النموذج العراقي... مَنِ التالي؟ (2 - 2)
اللاعب الإيراني:
« فَتِّش عن إيران »... هذه المقولة واقعية
جداً في المشرق العربي والإسلامي إذ لم يعد ممكناً فصل إيران أو استبعادها في أي
أزمة سياسية: في فلسطين، و لبنان و اليمن، و العراق، و أفغانستان... « ولا تفتِّش
عن العرب »؛ لأنه لا توجد قوة عربية أو (إسلامية) تمتلك تأثيراً مماثلاً في تلك
الأزمات، بل يمكن القول: إن القوى العربية مجتمعة لا توازي الحضور الإيراني في
الأزمة العراقية (كمثال).
وقد تحدثت في مقال سابق نُشِر في البيان
(عدد 270، بعنوان: الرباعية الإيرانية في المرمى الأفغاني) عن الاستراتيجية
الرباعية التي تتبعها إيران في أفغانستان، وهي الاستراتيجية ذاتها التي تطبَّق في
العراق، والخطوط العامة نفسها مع اختلاف في التفاصيل، وهي:
1 -
التواصل: تتميز استراتيجية طهران في العراق بأنها
كتلة من المتناقضات التي يصعب فهمها حتى على كثير من مراكز الدراسات الغربية؛ فهي
استراتيجية طائفية ولكنها براغماتية؛ تتوافق مع الاحتلال الأمريكي وتدبِّر له
المكائد، وتحتضن القوى الشيعية وتُشعِل الصراعات بينها، وتتآمر على العرب السُّنة،
وتمد جسور التواصل مع بعض قواهم.
قبل خمسة أعوام أصدرت مجموعة الأزمات
الدولية دراسة بعنوان: « إيران ... ما مدى النفوذ في العراق؟ » وخلصت الدراسة بعد
استقصاءات وحوارات وتحقيقات ميدانية إلى أن أغلب ما يقال عن تغلغل إيراني في
العراق هو محض مبالغة.
والآن لا توجد أدنى مبالغة في القول بأن
السياسة العراقية تعوم على « بحيرة » إيرانية.
ويكمن التميُّز الإيراني في القدرة الهائلة
على تكوين علاقات تتجاوز أي خلافات عقدية أو تاريخية، حتى وإن اصطبغت بالدماء في
بعض محطاتها، وينطبق ذلك على علاقة الحرس الثوري مع مجموعات القاعدة وجماعات
إسلامية كردية، مثل أنصار الإسلام، كما ينطبق على العلاقة مع التيار الصدري التي
تطورت من مرحلة العداء التاريخي إلى أن أصبحت إيران الملاذ الآمن لزعيم التيار
مقتدى الصدر، الذي يقبع هناك بحجة مواصلة « بحث الخارج »، وهو المرحلة الأخيرة من
التعليم الحوزوي الذي يصل به إلى رتبة الاجتهاد ولقب « حجة الإسلام ».
لكن حقيقة الأمر أن الصدر لا يأمن على نفسه
في العراق بعد أن سَعَّر رئيس الوزراء نوري المالكي حرباً على تياره ممثَّلاً في
جناحه العسكري جيش المهدي. هذا الجيش الذي تخترقه قوات القدس الإيرانية حتى
النخاع، وبينما تلقَّت مجموعات تابعة له التدريب والسلاح من إيران، تولى المالكي
تصفية هذه المجموعات محتفظاً في الوقت ذات بعلاقة متينة مع طهران، تتذبذب أحياناً
ولكنها تبقى في اتصال.
وعندما تأزمت العملية الانتخابية وازدحمت
كافة القوى السياسية عند عتبة « تسمية رئيس الوزراء »، تلفَّت الجميع إلى القبلة
الإيرانية للتباحث والتشاور في ظل الولي الفقيه، ولم يسلم من ذلك العَلماني « إياد
علاوي »، الذي وجَّه لوماً وعتاباً إلى طهران؛ كونها لم توجِّه له الدعوة للتشاور
حول الرئيس القادم كما فعلت مع بقية القوى، وهذا المستوى من « لمِّ الشمل »
وجَمْعِ الخيوط في باقة واحدة، لم تصل إليه حتى سلطات الاحتلال الأمريكي في
العراق.
