و«ناظر» يصف الرسالة الثقافية لهذه المنظمات بوضوح تام بقوله: «محترف المنظمات هو رسول الثقافة الغربية في الموقع، المتلهف لتقديم عرض يُرضي المتبرعين في الحكومة والمؤسسات... وقد حققت المنظمات المدنية نجاحًا مماثلًا في تعريف نفسها مع القيم التي تتبناها»
القراءة في كتاب (القوة من النوع الثالث - محاولة الغرب استعمار القرية العالمية)
لهشام ناظر (1932-2015م) -رحمه الله- لا تنتهي بمقالين أو ثلاثة أو أكثر؛ لثراء
المعرفة عن العلاقات الدولية المعاصرة ووسائلها، وطبيعة مَن يحكمها، ويتحكّم فيها،
وعن الآليات السليمة في التعاطي معها، ولهذا جاء هذا الموضوع مخصّصًا عن قوة أدوار
(المنظمات الدولية) التي هي إحدى أدوات استعمار (احتلال) القرية العالمية بالقوة
الناعمة وغيرها؛ كما عبَّر عن هذا
«ناظر»
في كتابه.
ويأتي هذا المقال في وقتٍ تتعرض فيه أبرز هذه المنظمات الأممية لاختباراتٍ شاقة
وتحديات صعبة، لا سيما مع مُستهل الألفية الثالثة، فهي -على سبيل المثال- لم تكبح
جماح الحرب العالمية الموصوفة من أمريكا بـ(الحرب القذرة)، وذلك على أفغانستان
والعراق، بل هي طرف مُدان فيها على المستوى الإنساني، ثم إنها لم تضبط بوصلة الصراع
الروسي الغربي والتوازنات السياسية؛ حيث اندلعت حرب أوكرانيا العالمية في فبراير
عام 2022م التي دخل فيها حلف الناتو ودول الغرب مجتمعة في صراعٍ عسكري مرير قابل
للانفجار إلى ما هو أسوأ؛ بسبب الاستفزاز الأمريكي لروسيا بأوكرانيا الذي يُنذر
بحرب نووية!
ويُضاف إلى هذه التحديات وعي الشعوب العالمية وبعض حكومات الدول حول حق الرفض
(الفيتو) الخاص بالدول الخمس الكبرى، وما في هذا من تعطيل للعدالة الدولية، وانتهاك
لحقوق الإنسان وسلام الدول الأخرى، وما صحب هذا من تفاقم الصراعات والحروب،
وبالتالي تضاعفت حالات تكريس الكراهية، وعدم التسامح الدولي، وهو ما انعكست آثاره
السلبية على النظام العالمي برُمّته.
وعن حقيقة هذه المنظمات؛ أفرد
«ناظر»
الفصل الرابع من كتابه عن مواصفات نجاح الاستراتيجية الغربية، والطرق التي تلجأ
إليها المنظمات الحكومية والمدنية في الغرب من أجل خلق أُطُر عالمية يتم من خلالها
صناعة الأستاذية (الاستثنائية الغربية)، التي تُفرَض على الآخرين من الدول النامية
والعالم الثالث؛ كما يسمونه.
و«ناظر»
ينقل نظرة وتوصيف دول الغرب الكبار للدول النامية في ظل المنظمات الدولية والأممية
وأندية الكبار بقوله:
«تهافت
الدول النامية على أن تصل إلى الحد الأدنى من المستوى الذي حدَّده الغرب، فقد قبلت
جملة من التسميات التي تُحدِّد مكانتها.. فاسْمُها هو: (العالم الثالث)، ومستواها
هو: (الدول النامية)، وعقليتها هي: (الدول غير المنحازة). وتلهث هذه الدول وتَجْهَد
للانضمام إلى نادي (الاستثنائيين) الذي تقوده وتقوم بحجَابَة بوابته الدول الثماني
الصناعية الكبرى (G8)،
ولكنّ النتيجة أنه بعد سنوات من المجاهدة للقبول داخل الأُطُر الغربية لا تزال هذه
الدول خارج أندية الاستثنائيين»
(القوة من النوع الثالث: ص27).
و«ناظر»
بهذا الوضوح والجرأة يكشف عن سياسات القوة الغربية في تَسميتها للآخرين، وتحديد
مستواها، ومستوى عقليتها! بل إنه يُذكّر الدول بالعدد لتبقى كما هي عددًا ومستوًى
خارج أندية الكبار الاستثنائيين؛ كما يقول:
«ولهذا
فإن أكثر من مائة وثمانين دولة ما نَمَتْ بعد بما فيه الكفاية، تتفرج بين حين وآخر
على ما يشبه مجلس وصاية، يجتمع ويتخذ القرارات في أندية أصغر حجمًا»
(ص27).
و«ناظر»
بهذا القول، يرى أن هذا التحييد لثقافات الدول وسيادتها هو ما جعل (180) دولة باقية
خارج أندية الأساتذة الاستثنائيين، لتبقى قاصرة إلى الأبد، غير نامية، بل
ومُحتَفِظة باسم دول العالم الثالث!
