• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
في الطريق إلى العَلمانية

في الطريق إلى العَلمانية

(الأحكام الشرعية لا يصلح فيها الإلزام أو المنع؛ مَنْ أحب أن يصلي أو يزكي أو يترك الحرام فهو إنسان يعرف مصلحة نفسه، ومن لم يفعل فلا يصلح أن نلزمه أو نمنعه؛ لأن هذا شأن بينه وبين ربه). هذا فحوى ما سمعته في سياق حديثنا الودي مع سائق الأجرة الذي تكرم بإيصالنا ذات يوم، ثم فارقته، وقد آذتني هذه الجملة كثيراً، لا لأني أسمعها للمرة الأولى، فمؤدَّاها متكدس في المقروء والمسموع، لكن المؤذي فيها أنها تصدر من رجل الشارع العادي، وتترجِم معنىً حاضراً بقوة في الثقافة الشعبية لعالمنا العربي والإسلامي. إذا كانت الأوامر الشرعية غير مُلزِمة، والنواهي غير ممنوعة، فإن السير على هذا الطريق يوصلك إلى بوابة العَلمانية، وإن لَعَنتَها وبَصَقتَ عليها؛ فالعلمانية تعني فصل الدين عن الدولة؛ بمعنى عزل الأحكام الشرعية عن أن تكون مؤثرة في نظامٍ عامٍّ مُلزم للناس، وحين تكون الأحكام الشرعية شأناً خاصاً يُحمَد فاعله ولا يُتعرَّض لتاركه، وليس لها تعلُّق بنظام أو سلطة فنحن بهذا في وسط باحة العَلمانية. إن إسقاط (الإلزام) و (المنع) من الأحكام الشرعية هو من مفاصل النزاع مع الفكـر العَلْمـاني؛ فالفلسفة العَلْمانية لا تمانع من حضور الطاعات وترك المنهيات لاعتبارات دينية لدى الناس، بل إنها قد تحمي ذلك وتحرسه، ما دام شأناً خاصاً لا يؤثر على الآخرين ولا يترتب عليه منعٌ أو فرضٌ لهذه الأحكام وإعلاء لها إلى مقام التقنين والإلــزام، وهــو ما سيؤدي إلى تعطيل الأحكام الشرعية عن القيادة والحكم؛ وإن كانت حاضرة في الوجود لمن أحب. إن الأوامـر والنواهــي الشرعية في كتاب الله وسُنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - متجهــة إلى الفــرد والمجتمــع، ومتعلقــة بخــاصة المسلــم ونظامه الذي يحكمه؛ فالمسلم حين يقرأ قوله - تعالى -: {وَأَقِيمُوا الصَلاةَ وَآتُوا الزَكَاةَ} [البقرة: ٣٤]. وقوله - سبحانه -: {وَالسَارِقُ وَالسَارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: ٨٣]، وقوله - سبحانه -: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِنَ النِسَاءِ} [النساء: ٢٢] فإن هذا الخطاب متجه للفرد بأن يمتثل أوامر ربه ويتجنب نواهيه، ومتجه أيضاً للمجتمع ليحكم بما يريد رب العالمين منه، ولم يكن أحد من السابقين يظن أن هذا الخطاب متجه للفرد، وأما الجماعة فشيء آخر. إن التفكير بهذه الطريقة إنما هو من رواسب التأثير العَلماني المكثف في عقول الناس؛ حيث أحدث لكثيرٍ منهم حَمْل أوامر الشريعة ونواهيها على الشأن الخاص للفرد فقط دون النظام والمجتمع. لا أدري كيف يتعامل هذا التفكير مع العقوبات الشرعية المحددة في كتاب الله: في قطع يد السارق وجلد الزاني والقاذف؛ فالحكم هنا تجاوز مجرد الإلزام أو المنع الذي يستكثرونه على الشريعة إلى العقوبة المحددة، وحتى الأحكام التي لم تَرِد الشريعة بعقوبات محددة لها هي من الجرائم التي ينالها (التعزير) بحسب حال الذنب وصاحبه والعوارض المحتفة به؛ فالأوامر والنواهي لا تقف فقط عند حد الإلزام والمنع، بل تصل إلى حد العقوبة؛ وهو أمر أعلى من مجرد الإلزام. وأعلى من هذا كله، أن الله - تعالى - قد أمر بالتحاكم إلى ما أنزل، ووصف المستنكفين عنه بالأوصاف العظيمة {وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: ٤٤] {هُمُ الظَالِـمُونَ} [المائدة: ٥٤] وهو ما يفهم منه كلُّ مسلم أن أحكام الشريعة أحكام قضائية عُليا ملزمة، وأن الحُكم بها والفصل بين الناس بناءً عليها من قطعيات الشريعة، ومن ينفي (الإلزام) و (المنع) كيف يستقيم على فهمه وجود حكم بغير ما أنزل الله؟ وما دامت الأوامر والنواهي شأناً خاصاً، ما فائدة الحكم إذن؟ وتجد في كتاب الله - تعالى - ثناءً عظيماً على هذه الأمة: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَر} [آل عمران: ٠١١]. وقد أعطاها الله أماناً من الهلاك ما دامت ممتثلة له: {وَمَا كَانَ رَبُكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: ٧١١] وقد فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - في جوابه عن سؤال زينب بنت جحش - رضي الله عنها -: «أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم! إذا كثر الخَبَث»[1]. وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : «والذي نفسي بيده! لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم»[2]؛ فانتشار الخَبَث سبب لهلاك الناس حتى الصالحين منهم ما دام وجودهم لم يكن سبباً للتقليل من الخبث الذي لن يكون إلا بالإلزام والمنع. كما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - مراتب هذه الخيرية فجعل (الإلزام) و (المنع) هو أول هذه المراتب وأعلاها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان»[3]. وإذا زال (الإلزام) بأوامر الله و (المنع) عن مناهي الله لم يكن ثَمَّ ميزةٌ لهذه الأمة إلا مجرد أن تفعل المعروف وتترك المنكر، وإذا حَسُن أمرُها نصحت بالكلام من غيـر نظام ولا إلزام ولا سلوك عام، وليس في هذا ميزة يُفتَخَر بها؛ لأن فعل المعروف ونُصحَ بعض الناس به تفعله كل الأمم والحضارات، فأي شيء يميز أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ لا شك – بعد هذا - أن (الإلزام) و (المنع) سيكون بالحكمة والموعظة الحسنة، ولن يكون مردُّه إلى آحاد الناس مطلقاً، ولن يطالَب الإنسان بشيء من ذلك في حال الضعف وعدم القدرة، أو في حال ترتُّب مفسدة أعظم منه؛ فكل ذلك من القواعد الشرعية المستحضرة في هذا المقام، وهي من مكملات أصل الإلزام في الشريعة، ولا يجوز أن تُتَّخَذ أداة لتكسير هذا الأصل. أعرف جيداً أن صاحبنا حين قال هذه الجملة لم يقصد حقيقتها ولم يدرك لوازمها، وأجزم أنه سيتعوذ بالله ويستغفره من مثل هذا القول في مواطن أخرى، لكن هــذا لا يعني التهاونَ مع مثل هذه المفاهيم؛ لأن استمرار حضورها مع ضعف البيان يعطيها الوقت للبقاء والتمدد وشق أخاديد الانحراف في عمق المجتمعات المسلمة؛ لتنساب بهدوء – من حيث لا نشعر - في طريقها إلى العَلمانية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 [1] أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم: 3403، ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج برقم: 7418.
[2] من حديث حذيفة - رضي الله عنه - أخرجه الترمذي وحسنه في كتاب الفتن، باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برقم: 2169، وحسنه الألباني.
[3] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، برقم: 186.

أعلى