2 -
الانتظار:
قبل عشرين عاماً (1990م) كان مجرد الاشتباه
في علاقة أحد الأشخاص بجهة إيرانية كفيل بأن يتلقى رصاصة الرحمة بواسطة الأمن
العراقي الصدامي، وبعدها بعامين (1992م)، قمع صدام حسين تمرداً شيعياً مدعوماً من
إيران أدى إلى هروب عدد كبير من القيادات ورجال الدين إلى إيران، ثم بعد ذلك بعام
( 1993م) خضع الحزام الشيعي للحماية الغربية وبدأ التسرب الإيراني بهدوء، وقبل
سبعة أعوام (2003م) لم تكن هناك علاقة ديبلوماسية بين طهران و بغداد.
أما الآن، فتعد إيران الشريك التجاري الأول
للعراق، وتمتد شبكات المؤسسات الخيرية والاستخباراتية التابعة للحرس الثوري في كل
مكان بأرض الرافدين، كما تضم قوات الأمن والجيش بين صفوفها آلافاً من عناصر
الميلشيات الشيعية التي تلقَّت تدريبها في إيران أو على أيدي ضباط الحرس الثوري،
وبحسب تقدير الأخضر الإبراهيمي فإن نسبة هؤلاء تصل إلى 80 %، كما أن قوة حماية
المرقدين في النجف و كربلاء يشرف عليها ضباط من الاستخبارات الإيرانية، وتُعدُّ
العناصر « النائمة » و « الصاحية » التابعة للحرس الثوري في ربوع العراق بعشرات
الألوف.
إن المشكلة هنا أنه لا توجد أي وسيلة معروفة
لوقف العلاقة المتينة بين المكاسب الإيرانية وعامل الزمن؛ فالأمر أشبه بالساعة
السكانية التي لا تتوقف أبداً وبينما تتحدث واشنطن عن سحب قواتها من العراق في
الأمد المنظور، فإنه لا توجد أي بارقة أمل في جلاء الاحتلال الإيراني عاجلاً أو
آجلاً، والأنكى أن المقاومة العراقية تتركز على الاحتلال الأمريكي مع إعراض تام عن
التغلغل الإيراني ما ظهر منه وما بطن، وبعض قادتها (المقاومة) يفترضون أن
العراقيين سيكونون قادرين على حل أزماتهم بأنفسهم بمجرد الانسحاب الأمريكي!
3 -
التحريك: وداد فرنسيس مستشارة الحاكم الأمريكي السابق
في العراق بول بريمر، تنقل عنه قوله: « أشعر دائماً أن مجلس الحكم مخترق لصلح
إيران كلما نظرت إلى عمامة عبد العزيز الحكيم ».
« عمامة
الحكيم » التي تسيطر عليها إيران تحمل مغزىً مهماً؛ فهي تجمع ما بين الديني
والسياسي، وكلاهما يخضع للنفوذ الإيراني، وقد تتابعت على زعامة المجلس الأعلى
ثلاثة عمامات يكشف حالها عن تغيُّرٍ في الاستراتيجية الإيرانية تجاه الكتل
الشيعية:
العمامة الأولى:
محمد باقر الحكيم،
وكان يجمع بين المرجعية الدينية والزعامة السياسية بكفاءة.
والعمامة الثانية:
عبد العزيز الحكيم؛
حيث الكفاءة السياسية والضعف الديني.
العمامة الثالثة:
عمار الحكيم، الذي
جمع بين العجز السياسي والضعف الديني.
هذا الاتجاه « الهابط » في مستوى زعامة
المجلس أحدث ارتباكاً مؤقتاً في طهران؛ كون المجلس يمثل الذراع القوية التي
تكلَّفت مئات الملايين من الدولارات في بنائها وتجهيزها، ولكنها تتعرض الآن للشلل
بسبب الزعامة الجديدة (عمار) الذي كان الصدريون يطلقون عليه لقب: « كتكوت الحوزة
»، واتسع الخرق « المجلسي » مع تملمُل قياداته من قائدهم (الحكيم)، وبروز خلافات
على السطح مع جلال الدين الصغير وغيره.
