دوافع تنازل الصهاينة عن النظام السوري
حافظت إسرائيل منذ اندلاع الثورة السورية على موقف «النأي
بالنفس» وعدم التدخل، الظاهري على الأقل، لكنها في الأيام الأخيرة أجرت انقلاباً
في نظرتها، وبدأت تعلي صوتها بضرورة التدخل لإسقاط النظام السوري، ما يطرح جملة من
التساؤلات والأبعاد التي تقف خلف مثل هذا التغيُّر المفاجئ في الموقف.
وليس سراً أن حاجة إسرائيل إلى النظام السوري طوال العقود
الأربعة الماضية، لم تضاهيها حاجتها إلى أنظمة عربية عديدة وقعت معها اتفاقيات
تسوية، وتبادلت السفراء، ليس بالضرورة لأن حكام دمشق مرتبطون بتل أبيب وَفق الصورة
النمطية بين أجهزة استخبارات متبادلة، لكن الطرفين أقاما بينهما عقداً غير مكتوب
يقضي باستراتيجية «البقاء مقابل البقاء»!
بمعنى الرضا الإسرائيلي بـ «بقاء» الأقلية الطائفية تحكم الأغلبية
السورية، مقابل «بقاء» الهدوء يخيِّم على هضبة الجولان، بحيث لا يسمح لطائر أن
يغرد في سمائها دون أخذ الإذن من القصر الجمهوري، وقد قرأ الساسة والعسكر في
الجانبين هذه الاستراتيجية وارتضوها لأنفسهم.
صحيح أن دمشق أزعجت تل أبيب كثيراً باحتضانها حركات المقاومة
الفلسطينية ووفرت لها ما لم توفره عاصمة عربية، ومنحت حزب الله أنبوب أوكسجين عزَّ
نظيره؛ لكن ذلك لم يكن يضاهي أن تعود جبهة الجولان لتشتعل من جديد، وهو سيناريو
يجتهد الإسرائيليون في عدم تخيُّله، لأنه حينها سيصبح كابوساً لا يُطاق!
إذن ما الذي حصل.. هل أن حاجة إسرائيل إلى دمشق تراجعت؟ أم
أن استراتيجية البقاء انتهت صلاحيتها ولا بد من البحث عن استراتيجية بديلة؟ أم أن
تغييرات إقليمية ودولية باتت تحتم الحاجة إلى نظام آخر في سورية قد لا يكون بذات
الحديدية التي التزم بها آل الأسد في حفظ هدوء الجولان، لكنه قد يخدم أغراضاً
وترتيبات أخرى يُعِدُّ لها أرباب القرار في العالم؟
وما الذي دعا حكام إسرائيل لإبداء قدْر «غير مسبوق» من
الشفقة على الضحايا السوريين وهم المذبوحون من الوريد إلى الوريد منذ 16 شهراً وتل
أبيب صامتة كأن على رأسها الطير؟ وفجأة، ومن دون مقدمات، باتت تدعو جهاراً نهاراً
إلى تدخل دولي لإسقاط النظام السوري، لا لشيء، إلا لوقف نزيف الدم المسفوح!
وهنا، يمكن متابعة الحراك السياسي الإسرائيلي السائر على
«نار هادئة» في سعي منها لاستكشاف ما لدى العواصم المساندة للنظام السوري من
تقديرات وتوقعات، حيث أرسلت رئيس مجلس الأمن القومي «يعكوب عميدرور» إلى موسكو
لاستشراف الموقف الروسي، وهو ما قام به رئيس هيئة الأركان العامة «بيني غانتس» في
حديثه مع المسؤولين الصينيين خلال زيارته الأخيرة إلى بكين.
رغم ثقة تل أبيب بأن مشاهد الذبح التي تصل من سورية لن
تبعث على إجراء ناجع يضائل تيار الدم السوري؛ لأن رئيساً أمريكياً ضعيفاً مشغولٌ
بانتخابات داخلية، وأوروبا في تهاوٍ وتناضِل ضد الأزمات الاقتصادية، والقيادتين
الروسية والصينية تبحثان عن طرق لتعظيم أرباحهما السياسية والاقتصادية؛ كل ذلك
يُفسد احتمال عمل حازم موجَّه ضد الأسد.
سيناريوهات مقلقة:
هناك جملة من التقديرات، والتفضيلات، والسيناريوهات،
تطرحها إسرائيل لليوم المتمثل في سقوط الأسد يمكن تناولها على النحو التالي:
1 - السيناريو الأفضل بقاء الوضع على ما هو عليه الآن أطول
فترة ممكنة، لأنه في حال سقوط النظام وصعود الإسلاميين للحكم، فمن الواضح ماذا
سيكون تأثيره السلبي على إسرائيل.
