فمن أبرز إسهامات عبيد الله السندي، وأتباعه تأسيس حكومة مؤقتة هندية في أفغانستان، مع دعم من أمير الأفغان والدول المركزية التي خاضت الحرب العالمية الأولى، وكان عبيد الله السندي وزير الشؤون الداخلية في هذه الحكومة.
رغم ويلات الإقصاء والتهميش، ورغم بطش الاضطهاد والضغوط السياسية، ورغم الهجمات
الهمجية التي تطلقها خلايا الحكومة الهندية؛ يمتلك مسلمو الهند تاريخًا ناصع البياض
في فصول تحرير الهند، فرغم ما تقوم به الجهات المدعومة من قبل الحكومة من شنّ حملة
مسعورة لمحو آثار المسلمين وتبديلها إلى أسماء هندوسية؛ تتجلى عظمة الأمة المسلمة
الهندية عالية بالعزم والعزة؛ لأن تلك الجذور عصيّة أن تستأصل، عصية أن تقتلع، فهي
راسخة في القلوب، وشامخة في عيون الزمن.
فكلما ضربت الهند رياح الاستعمار أو هزتها الفتن، هبّ المسلمون هبةً أعيت جميع
الأمم الأخرى أن تحاكيها، فقد كانوا لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما
قال برهانًا، وقدّموا أرواحهم من أجل العدالة والحرية، وكانوا الخط الأول للمقاومة،
والخط الساخن للمواساة والمساعدة؛ فضدّ البرتغاليين هبّ كونجالي مركار وإخوته، وضد
الإنجليزية قام تيبو سلطان ولم يقعد، وهناك أبطال أخرون أمثال واريان كونات كنج
أحمد حاجي الذي أسّس دولة مستقلة وضرب عملة، وأصدر جواز سفر، حتى أرداه الاحتلال
شهيدًا، وبيغم حسرت محل، وإخوة علي الأبطال، وأبو الكلام آزاد، لتلتحم جنوب الهند
وشمالها روحًا ودمًا من أجل تباشير الحرية.
ومن تلك المحطات الخالدة في تاريخ الهند:
«ريشمي
رومال تحريك: حركة المناديل الحريرية»
التي هي أندر فصل من فصول النضال والمقاومة، فقد كان علماء الدين ينطلقون في مهام
سرية للغاية للإطاحة بالاحتلال الإنجليزي، يكتبون رسائل إلى الملوك المجاورة، وإلى
الحواضر الإسلامية النائية؛ بحثًا عن الدعم والتأييد والأسلحة، فهذه الرسائل كانت
أقوى ضد آمال الاستعمار في السيطرة على الديار الهندية، وكانت قادرة على تغيير مجرى
الهند، لولا أن تمّ اعتقال المراسلين والمبعوثين، وتم شنقهم ونفيهم إلى سجون جزيرة
مالطا.
لقد استمرت هذه الرسائل الثورية سبع سنوات ما بين 1913م و1920م، إلى أن انطلقت حركة
الخلافة لتأخذ الثورة مسارًا آخر، وهذا الرسائل كتبت على قماش حريري لتشتهر بعد ذلك
بـ«حركة
رسالة التحرير»
أو
«ريشمي
رومال تحريك»
باللغة الأُردية.
رسائل من التحرير
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وانخراط القوى العالمية، بما فيها الإمبراطورية
الإنجليزية، في هذه الحرب الشرسة، كانت الفرصة سانحة للثوار الهنود؛ إذ تشتّتت قوات
الاستعمار الإنجليزي في أرجاء العالم، فرأى الهنود في ذلك فرصة لخوض صراع مخطط لضرب
الاحتلال الإنجليزي على حين غفلة من أهله، وكان المحرك الرئيس وراء هذه الخطة علماء
دار العلوم بديوبند؛ الذين وقفوا منذ البداية في مقدمة الصفوف، وحفّزوا الهنود ضد
الاحتلال بين الفينة والأخرى.
وكانت ديوبند وقتها بؤرة الثورة وكنف الثوار، وقام علماؤها بتوعية العوام بضرورة
المقاومة والنضال من أجل الاستقلال واستعادة القوة من الاحتلال، فكان صوت ديوبند
مسموعًا بقوة، فكان الشيخ محمود الحسن أول طالب بدار العلوم رائد هذه الفكرة؛ حيث
أسّس منظمة باسم
«ثمرة
التربية»
عام 1877م التي تبنّت فكرة النضال والجهاد ضد الاحتلال البريطاني.