وكان البديل المطروح هو سرعة احتواء التيار
الصدري المنافس الشرس للمجلس، وبعد سلسلة من الصراعات والمعارك، وحروبِ الاستنزاف،
وعمليات الاختراق التي بدأت قبل تفشِّي مرض « سرطان الرئة » في جسد عبد العزيز
الحكيم تم تأمين الصدريين على مستوى القاعدة والقيادة، وتحوَّل التيار الصدري إلى
كتلة « متآلفة » مع المجلس في تحالفٍ سياسيٍ واحد خاض انتخابات عام 2005م وعام
2010م، ويتزعمه في طبعته الأخيرة: عمار الحكيم.
تَكَشََّف بُعْد النظر الإيراني عندما نجح
التيار الصدري في حصد 40 مقعداً في الانتخابات الأخيرة، وكان المشهد معبِّراً في
إيران؛ حيث اجتمع قادة المجلس مع قادة الصدريين بزعامة مقتدى، على خلفية الاحتفال
بعيد النيروز الفارسي، ولم يلبث أن طار إلى مرافقتهم وفد المالكي.
وبعيداً عن تيارَي الصدر والحكيم وبعض
الأحزاب الشيعية الصغيرة، فإن نوري المالكي يظل بالنسبة لطهران خِياراً ثالثاً
محتمَلاً وليس مهملاً، وقد ترعرع المالكي سياسياً في إيران إبَّان حقبة
الثمانينيات ضمن قيادات حزب الدعوة قبل أن ينسحب مع بعض رفاقه لاحقاً من إيران إلى
سوريا، بسبب خلافات حول انضمام الحزب إلى المجلس الأعلى.
ويلخِّص السفير الأمريكي السابق في العراق
رايان كروكر استراتيجية إيران في تحريك حلفائها الشيعة، بقوله: « بناءً على ما
أراه على الأرض، أعتقدُ أنهم يسعون إلى وجود دولة يستطيعون بوسيلة أو بأخرى
السيطرة عليها وإضعافها إلى الحد الذي تستطيع معه إيران تحديد جدول أعمالها » [1].
إن هذا المفهوم يشكل تناقضاً؛ فطهران لا
تحرِّك أتباعها في العراق من أجل تأسيس دولة قوية، ولكنها تحرّكهم من أجل إبقاء
العراق في مستوى من الضعف يمكِّنها من السيطرة عليه كليّاً؛ لذلك يمكن مع تدقيق
النظر ملاحظة أنه لا تُبذَل جهودٌ حقيقية من قِبَل الإيرانيين لجمع كلمة الشيعة في
العراق؛ لأن تَفرُّقَهم يخدم مصالح طهران أكثر من تجمُّعهم.
محدِّدات لفهم
العملية الانتخابية في العراق:
كيف نفهم تعقيدات الأزمة الانتخابية في
العراق وما تتضمنه من خلافات وإشكالات حول تشكيل الحكومة وتوزيع مناصبها؟ على ضوء
ما ذُكر سابقاً عن استراتيجية اللاعبَين الرئيسيين في العراق: (أمريكا - إيران)،
يمكن تكوين عددٍ من المحددات التي تُعِين على فهم العملية الانتخابية واستيعابها
في العراق بعيداً عن جدليات التحالفات وصراعات الكتل:
أولاً: صلاحيات
الحكومة والبرلمان محدودة وتتقاطع مع مناطق نفوذ متعددة مستقلة:
إن القرار السياسي لدولة العراق لا يجري
اتخاذه في أروقة البرلمان، أو في مكاتب رئاسة الوزراء، أو غرف مؤسسة الرئاسة؛
فهناك حسابات وتوازنات وقوى أخرى تشارك في اتخاذ القرار في أعلى مستوياته وأدناها
على السواء.
