عاش المسلمون في الحبشة في خير جوار وأكرم نزل رغم أنها كانت بلاد نصرانية، لكنها تعاليم المسيح الصافية، والتي لم يجدوا غيرها فأخذوها وعظموها وتمسكوا بها، ولم يكن بعدُ قد سمعوا بظهور نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم .
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وبعد:
ها هو الوحي يبدأ نزوله وها هي السماء تهتز فرحًا لذلك، لينبع من حركتها قطرات
الإيمان بعد قرون من الجدب الإيماني.
نزل الوحى غضًّا طريًّا على محمد
صلى الله عليه وسلم في غار حراء يستقرئه؛ فارتجف قلبه؛ لأنه ولأول مرة يسمع
صوتًا ولا يرى وجهًا في عالم لم تصل إليه يد التكنولوجيا الحديثة، ويعلم المتابع ما
يعتري القلب من الرعب والجسد من الرجفة لهذا الموقف، لا سيما والسكون يملأ المكان،
والنبي صلى الله عليه وسلم كان وحيدًا في مكان بعيد معزول، فلا شيء يخطر
على البال إلا أنه صوت جن لا إنس؛ فحق للقلب أن يرتجف.
انطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما انتهى الحوار: «اقرأ. ما أنا بقارئ. اقرأ.
ما أنا بقارئ» حتى قال: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 1 خَلَقَ
الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ 2 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ 3 الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ 4 عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ 5} [العلق: ١ - ٥].
انطلق النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصدر الحنون والقلب الكبير واليد المعطاءة
إلى زوجته خديجة يحكي لها ما حدث؛ علَّه يجد عندها ما يطمئن قلبه، الموقف غريب
عليها، جديد على سمعها، فليس مرضًا تستجلب له الطبيب، أو فقرًا تدفع له كل ما تملك
من مال وهي تستطيع، لكنها هدأت من روعه وذكّرته بجميل صنعه ومكارم خلقه وقالت له:
«والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر».
تحيرت وفكرت ماذا تصنع؟ موقف جديد عليها تعجز عن تفسيره، لكن الذي غلب على فكرها
أنه مرتبط بشيء سماوي سمعت عنه من قبل خارج عن إرادة البشر. ارتبط هذا الحادث عندها
بما كانت تسمع عنه من قبل كالذي أنزل على إبراهيم وموسى وعيسى، طرأ شك عليها فتحول
الشك إلى فكرةـ ثم ما لبست أن تحولت إلى شبه يقين فماذا تصنع؟
أرادت أن تستوثق ما جال بخاطرها فتذكرت ابن عمها ورقة بن نوفل؛ لأنه كان متدينًا
-بلغتنا- ودائمًا العقل السليم يضع الأمور نحو اتجاهها الصحيح عند الحاجة، فالداء
يحتاج إلى طبيب، والحرفة تحتاج إلى حرفي، لكن هذا الموقف ارتبط عندها بوحي ورسالة،
فمن أعلم الناس بذلك أنه ورقة بن نوفل ابن عمها ومحل ثقة عندها.
إنه أحد الأربعة الذين اجتمعوا يوم احتفال قريش بأحد أصنامهم، وتحدثوا فيما بينهم
واجتمعت كلمتهم على أن قريشًا انحرفت عن دين إبراهيم -عليه السلام-، وهؤلاء الأربعة
هم ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نُفيل.
أما ورقة فصدَّق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، ومات مسلمًا قبل الإسلام، وأما
عبيد الله بن جحش فأدرك الإسلام، ثم ذهب إلى الحبشة مهاجرًا، فغلب عليه دين
النصارى، فلم يلبث إلا أن ارتد فمات نصرانيًّا، وأما عثمان فذهب إلى قيصر الروم وظل
هناك حتى مات على دينه، وأما زيد بن نوفل فكان في مكة على ما يظن أنه دين إبراهيم
الصحيح، حتى توفي على ذلك قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
فماذا قال ورقة بن نوفل عندما سمع ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال: «قدوس قدوس! والذي نفسي ورقة بيده إن كنتِ صدقتني يا خديجة لقد جاء الناموس
الأكبر الذي كان يأتي لموسى وإنه لنبيّ هذه الأمة»،
ثم توجَّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: «يا ابن أخي! أخبرني بما رأيت
وسمعت؛ فأخبره صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة: «لقد جاءك الناموس الأكبر الذي
كان يأتي لموسى. ليتني كنت جذعًا إذ يُخرجك قومك! قال صلى الله عليه وسلم أومخرجيّ
هم؟ قال: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عُودي. ثم قال له: إن أدركت ذلك اليوم
لأنصرنك».