لكن بعد وفاة القاسم النانوتوي الذي يُعدّ مؤسّس دار العلوم، اضطربت بوصلة الجمعية
قليلًا؛ إلا أنها استمرت أكثر من عشرين سنة تبث في العوام روح النضال، وتُملي عليهم
دروس الفداء والصمود، ففي عام 1909م جمع محمود الحسن أتباع منظمته القديمة تحت راية
«جمعية
الأنصار»،
وكلّف الشيخ عبيد الله السندي -الذي عُرِف بنضاله وحكمته- بتنسيق المهام وتنظيم
الجمعية، فكان أهلاً لذلك.
وفي عام 1911م تم إعلان الجمعية الجديدة وسط حضور كوكبة من العلماء في جلسة أقيمت
في حرم دار العلوم بديوبند، ففي هذه الجلسة ألقيت محاضرات تُبيِّن موقف الجمعية من
الاحتلال، كما تم استنفار العوام للخوض في النضال، وبناءً على الدعم والتأييد الذي
أظهره العوام إزاء هذه الحركة؛ أطلقت الجمعية مسيرة احتجاجية ضد الاحتلال في عدة
مدائن بما فيها مراد آباد، وعليكره، ولكنو وديوبند، مما لاقى ترحيبًا كبيرًا
ومشاركة من العوام.
لكن بعد أن أدرك الاحتلال نفوذ ديوبند، ودورها في استنفار الشعب ضد الحكومة؛ فرضوا
حظرًا على الجمعية التابعة لها، ونتيجة لهذه الفوضوية شعر الشيخ محمود حسن بالقلق؛
فحثّ أتباعه على إنهاء عضويتهم في الجمعية؛ حتى لا يلحق أيّ ضرر بدار العلوم.
لكنّ القطار لم يتوقف، بل واصل مسيرته ليجتمع الثوار بعد ذلك تحت راية
«نظارة
المعارف»
التي تبنَّت نفس أفكار جمعية الأنصار؛ ألا وهي مقاومة الاحتلال حتى تتحرر الهند
بكاملها من مخالب الاستعمار الفاتكة، وكان الشيخ محمود حسن وعبيد الله السندي مصدري
قوة هذه الجمعية، وكان لهما روابط قوية مع قيادات الثورة الاستقلالية أمثال أبي
الكلام آزاد، ومحمد علي جوهر؛ لتنتشر فكرة الجمعية، وتتسع شعبيتها شيئًا فشيئًا.
وسيرة شيخ الهند محمود حسن -رائد هذه الحركة- غنية بالبطولات والملاحم؛ حيث كانت
حياته مليئة بالتحدي والتصدي، وذاق مرارة السجن والمنفى، وكان شديد الغيرة على
وطنه، مبغضًا للاحتلال، لم يستسلم ولم يساوم، بل أوقد جمرة التمرد والكفاح، ولا
يخفى ما أشعلت خطته في قلوب الملايين من همّة وأمل، لتمتدّ هذه الرسائل وقودًا
للحركات الاستقلالية التي تحلّت بأسماء شتى، وتجلت بصور متعددة، لكنها اجتمعت على
هدف نبيل واحد؛ كحركة الخلافة، وحركة عدم التعاون والموالاة، وحركة الهجرة، وحركة
الفرائضية، وغيرها من الحركات التي صدّعت رؤوس الاحتلال.
رحلة من أجل الدعم
في الجو المفعم بغبار الحرب العالمية الأولى، المليء بالصيحات والنعرات من أجل
الحرية، المتوتر بصعود الحركات اليمينية والشمالية؛ رسم الثوار خطتهم من أجل تحرير
الوطن، فتلك خطة تبرز فيها حكمتهم وحنكتهم، فبعث الشيخ محمود حسن نائبه عبيد الله
السندي إلى كابل، كما اتجه الشيخ نفسه إلى مكة؛ فكانت نية البعثة جلية، هي حشد
الدعم وجمع المال والأسلحة، فبدونها لن يتحقق هذا الحلم الكبير، ووصل الشيخ إلى مكة
عام 1915م ليلتقي هناك أمير مكة غالب باشا، وجرى بينهما حوار، وكتب هنالك رسالة
طويلة إلى أتباعه بالهند؛ ليخبرهم بالدعم العثماني، لكنّ الحرب كانت ضبابية تنبئ
أحداثها عن أخبار سيئة قادمة؛ حيث انضمت الولايات المتحدة وروسيا إلى الإنجليز ومِن
ثَمَّ تجرَّعت تركيا كأس الهزيمة المرّ، وانتصر الإنجليز؛ خلافًا لما توقعه الشيخ
محمود وأتباعه ليتبخر حلمهم، وينكسر أملهم بين عشية وضحاها.
وقتها كتب عبيد الله السندي رسالة من كابل إلى الشيخ محمود حسن، يخبره بخططه
ومشروعاته وفعالياته، فكان من أهم ما كتبه: تدبير حملة شرسة ضد الاحتلال، والعجب
كانت الرسالة مكتوبة على مناديل من حرير، وسُمّيت هذه الحركة السرية باسم
«الجنود
الربانية»،
كما قررت أن تجعل مدينة كابل مركزها الرئيس، وطهران وإسطنبول مراكزها الثانوية.