وفي مقدمة أولئك المشاركين: النفوذ الأمريكي
كقوة احتلال؛ حيث المستشارون الأمريكيون حاضرون في كافة الوزارات، كما يلعب القادة
العسكريون دوراً بارزاً في إدارة الشؤون العامة واليومية، وهناك خطوط حمراء مرسومة
للمسؤولين لا يمكن لهم تجاوزها، وما يصدر من صرخات اعتراض هنا أو هناك هي مجرد
زوبعة في فنجان؛ فمن لا يعجبه الأمر أو يفقد تأثيره فعليه أن ينصرف من « اللعبة »
السياسية، أو يُصرَف عنوة، كما حدث مع الحزب الإسلامي الذي حصد من خلال كتلته «
التوافق » 44 مقعداً في انتخابات عام 2005م، وعندما انتهى دوره في دَفْع العرب
السُّنة للمشاركة في العملية السياسية لم يُسمح له بأكثر من 6 مقاعد في انتخابات
2010م.
يأتي بعد ذلك النفوذ الإيراني على كافة
المستويات وفي مختلف المؤسسات والأجهزة، ثم الحكم الذاتي الكردي؛ حيث لا مجال لفرض
قرارات سيادية على كردستان لا يوافق عليها تحالف « طالباني - بارزاني ».
وقد صاغت الإدارة الأمريكية النظام السياسي
العراقي بطريقة تزيد في عرقلته وتعقيده؛ حيث يحق للرئيس أو نائبيه الاعتراض على أي
قانون يقره البرلمان بالأغلبية،
فيعيده لتعديله.
وهناك مجالس المحافظات التي تتمتع بصلاحيات
واسعة، كما أن الدستور يقر نظام الفيدرالية المعلق حتى الآن؛ حيث تختلف القوى
السياسية في تفسيرها لمفهوم الفيدرالية وحدودها، وهو نظام في حال تطبيقه سيحوِّل
مؤسسات الدولة المركزية إلى هياكل مجوفة فاقدة التأثير.
وجدير بالذكر أن إيران تستطيع أن تنقل
لأتباعها في العراق خبرتها العريقة في التعامل مع أجنحة متعارضة داخل جهاز الدولة،
وتقدِّم تجربةُ الرئيس السابق ( محمد خاتمي) تصوراً دقيقاً عن تلك الخبرة؛ حيث لم
يمنع وجود رئيس إصلاحي على رأس الجهاز التنفيذي من سيطرة المحافظين على المفاصل
المهمة للدولة وتحويل خاتمي إلى واجهة هشة، وكذلك فإن وجود رئيس حكومة عَلماني
موالٍ للأمريكيين، لن يعرقل الأجندة الإيرانية في العراق؛ ولذلك وجَّهت طهران
تابعها الأول (عمار الحكيم) لكي يعلن في تصريح مفاجئ أنه لن يشارك في حكومة لا
يشارك فيها علاوي... أليس الأمر مشوقاً؟!
ثانياً: مدة
الحكومة والمجلس خمس سنوات فقط:
ويعني هذا أنه بعد أربع سنوات سيبدأ ضجيج
الانتخابات من جديد، وبعد ثلاثة أعوام سيرتفع صراخ المتنافسين على انتخابات
المحافظات؛ أي أن فوز إحدى الكتل بأغلبية مقعد أو اثنين ليس نهاية العالم.
إن هذه المدد القصيرة للحكم ينظر إليها
كثيرون على أنها من مثالب الديمقراطية، وهي تتسبب في اختزال الانتماءات الكبرى
ونموِّ الانتماءات الصغرى، وبمعنى آخر: تتنامى المصالح الشخصية حتى تستحوذَ على
مصالح الدولة أو الطائفة أو الحزب، وهو ما كان ملموساً بقوة في سنوات «
الديمقراطية العراقية » السابقة، سواء في حقبتها الجعفرية أو المالكية.