وحول واقع المنظمات الدولية والأممية سابقًا، ثم دورها في عصر القوة من النوع
الثالث؛ يؤكد
«ناظر»
أنها أصبحت لاعبًا رئيسًا في الأحداث أو صانعةً لها كما يقول:
«ففي
عصر القوة من النوع الثالث تجد هذه المنظمات مكانها المناسب تمامًا... فبعد أن كانت
هامشية في النظام السياسي الدولي بدأت المنظمات المدنية في الظهور كلاعبٍ أساسٍ
يتمتّع بقوة مالية ومعلوماتية وسياسية مهمة»
(ص131).
ويقول
«ناظر»
مشخِّصًا موقعها الحقيقي في الأحداث الدولية، وأنه لا بد من المراجعة والتقييم
لأدوارها بحق العالم النامي:
«وكانت
النظرة التقليدية إلى هذه المنظمات على أنها مستقلة عن الحكومات، وبدون ارتباطات
قوية مع بعضها البعض... غير أن شخصية المنظمات المدنية تغيَّرت بشكل درامي خلال
العقد الأخير. فقوّتها الأولية وبناؤها وتأثيرها على العلاقات الدولية عمومًا،
ودخولها ضمن أُطُر السياسات الحكومية الدولية، وتأثيرها داخل وخارج حكومات الدول
النامية يحتاج إلى مراجعة وتقييم»
(ص132).
ويكرر التوصيف بصورة أوضح وأدق أن هذه المنظمات بأدوارها السلبية بحق العالم الثالث
أو النامي مجرد قوة بالوكالة وبدائل عن الحكومات الغربية في ممارسة الأدوار، وذلك
بقوله:
«وفي
النهاية، فإن هناك سؤالًا حول: كم من (المجتمع المدني) والحوار والهوس بالمنظمات
المدنية له علاقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان؟... وبشيء من الحول الشديد فقط سيمكن
لنا النظر إلى المنظمات المدنية على أنها مجرد جهات متعاقدة وقوة بالوكالة، وبدائل
للحكومة بشكل عام، وللحكومة السيئة على وجه الخصوص»
(ص136).
و«ناظر»
يصف الرسالة الثقافية لهذه المنظمات بوضوح تام بقوله:
«محترف
المنظمات هو رسول الثقافة الغربية في الموقع، المتلهف لتقديم عرض يُرضي المتبرعين
في الحكومة والمؤسسات... وقد حققت المنظمات المدنية نجاحًا مماثلًا في تعريف نفسها
مع القيم التي تتبناها»
(ص138، 139).
وهو في كتابه المعني هنا يكشف بصورة أكثر وضوحًا عن دور المنظمات في تهيئة أو تبرير
احتلال القرية الكونية، فالمنظمات لا تعدو أن تكون من وسائل القوة من النوع الثالث؛
حيث يقول:
«ولا
يقوم موظفو المنظمات المدنية بإدارة أو حتى تطبيق السياسات فحسب، وإنما هم لاعبون
إضافيون في تشكيل الإجماع الدولي على تعريفات تتوافق مع غايات السياسة الخارجية في
الدول المتقدمة، ومع قنوات الاتصالات في الدول النامية والمتقدمة»
(ص143).
بل إن
«ناظر»
يُحدِّد أبرز المنظمات الأممية في السيطرة على العالم الثالث، وأنها غير محايدة،
وذلك بقوله:
«والأمم
المتحدة هي أفضل مثال على مؤسسة تعكس وتمثل الأهداف الوطنية المحددة للدول التي
تسيطر عليها وقيم البيروقراطيين الذين يعملون فيها؛ فأهدافها المعلنة التي تبرّر
تمويلها وتمكينها من العمل هي مجرد انعكاس للمواقف العقائدية الغربية. وما كان هذا
الوضع خاصًّا بالأمم المتحدة فحسب»
(ص25).
و«ناظر»
المفكِّر لم يكتفِ بالكشف العام عن أدوار هذه المنظمات كلاعب رئيس في احتلال العالم
بالقوة من النوع الثالث، بل إنه يتحدّث عن صناعة بعض الأزمات، مثل أزمات التغير
المناخي والبيئة بغرض التدخل في شؤون الدول من خلالها، سواءٌ للدعم المالي أو
التدخل بالسياسات الداخلية، وذلك بقوله -بتصوير إبداعي-:
«أُعِدَّ
المسرح لتبرير التدخل في (البيئة)، لا الدولة، في أيّ بلد. ولعل أكثر المعارك
أهميةً دارت حول حق الدولة في مواردها الخاصة باستخدامها لمصلحة شعبها بدون عولمة
التنمية الوطنية من خلال المبادئ البيئية الكونية»
(ص140).
المنظمات الإنسانية والإغاثية:
إذا كانت تلك الاقتباسات السابقة تتحدث عن المنظمات والهيئات الأممية والوكالات
الدولية المعنية بالحقوق والديمقراطية والبيئة؛ فإن المنظمات الخيرية والإغاثية
-حسب رؤية
«ناظر»-
ليست خارج منظومة وسائل القوة من النوع الثالث؛ فعلى سبيل المثال: أورد
«ناظر»
حول العطاء الأمريكي الخارجي ما كتبت عنه:
«جوليا
تافت، رئيسة (إنتر أكشن)، وهي مجموعة تضم تحت لوائها 150 منظمة خيرية في أمريكا
تعمل في 165 دولة، خلال مناقشات الميزانية الحكومية لعام 1993م: (نحن الذين نعمل
على الأرض خارج البلاد، ولكن بدون قيادة الحكومة الأمريكية لن يكون لنا وجود)...
