعرض له، من خلال تحليل الواقع التاريخي والعملي لأفغانستان: إن الشعب الأفغاني معروف بمقاومته لكل الغزاة الذين غزوا أرضهم قديماً وحديثاً؛ فمن الإسكندر المقدوني الذي استولى على رقعة كبيرة من العالم إلى أن وصل إلى كابل فقاومه أهل كابل مقاومة مستميتة دفاعاً عن حرمهم حتى جُرِح الإسكندر في شمال كابل. ومن هنالك اتجه شرقاً إلى بلاد الهند بعد هزيمة نكراء نزلت بجنوده، وترك أفغانستان ولم يجرؤ مرة أخرى على الإقدام والتوغل في الأراضي الأفغانية، ثم جاء الفتح الإسلامي إلى بلاد الأفغان مبكراً، وذلك في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - وفُتحَت كابل؛ ولكن أهلها ارتدوا مرتين، إلى أن قبلوا الإسلام طواعيةً في عهد عثمان ذي النورين بقيادة الأحنف بن قيس للجيوش الإسلامية الفاتحة؛ ومن تلك اللحظة وحتى الآن أصبحت كابل قلعةً منيعةً حصينةً من قلاع الإسلام، وقاومت جميع الغزاة المعتدين على أرضها؛ فهزم الأفغانُ الإنجليز ثلاث مرات في معارك فاصلة؛ ففي معركة قندهار الشهيرة في منطقة (ميوند) قُتِل أربعة عشر ألف جنديٍّ من القوات البريطانية، ولم يبقَ أحد منهم، ثم سوَّلتْ لروسيا نفسها أن تصل إلى المياه الدافئة في الخليج العربي؛ فاختارت أن تمر على قلب الشعب الأفغاني؛ ولكنها هُزمَت وانسحبت عام 1989 من القرن الميلادي الماضي، ثم تجاهل العالم كله قضية الأفغان فتقاتلوا فيما بينهم، وتفرقوا إلى دويلات صغيرة شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، حتى مُهِّدَ الطريقُ لولادة حركة طالبان عام 1994م، وخلال عامين من الزمن استولت الحركة على معظم الأراضي الأفغانية بما فيها العاصمة كابل؛ ولكن بقيت هناك مقاومة ضئيلة في شمال أفغانستان، وخاصة في وادي بنجشير، وخلال هذه الفترة أكملت الولايات المتحدة الأمريكية خططها للاستيلاء على أفغانستان؛ فلما حدثت أحداث أيلول سبتمبر عام 2001م، اندفعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى احتلال بلاد الأفغان، وإقناع العالم كله (رغبة أو رهبة) بخطر حركة طالبان على مدنيَّة العالم كلها؛ وأنهم من الرجعيين الذين يريدون للعالم أن يتقوقع ويقبع في الكهوف والأدغال. ولكن بعد مرور ثماني سنوات على هذه الحرب؛ ووَضْعِ قائمة سوداء بأسماء ناشطي حركة طالبان البالغ عددهم 144 شخصاً، يأتي المسؤول الدولي الخاص إلى أفغانستان (كاي إيدي) ويؤكد على أنه: «لا بد أن تُحذف أسماء بعض رموز حركة طالبان من القائمة السوداء» وزاد: «إذا أردنا التوجه إلى النتيجة الصحيحة، ينبغـي أن نُجري الحوار مع الذي يملك القوة وأظن أن الوقت قد حان». ويقول وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس: «إن طالبان جزء من المصالحة السياسية في هذا الوقت لذلك». ويضيف رئيس حلف الناتو الجنرال ستانلي ميكريستل: «كجندي؛ فإن إحساسي الشخصي، هو أن هذه الحرب كافية». هذه هي الحقيقة على أرض الواقع رغم مرور ثمانية أعوام من الحرب في أفغانستان. لقد بدا واضحاً في الغرب أن الساسة يريدون الجواب على السؤال الآتي: لماذا نستمر في الحرب؟ وهل الاستمرار فيها يقدم لنا الأفضل؟ مع أنه ليست هناك أية نتيجة إيجابية تُذكَر، وليس الحال بأفضل مما كان عليه في عام 2004م، وأضاف: (إنه - حسب ظني - يستطيع أيٌّ من الأفغان أن يلعب دوره في القرار السياسي الأفغاني. نحن لا نريد رجوع القاعدة مرة أخرى إلى هذه المنطقة). والسؤال الذي يفرض نفسه هو: هل تنجح مثل هذه البيانات السياسية في ترويض الحركة؟ أعتقد أنه لا يمكن في الوقت الحاضر إخضاع حركة طالبان؛ فحركة طالبان لم ترضَ في البداية قبل اندلاع الحرب - وهي صاحبة القرار والحكم في أفغانستان - بأنْ تسلِّم زعيم القـاعدة إلـى التحالف الدولي لمحاكمته مع عروض ووعودٍ مغرية مـن قِبَـل الحلفاء، كان منها: إعطاء حركة طالبان الحرية المطلقة في كيفية تسيير دفة الحكم في نظامها الداخلي، ودَفْع مبلغٍ يساوي ثلاثة بلايين دولار، وتثبيت حكومة سنيَّة ضد المدِّ الشيعي في المنطقة؛ لكن الحركة ضربت بكل هذه المغريات عرض الحائط للحفاظ على حياة مسلم لم تثبت إدانته رسمياً في محاكمة دولية علنية أمام قضاءٍ نزيه محايد؛ فكيف ترضى الآن بالمصالحة مع حكومة كرزاي تحت المظلة الأمريكية وحلف الناتو؟ وهذا يذكرنا ببيت شعر قيل قديماً: لم أرتضِ العيشَ والأيامُ مقبلةٌ فكيف أرضى وقد ولَّتْ على عجلِ؟ وخاصة بعد المقاومة الضارية ضد قوات الاحتلال في أفغانستان خلال ثمانية الأعوام الماضية، وإثباتها للعالم كله أنها قادرةٌ الضرب على الوتر الذي يؤلم الحكومة الأفغانية، وقوات التحالف الدولي (كمّاً وكيفاً، زماناً ومكاناً)، والتحكم في إدارة الولايات والمديريات التي تحررها. فالسؤال الذي يثور هنا هو: هل ستنجح مساعي الرئيس الأفغاني حامد كرزاي الذي يجمع الأموال من الدول المعنية بالحرب على الإرهاب لفصل مقاتلي حركة طالبان عن زعمائهم وقادتهم الميدانيين بإغداق الأموال عليهم؟ هذه الأخــرى غيــر ممكنــة فــي الوقت الحالــي؛ لأن ما يغنمه مقاتلو حركة طالبان من قوات التحالف، ومما تفرضه الحركة من الأتاوى والرسوم على تلك مقابل عدم التعرض لهم أكثر بكثير مما سيعرضه عليهم كرزاي؛ فَلِمَ يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ فالتاريخ الأفغاني قد أثبت عملياً عبر مرور الزمن بأنه: لا يمكن السيطرة على الأفغان عن طريق القوة والبطش؛ ولكن يمكن خداعهم أو شراء بعضهم مؤقتاً، وتصريحات بعض جنرالات قوات التحالف الدولي معروفةٌ في هذا الصدد. إذاً ما هو الحل الأمثل في النظر (الأمريكي - الغربي) لمشكلة كابل؟ أعتقد أنهم إذا اضطروا اضطراراً مُلجئاً فسوف يبدؤون بسحب قواتهم تدريجياً من ساحات المعركة، وسوف يقبعون بعد ذلك في القواعد العسكرية التي أنشؤوها خلال ثمانية الأعوام الماضية؛ وهذه مؤامرةٌ ومكيدة خطيرة جداً؛ حيث استطاعت أمريكا أن تسيطر على القواعد العسكرية الأساسية في أفغانستان؛ ففي الشمال قاعدة باغرام الجوية، وفي الجنوب قاعدة قندهار، وفي الشرق قاعدة جلال آباد، وفي الغرب قاعدة (شيندند) في مدينة هرات، ومن ثَمَّ يبدؤون بمشاهدة الفيلم الأمريكي من خلال الأقمار الصناعية في قواعدهم العسكرية، ويتركون الأفغان يتقاتلون فيما بينهم ويدخلون في حربٍ أهليةٍ مرةً أخرى. ومن خلال هذه الضوضاء والبلبلة السياسية سيضغطون على الجمهوريات في آسيا الوسطى وروسيا والصين والدول المجاورة؛ ومِنْ ثَمَّ يبدؤون بنهب خيرات البلاد الآسيوية الغنية بالمعادن الثمينة المختلفة؛ والغاز الطبيعي والبترول على رأسها. ولكن: هل ستنجح هذه الخطة أم سيكون مصير الولايات المتحدة كمصير حليفتها بريطانيا من قَبْل والاتحاد السوفييتي (سابقاً)؟ أعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية وصلت إلى حد ادَّعت فيه الألوهية بلسان حالها وإن لم تدَّعها بلسان مقالها، وما اكتمل شيء إلا بدأ بالنقصان، وما جال وصال الكِبْرُ والغرور في رأس أحد من الجبابرة، إلا وقد مهد الله لهم الطريق لملاقاة الأفغان، والتاريخ يعيد نفسه، وما أشبه الليلة بالبارحة، والأيام حبلى بالعجائب والكمال لله وحده: {وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين} [آل عمران: 140]، وقد أزف زوال الظلم والظالمين؛ مهما قيل عنها: بأنَّها الدولة العظمـى؛ فإن بريطـانيا كانت الإمبـراطورية التـــي لا تغيب عنها الشمس، ومن قَبْلِ ذلك انتشر المثل: إذا جاءك الخبر بأن التتار قد هزموا فلا تصدق؛ وقدْ هزمهم الله بإخلاص قائد المسلمين وقتها الظاهر بيبرس في معركة فاصلة قرب فلسطين السليبة، فكَّ الله أسرها. وقد رأينا تساقط الاتحاد السوفييتي، ولعله جاء دور الولايات المتحدة الأمريكية، والواقع شاهدٌ على ذلك، بعد حربٍ دامت ثمانية أعوام لم تستطع أن تغير الواقع الموجود، ولم توفر للشعب الأفغاني الديمقراطيةَ المزعومةَ التي احتلت من أجلها البلاد؛ وقد استشرى الفساد الإداري، والقتل والنهب والسلب في المدن الكبرى. والمتورطون في هذه الأعمال هم من أتباع النظام الحالي؛ وقد وصلت روح العوام إلى الحلقوم، وبلغ السيل الزبى؛ جرَّاء القصف العشوائي لأماكن المدنيين العزَّل من قِبَل قوات التحالف الدولي وخاصة في الجنوب والجنوب الشرقي؛ وهو ما يؤدي إلى مزيدٍ من الكراهية ضد حكومة كابل وقوات الاحتلال؛ وهو الأمر الذي يساعد الحركات الجهادية التي تسعى لأجل تحرير الأرض من الاحتلال والفوز بنصيب الأسد.