ومن الانتقادات الموجَّهة إلى النظام
السياسي العراقي أن قيمة رواتب وبدلات ومكافآت مسؤوليه لا تتناسب مع الأحوال
الاقتصادية لعموم البلد؛ إذ تبلغ ميزانية مجلس النواب - على سبيل المثال - عدة
مئات من ملايين الدولارات، وفي ظل غيبة رقابة مالية نزيهة تتعدد وسائل الكسب غير
المشروع.
وهذه كلها حوافز لتكالب مختلف القوى
والأشخاص على الفوز بنصيب من الكعكة العراقية.
ونظرة متفحصة إلى الحراك السياسي الدائر
حالياً تؤكد هذا التحليل؛ فالائتلاف الوطني الشيعي « تفسَّخ » إلى شقيه « الصدري »
الذي « صَدَّر » الخلاف لجماهيره؛ فنَظَّم انتخابات فرعيةً بينهم لاختيار رئيس
الوزراء القادم، و « الشق المجلسي » شرع في تبادل الغزل مع علاوي، بينما يترقب
قادة الائتلاف عادل عبد المهدي، و حسين الشهرستاني، أيَّ منصبٍ يلوح في الأفق.
أما قائمة المالكي فيسودها التململ؛ فقائدها
حصد العدد الأكبر من الأصوات في الانتخابات، والتي تجاوزت ستمائة ألف صوت في
بغداد، إلا أن تمسُّكه بمنصبه قد يتسبب في خسارة كبيرة للائتلاف؛ لذا يترقب هؤلاء
أي إشارة من هنا أو هناك لدفع مرشَّحٍ آخر للمنصب بخلاف المالكي.
والأكراد لم
يَسلَموا من الحسبة المعقَّدة: فحزب الطالباني خسر ثمانية
مقاعد بسبب تيار التغيير المنشق، وهو ما أضعف موقفه مع حليفه (أو غريمه) حزب
البارزاني؛ لذلك هناك احتمال أن يخسر جلال الطالباني رئاسة الجمهورية التي يطمح
إليها في مقابل تولِّي هوشيار زيباري (حليف البارزاني) رئاسة مجلس النواب، تاركين
المنصب الآخر لمرشح عربي سُني.
أما العرب السنة فهم الخاسرون الحقيقيون في
هذه الانتخابات؛ فهم لا في العير ولا في النفير، وأي مرشح يقدمونه لأي منصب (رئيس
الجمهورية أو نائبه)، لا بد أن يوافق عليه الشيعة، ويكفي أنهم حذفوا ذاكرتهم
واختاروا إياد علاوي الذي أشرف على مذابح الفلوجة.
ثالثاً: لا
توجد خطوط حمراء في مجال التحالفات السياسية:
في عام 2005م تحالف المجلس مع التيار الصدري
مع حزب الدعوة، وهذه الأطراف الثلاثة لها تاريخ حافل من الصراع، وكان أنصار الدعوة
والمجلس يتقاتلون في مدينة قُم الإيرانية على خروج مواكب العزاء في محرم إبان
مرحلة المنفى، وحتى احتلال العراق.
ولم تنقضِ أعوام قليلة بعد انتخابات عام
2005م حتى انفرط عِقْد التحالف فخرج الصدريون، ثم تكتل المالكي مع آخرين ليشكل «
ائتلاف دولة القانون »، مدشناً صراعاً دموياً مع الصدريين، وفي الانتخابات الأخيرة
عاد المجلس ليتحالف من جديد مع التيار الصدري، بينما توجه المالكي صوب السُّنة
محاولاً اختراقهم عن طريق مجالس الصحوة (التي كان يعترض بشدة على ضمِّ عناصرها إلى
قوات الجيش والشرطة)، ولكنه أخفق؛ حيث « غفت » الصحوة عميقاً ولم تَفُز ولو بمقعد
واحد يريح المالكي من غيظه من « إياد علاوي ».