2- تعتبر إسرائيل أن عدداً من العوامل القوية تهيئ المسرح
السوري لاضطرابات ستستمر فترة طويلة، مع تزايد وحشية الدولة ووكلائها، وتحسن تنظيم
وتسليح المعارضة، والهجمات الانتحارية التي تشنها جماعات مسلحة، وتزايد اهتمام دول
مجاورة بتسليح الأطراف المختلفة.
3 - ازدياد الوضع في سورية خطورةً، واستمرار القتل لأشهر
طويلة، إلا إذا حصل اغتيال للأسد وشخصيات أخرى، مع أن التقدير يستبعد اضطراره إلى
التنازل عن الحكم بصورة أو بأخرى.
4 - رغم تغيُّر الموقف الإسرائيلي من تطور الأحداث
السورية، لكنها في الوقت ذاته تتخوف من تبعات ونتائج التدخل العسكري الدولي، أو
المبادرة لحملة عسكرية لإسقاط الأسد؛ لأن التجربة المريرة للأمريكيين والغرب في
العراق حين أوصلوا قادة المعارضة المنفية إلى مناصب أساسية في بغداد، وفككوا الجيش
وأجهزة الأمن؛ علمتهم درساً مهماً في تحضير مؤسسة الحكم السورية لليوم التالي بعد
بشار.
إلى جانب ذلك، فإن دمشق في أيامها وأشهرها القادمة،
مقدِمة، بنظر تل أبيب، على عدّة سيناريوهات محتملة أثرت جميعها في تغيير الموقف من
تطور الثورة هناك، ومن بينها:
1- الحفاظ على الدولة بقيادة أخرى: بحيث يقوم مسؤول بمستوى
رئيس الأركان، أو رئيس المخابرات، بـ «إلقاء عظمة سمينة» للجمهور باعتقال عائلة
الأسد، ومحاكمتها، للحصول على الهدوء، ويعلن عن تغييرات في الدستور، وإصلاحات
اقتصادية، وانتخابات.
2- انشقاق الحكم: إذا نشبت خلافات في أذرع الأمن، بحيث
يغيّر بعضها ولاءه من الحكم إلى الشارع، كما حصل في ليبيا واليمن، لتبدأ حرب شاملة
بين القسم المؤيد للثوار والموالي للحكم، أما إذا تكرر السيناريو اليمني، فسيشعر
الجيش بالشلل لوقوف جزء منه ضد جزئه الآخر.
3- سيناريو بطعم سوري يمكن أن يؤدي لتقسيم الدولة إلى
قسمين يعكسان الانقسام الجغرافي للقوة، ويحتمل رؤية حرب بين الطرفين كالتي اندلعت
في ليبيا، ما سيخلق عدم استقرار، لأن كل جزء سيواصل وقوعه تحت سيطرة نخبة عسكرية،
والمشاكل الأساسية لسورية لن تحل، بل ستتفاقم، وستدعم إيران الحكم، فيما سيدعم الغرب
الثوار.
4- انهيار الدولة: إذا خسرت المجموعة العلوية السيطرة على
الحكم، فمن المتوقع أن يبسط السنة سيطرتهم على أجزاء واسعة من البلاد، ويعلن أكراد
الشمال عن دولة كإخوانهم في العراق، ويستعيد دروز الجنوب الحكم الذاتي، وبدو الشرق
سيقيمون كياناً مستقلاً، ويستغل الحلبيون الفرصة لينفضوا عن أنفسهم إلى الأبد
سيطرة الدمشقيين، لتقوم على خرائب سورية 6 دول.
4- تسخين الحدود مع إسرائيل: وهي ممارسة عادية في كل مرة
يقف فيها الحكم السوري أمام مشاكل داخلية ليخلق وضعاً يسمح له بالقول للجماهير
الغاضبة: «الصهاينة يتصدون للقضاء علينا، ولهذا عليكم أن تدعوا كل الخلافات،
وتتحدوا تحت علم الرئيس المنقذ».
الخلاصة:
إن قراءةً في تقدير تغيُّر الموقف الإسرائيلي من الأحداث السورية، يمكن استنباطها
بالوصف الإسرائيلي للحدود السورية بـ «غير الهادئة»، ما يستوجب استعداد الجيش،
الذي يراقب من كثب تطورات الأحداث، خشية نقل أسلحة متطورة أو غير تقليدية من
الأراضي السورية أو إليها.
ولهذا تعتبر تل أبيب أي تطور يحصل
في دمشق خسارةً لـها؛ لأن سقوط الأسد سينشئ حالة من عدم الاستقرار، رغم أنه سيُحدث
شرخاً في المحور المعادي، وإن بقي سيكون ضعيفاً، ما يعني نشاطاً مسلحاً على طول
الحدود معها.
::"البيان" تنشر ملف شامل ومواكب
لأحداث الثورة السورية ..