وهذه الكتيبة كانت مهمتها توحيد صفوف الأمة، وجمعها تحت كلمة واحدة، كما كانت تخطط
لحرب الهند من الأراضي المسلمة، وكانت لهذه الحركة روافدها الخاصة كطلبة ديوبند،
وأصدقاء عبيد الله السندي، لكن الأمور تعقدت أكثر بعد أن تم القبض على تلك الرسائل
التي كُتبت إلى الشيخ محمود حسن من قيادات الحركة، ليقوم الاحتلال بتمشيط مكثّف عن
خلايا الحركة، وتوجيه الاتهامات نحو القادة، ومن أهمها: إثارة الفتنة بين الشعوب
لخلع الإمبراطورية الإنجليزية، وذلك عن طريق تأويل الآيات القرآنية حسب هوسهم
الجهادي، ووصف الهند بدار الحرب؛ حتى يهب جميع المسلمين إلى الجهاد المقدس.
عبيد الله السندي روح النضال
وكان عبيد الله السندي رأس حربة النضال، بل كان الروح الكامن وراء جميع هذه المهام
السرية الثورية، وكان له تأثير كبير على شيخه شيخ الهند محمود حسن، حمل رسالة
الجهاد في سنّ مبكرة، ولم يدخر جهدًا في التمرد ضد الاحتلال، فسعى في الأرض يستنجد
بالأمراء المسلمين، ويشاورهم في إطلاق غزوة مباركة ضد الهند
«دار
الحرب».
ولقد نجح عبيد الله في هذه المهمة الصعبة، رغم أنه وُلِدَ في أسرة سيخية، ونشأ في
بيئة تلفّها أطياف القلق والمشقة، وتمكن من التغلب على هذه العوائق والعبور على
جمرتها بهمّته العالية وإرادته القوية، ففي السادسة عشرة من عمره اعتنق الإسلام
تأثرًا بأفعال العلماء المسلمين، لتبدأ رحلة الثائر من أجل الحق والسلام، زار روسيا
وخطَّط للقاء مع قادة الشيوعية، وعلى رأسهم لينين، لكنه لم يستطع؛ حيث كان لينين
مريضًا، وزار أفغانستان والحجاز بحثًا عن الدعم الدولي من أجل تحرير الهند، فمن كل
هذه الرحلات والتجارب التي خاضها عبيد الله السندي تتضح مدى همته وإرادته التي
نادرًا ما نشهدها، وكان بينه وبين سوباش تشندرا بوس -المشهور في الهند بلقب
«نيتاجي»
السيد الشريف- لقاءات متكررة، وهو الآخر الذي أسَّس جيشًا حرًّا خارج الهند في
اليابان لتحرير الهند.
وكان سوباش تشندرا أشد احترامًا للشيخ السندي؛ حيث قبَّل رِجْله وقت وصوله إلى
كلكتا الهندية من منفاه، كما كان المُحرّك الفعال في توجيه عناية أبي الكلام آزاد
نحو الثورة الاستقلالية الهندية، وقضى في الحجاز أكثر من ثلاثين سنة ثم رجع إلى
الهند عام 1939م، وتوفي هناك عام 1944م بعد صراع طويل مع مرض الإسهال.
فمن أبرز إسهامات عبيد الله السندي، وأتباعه تأسيس حكومة مؤقتة هندية في أفغانستان،
مع دعم من أمير الأفغان والدول المركزية التي خاضت الحرب العالمية الأولى، وكان
عبيد الله السندي وزير الشؤون الداخلية في هذه الحكومة.
والخلاصة أن دور العلماء المسلمين في تحرير الهند أمر لا يشقّ له غبار، لقد ضحوا
بأنفسهم لحماية الوطن، واستشهدوا في سبيل تحقيق الحرية، وأسالوا الدماء القانية في
بطون المعارك الحامية، انتفضوا وثاروا وصابروا ورابطوا، ففي كل ولاية من ولايات
الهند مآثر ومعالم تشهد لهم وتنطق بعظمتهم وشموخهم، فإن طالت معاول الهدم أو داست
جرافات الفاشية تلك المنارات والقباب؛ لن تتمكن من طمس هذه الهوية الثابتة مهما
فعلت الأفاعيل ونشرت الأقاويل، للأسف الشديد لقد تم تهميش دورهم وإقصاؤهم من
الجادة، بل مُحِيت آثار أقدامهم من بطون الكتب التاريخية فأنَّى للأقلام المرتزقة
أن تصنع بنية تاريخية تتماشى مع الحق، والحق يعلو ولا يُعلَى عليه.