وعندما أدرك المالكي افتقاره إلى دعم
منافسيه الشيعة الذين أدار لهم ظهره قبل أعوام، يمَّم صوب طهران محاولاً استرضاء
الصدريين واستمالتهم، وبدأ بعضهم يروج لاحتمال ترشيح محمد جعفر الصدر، الحصان
الأسود لدولة القانون، الذي كان ترشُّحه مفاجأة؛ فهو ابن المرجع الشيعي المعروف
محمد باقر الصدر، وقد حصل على المركز الثاني في عدد الأصوات في بغداد، ومن المعروف
أيضاً أن زوجة مقتدى الصدر هي أخت جعفر الصدر، وربما من أجل ذلك وضعه قادة التيار
ضمن قائمة رؤساء الوزارة المقترحين في استفتاءٍ داخل التيار لاختيار أصلحهم، وهم
بالإضافة لجعفر: علاوي، و إبراهيم الجعفري، والمالكي، وعادل عبد المهدي.
وخلاصة ما هنالك أنه لا يمكن القول بوجود
خطوط حمراء على تحالف جهة شيعية مع أخرى، ومع الغزل المتبادل بين التابع المخلص
لإيران (عمار الحكيم) والتابع المخلص لواشنطن (إياد علاوي) انكشفت الحقيقة المرة.
إن الأمر في مجمله يعود إلى « حسبة »
المصالح المتوقعة من أي تحالف، وما يتردد عن تمنُّع بعضهم إنما هو لتعظيم الثمن
وتكثير المكاسب، ولو كانت الدماء تحول دون إتمام التحالفات لَمَا « ائتلف »
الصدريون مع « الحكيميين » في تحالف واحد.
رابعاً: التقلبات
الحادة سِمَة الحياة السياسية:
من مجلس النواب السابق، لم ينجح في
الانتخابات الأخيرة سوى 63 نائباً ( وعدد نواب المجلس القادم 325 نائباً) وسقط عدد
كبير من المشاهير، أبرزهم جلال الصغير أحد الحاقدين على العرب السُّنة، ولم يحظَ
إلا بـ 26 صوتاً فقط، ورفيقه في المجلس الأعلى همام حمودي لم ينَل غير 50 صوتاً،
رغم أنه كان رئيس لجنة كتابة الدستور في البرلمان السابق.
ولا توجد فترة صلاحية لأي تحالفٍ أو تكتلٍ
شيعي، وقياساً على الانتخابات السابقة، فإن عُمْر التحالف لا يتجاوز عاماً أو
عامين؛ فهي كلها ائتلافات « فك وتركيب » قابلة لإعادة صياغتها وَفْقَ المعطيات
المتجددة دوماً.
خامساً: غلبة
البواعث الدينية على الناخب الشيعي مقارنة بالناخب السُّني:
لا تزال البواعث الطائفية هي المسيطرة على
الناخب الشيعي؛ فالأحزاب التي يختارها كلها أحزاب دينية لها ماضٍ عريقٌ من التعصب
الطائفي: كالمجلس الأعلى، والتيار الصدري، وحزب الدعوة بتفريعاته المختلفة،
والفضيلة.. إلخ.
والأسماء الخمسة التي طرحها الصدريون لرئاسة
الوزراء، أربعة منهم ينتمون إلى أحزاب دينية.
وفي المقابل تخلَّى العرب السُّنة الذين
يعيشون حالة من التخبط وافتقاد الزعامات، تخلَّوا عن تأييد الأحزاب الدينية بعد أن
تعرضوا للخذلان من الحزب الإسلامي، وكانت النكاية في توجههم صوب تحالُف عَلماني
يترأسه شيعي، حتى إن قادة الائتلاف الوطني يَصِفون علاوي بأنه « مرشح العرب
السُّنة ».
سادساً: النظام
الانتخابي العراقي « المُفلتَر »:
يمكن النظر إلى النظام الانتخابي العراقي
بوصفه نظاماً « مُفلتَراً »، بمعنى أن المرشحين يمرون من خلاله في عدد من «
الفلاتر » (أي: المُرشِحات الانتخابية) التي تضمن عدم وجود مفاجآت غير محسوبة،
وهي:
« الفلتر
» الأول: يتمثل
في هيئة اجتثاث البعث، التي تحولت إلى لجنة العدالة والمساءلة؛ ومهمتها تنحية
المغضوب عليهم لتحقيق التوازن الأوََّلِي في خريطة المترشحين، ومن الطريف أن رئيس
اللجنة « علي اللاَّمي » كان هو نفسه مترشحاً للانتخابات ولكنه خسر ولم يحصل على
أكثر من 697 صوتاً، لتتحقق العدالة بصورة أخرى.