بَيْدَ أن التزام الولايات المتحدة بسياسة خارجية تعتمد على مبادئ المنظمات المدنية
يُعتبر في غاية الأهمية»
(ص133).
والمُفكِّر
«ناظر»
يُكرر القول: إن من أهداف هذه المنظمات الخيرية هو الحصول على الاستثنائية
(الأستاذية) الغربية، والتآمر بين الإعلام ودول القوة من النوع الثالث، كما قال:
«فرغم
الأعمال الخيِّرة التي تقوم بها هذه المجموعات، والخدمات التي تقدّمها لكثير من
الدول الفقيرة حول العالم، فمن المهم الحفاظ على الفصل بين أعمالهم ضمن النظام،
واستخدام هذا النظام في الحصول على الاستثنائية، وليس هناك دليل واحد على التآمر
بين المنظمات والحكومات أكثر منه بين الإعلام والدولة»
(ص131).
ويُوضِّح في موضع آخر من كتابه (القوة من النوع الثالث) عن هذه المنظمات
واستراتيجياتها المُوجّهة، حتى على مستوى تصنيف العالم بالتحضُّر من عدمه! وذلك
بقوله:
«فالمؤسسات
التي تُقام من أجل إشاعة الخير لكل الناس: السلام، النمو، القضاء على الجوع،
التوعية بالصحة، الدفاع عن البيئة، لا تجرؤ أيّ دولة أن تكون خارجها. فعدم الاشتراك
في هذه المصطلحات قد يَصِمها ويضعها خارج بوابات المجتمع الدولي المتحضر»
(ص129).
و«ناظر»
في الوقت ذاته لا يرفض عموم الخطاب السياسي الغربي، لكنه يدعو لتعدُّد الرؤى
واحترام الثقافات الأخرى، وأن لا تكون الدول النامية في صفوف المُستهلِكين، بل إنه
يدعو إلى اقتحام الحائط الغربي لبيع بضاعتنا و(تسويق ثقافتنا) في أسواقه، والترويج
لرؤيتنا ورؤانا؛ حسب قول الأستاذ محمد عمر العامودي في التعريف بهذا الكتاب.
ولهذا العمق في التناول والطرح عن موضوعات طالما غابت عن كثير من المثقفين
والمفكرين حول فهم الغرب ومنظماته وأدواته؛ فإن هذا الوعي بهذه المفاهيم أو
الألاعيب يُعدُّ مفخرة للمؤلف المفكر السعودي ولبلاده.
وليس هذا الفهم عن
«ناظر»
وكتابه اجتهادًا فرديًّا؛ فقد قرَّظ أحدهم -على سبيل المثال- هذا الكتاب ووصفه
بالمتحدّي! وهو حسن منصور رئيس إدارة اللغة الإنجليزية السابق بجامعة بنجالور
الأمريكية، وقال عنه:
«من
النادر أن يلتقي الإنسان بعربي ينتمي إلى النخبة في الشرق الأوسط، ينتقد الغرب في
ادعائه تجاه حقوق الإنسان والديمقراطية والأسواق، خصوصًا إذا كان قد سَبَقَ وشغل
منصب وزير في حكومة المملكة العربية السعودية يدير أجهزة مُهمَّة كوزارتي التخطيط
والبترول.. إذ تنفي مؤهّلاته هذه أن يَعمَد إلى كتابة مثل هذا الكتاب. إلا أن القوة
من النوع الثالث مع عنوانه الفرعي عن محاولة الغرب استعمار القرية العالمية يبعث
برسالة، أنه آلَى على نفسه أن يتحدّى ادّعاء الغرب، وأن يكشف نيّته في إعادة بناء
العالم على نموذجه، لا بد للقارئ أن يشعر بالجميل لـ«ناظر»
الذي كَشَف الغرب على حقيقته.. إمبراطور بلا ثياب»
(ص10).
والكتاب بهذا الوصف من
«منصور»،
والتوصيف من غيره حسب أقوالهم في مستهل الكتاب (رأي النقاد في هذا الكتاب)، مما
يطرح الاهتمام والواجب على نُخَب المفكرين والمعنيين بالسياسة والدبلوماسية
والمنظمات الأممية حول خدمة هذا الكتاب بالتعريف به وترجمته وإهدائه، والعمل على
اقتحام هذا الكتاب لدوائر التميز الفكري والثقافي لحصد الجوائز، فهو عملٌ يستحقّ،
كما أن مؤلِّفه المفكر هشام ناظر يستحق التقدير والاحتفاء بهذا الوجه الفكري كما هو
الاحتفاء به وزيرًا وسفيرًا ومستشارًا، ورحم الله كلّ مَن تعب في الفهم والإفهام.