(يلزم أن يحصل المترشح على 100 ألف صوت على الأقل ليفوز
بأحد المقاعد).
ويبدو أن هذه اللجنة « اقتباس إيراني »؛ حيث
يتولى « مجلس تشخيص مصلحة النظام » غربلة المترشحين لمجلس الشورى الإيراني، أو
لمنصب الرئاسة.
« الفلتر
» الثاني: هو نظام التصويت وعدِّ الأصوات وفرزها الذي يستغرق أسبوعين تقريباً خلافاً
للأنظمة المتبعة في دول العالم الديمقراطية وحتى الملتحفة بها، وهي مدة تسمح لكل
من تسوِّل له نفسه (أو يتوسل إليه غيره) أن يُعيد ترتيب الأوراق ويُجري عملية قصٍّ
ولصقٍ لتغيير النتائج، وقد انتقد محافظ كربلاء « آمال الدين الهر » الآلية
الانتخابية التي تضمَّنت اضطلاع شركات أجنبية بعملية الفرز الإلكتروني، مردداً
مطلب « ائتلاف دولة القانون » بإعادة الفرز اليدوي.
ومن الطريف تعرُّض الانتخابات في أفغانستان
لمواقف مشابهة؛ فقد اتهم الرئيس الأفغاني حامد كرزاي المراقبين الأجانب في
انتخابات الرئاسة الأخيرة بالتلاعب في النتائج في محاولة لإضعافه، كاشفاً أن من
يُفترَض بهم الحكم على مصداقية الانتخابات هم من يزوِّرونها، في تعريضٍ واضحٍ بدور
واشنطن.
« الفلتر
» الثالث: هو مؤسسات إعادة التفسير والتأويل: مثل المحكمة الاتحادية، وهي تتولى حلَّ
المنازعات وتقديم التفسيرات الدستورية للإشكالات الانتخابية، كما حدث عندما
أيَّدتْ ادعاء نوري المالكي بأن الحائز على الأغلبية البرلمانية لا الانتخابية، هو
الذي يكلَّف بتشكيل الحكومة.
« الفلتر
» الرابع: هو الملفات السرية التي يجري إبرازها لاحقاً ضد أي نائب يتجاوز الخطوط
الحمراء، فيعلو صوته وترتفع نبرته فوق المسموح، وعادة ما يكون هؤلاء من العرب
السُّنة؛ حيث يجري اتهامهم بدعم وتمويل الإرهاب كما حدث مع محمد الدايني.
النموذج العراقي... مَنِ التالي؟
بعض برامج الكمبيوتر يجري طرحها في إصدارات
للدعاية تُتيح استخداماً محدوداً فقط، وتُسَمََّى « نسخة للعرض » أو بالإنجليزية «
ديمو » demo،
تلك هي (الديمو - قراطية) المقدَّمة للاستهلاك في عالمنا العربي، مجرد نُسَخٍ
للعرض فقط، وليست نسخاً كاملة.
فقد تجمعت في النظام السياسي العراقي «
الديمو - قراطي » عدة مزايا وسمات تجعله تجربة « نموذجاً » يمكن تسويقه إلى دول
أخرى عربية وإسلامية.
والخطير هنا أن هذه السمات تحظى بتوافقٍ
مصلحيٍّ (إيراني - أمريكي)، والأخطر أن الدول المراد تسويق النموذج إليها (أو
سوقها إليه) هي - في غالبيتها - دول لا تحظى بالرضى الإيراني.
أبرز سمات
« الديمود - قراطية » في نموذجها العراقي:
1 -
ضوضاء ولا طحن: لمدة عام كامل تقريباً تُجيَّش الدولة
بكاملها لأجل الانتخابات البرلمانية « المبرمَجة »، وعام آخر من أجل التحضير
لانتخابات المحافظات « المؤدلجة »، وقبل كل انتخابات تحالفات وتكتلات، وبعد كل
انتخابات إعادة تشكيلٍ لتحالفات وتكتلاتٍ أخرى، وترتفع صيحات الفائزين وآهات
الخاسرين.... وتحيا الديمقراطية.
2 -
إطلاق العِنان لكافة القوى والمكوِّنات العرقية
والدينية: بمعنى أن كل ما يمكن أن يقسِّم المجتمع
يُستدعى ويُنمَّى ويُعظَّم من أجل تقسيم المجتمع إلى شرائح وفئات متصارعة على كعكة
الانتخابات، وقد ارتفعت في العراق أصوات لم يكن أحد يعلم أنها تعيش في العراق
أصلاً، واحتاج كثير من المتابعين إلى استحضار موسوعات الفِرَق والأديان للاطلاع
على تعريفاتٍ وتفسيراتٍ للفسيفساء المجهولة المكتشَفة حديثاً.
3 -
تحوُّل العراق إلى ساحة لصراع القوى الدولية والإقليمية: أو بعبارة أخرى تحوَّلَ إلى « ملعب للإيجار »؛ فكل متصارعَين يبتغيان تصفية
حساباتهما يتفقان على موعدٍ للِّقاء في العراق، تماماً كما حدث في لبنان ويحدث في
السودان، وتُبذل جهود حثيثة (أو حوثية) لنقلِه إلى اليمن.
4 -
ضمُّ العراق إلى معادلة توازن إقليمية مختلة في غير صالح العراق: لكن لصالح بعض القوى الإقليمية، وهي هنا: إيران، تركيا، سوريا، وتَمَثََّل
الاختلال في قضم أجزاء من المساحات المشترَكة في المصالح بين هذه الدول والعراق،
ومثال ذلك توزيع مياه دجلة والفرات؛ حيث يعاني العراق من أزمة مائية حادة، سببها
الرئيس تراجع كميات المياه الواردة من تركيا وسوريا وإيران، بالإضافة إلى قلَّة
الأمطار.
وتبلغ كمية المياه المقرَّرة للعراق من
الفرات حالياً 13 مليار متر مكعب، بينما كانت تبلغ في السابق 28 مليار متر مكعب،
ويبلغ معدل التدفق في مياه دجلة 280 متراً مكعباً في الثانية، بعد أن كان 500 متر
مكعب في السبعينيات.
أيضا من
الوضعيات المختلة: الظلم الذي يتعرض له العرب السُّنة، على كافة المستويات (السياسية
والاقتصادية والدينية)، حتى باتوا يتسولون من يمثلهم، وحتى المقاومة السُّنية لا
يبدو أنها تملك حالياً رؤية واضحة وتصوُّراً شاملاً حول المستقبل في العراق...
وهذا ظلم متراكم لا يمكن حذفه أو نسيانه... إن هذه الوضعيات المختلة تؤذن بدورات
صراع وحروب قادمة في المستقبل استهدف صانعو النظام وَضْع بذرتها حالياً، ومن ثَمَّ
حصاد مكاسبها مستقبلاً.
إن أفغانستان، لبنان، السودان، العراق، دول
تعرضت كلها لأحوال متشابهة أنتجت - أو في طريقها - وضعاً مختلاً ينشغل فيه أهل
البلد بأنفسهم في وضعية معقدة لا يبدو لها حلٌّ في الأفق القريب أو المنظور، والحل
الوحيد المطروح يتمثل في تدخُّلات خارجية من أجل ضبط الإيقاع.
والسؤال الآن، ليس عن كيفية تجاوز أو حل
الأزمات في هذه البلدان، ولكن عن: من هو النموذج التالي على قائمة « الفوضى
الخلاَّقة »، أو « الديمو - قراطية ».
:: البيان تنشر - مـلـف
خـاص- (الـخـطـر الإيـرانـي يـتـمـدد)
(1) موقع صوت كردستان: 18 / 8 / 2007م.