هذا هو ورقة بن نوفل الباحث عن الحقيقة، فبعد أن تيقن أن دين إبراهيم -عليه السلام-
قد حُرِّف وحِيدَ به عن الحق، بحث عن رسالة سماوية يلقى بها ضالته المنشودة وتستريح
لها نفسه ويطمئن إليها قلبه حتى قرأ في الإنجيل وتنصَّر واتبع دين عيسى -عليه
السلام- حتى جاءته خديجة، وحدثت هذه الحادثة فقلبت عنده الموازين واستخرجت مكنون
الفطرة من أعماق قلبه وأظهرت صفاء سريرته وقوة إيمانه ورباطة جأشه واتباعه الحق
مهما كان وأين ما وجد.
لم تَعُقه تلك الخواطر الساذجة التي تجول في وجدانه ولم يبكِ على دينه الذي كان
حديث عهد به، ولم تقيده قيود أهل ملته الجديدة من النصرانية، لقد كانت قوة الحق
ناصعة، بل أقوى وأعلى من هذه الصرخات الداخلية الخادعة التي كانت تتلجلج في قلبه أو
ينطق بها عقله أو تلك الوساوس التي يمليها عليه شيطانه.
لقد سمع ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، فعلم أنه ليس كلام بشر؛ فأشهر
إسلامه، بل قال :«لئن أدركت ذلك اليوم لأنصرنك».
وكأنه كان يشعر بموته قبل أن تظهر رسالة الإسلام، وقد كان، وكفى بذلك شهادة على
إسلامه قبل نزول الرسالة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
هذا هو ورقة بن نوفل -رحمه الله- رغم أنه كان نصرانيًّا قرأ في الإنجيل الصافي الذي
نزل من مشكاة السماء، فطابق ما سمعه من محمد صلى الله عليه وسلم على ما قرأه في
الإنجيل الصحيح قبل تحريفه وأعلنها مدوية: محمد رسول الله، ولذلك أخبر النبي صلى
الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة.
وقد سُئِل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ورَقَةَ؟! فقالت له خديجةُ: إنه
كان صَدَّقَكَ، ولكن مات قبلَ أنْ تَظْهَرَ؟ فَأُريتُه في المنامِ، وعليه ثيابٌ
بيضٌ، ولو كان مِن أهلِ النارِ؟ لكان عليه لباسٌ غيرُ ذلك. وفي رواية قال صلى الله
عليه وسلم : رأيت لورقة جنة أو جنتين.
لم يُثنه عن ترك دينه واتباع الدين الجديد نعرة طائفية كذابة أو كبر دفين أو نصوص
كتب مقدسة قد طرأ عليها التحريف. لقد آن الأوان وحان الوقت أن يستمع إلى كتب مقدسة
أخرى صحيحة.
نترك هذه القصة لا زهدًا فيها ولا رغبة عنها وعن مدلولها، ولكن لنستشهد بقصة أخرى
لا تقل أهمية عنها، ولكنها هذه المرة أصدق إيمانًا وأكثر تضحية وأعلى منزلة؛ إنها
قصة أصحمة النجاشي.
النجاشي:
إن بطل هذه القصة الأخرى ليس كآحاد الناس العاديين، فليس فقط شريفًا في قومه أو
غنيًّا بين فقراء؛ إنها قصة لملك على أرض كبيرة واسعة مترامية الأطراف، شاء الله
تعالى أن يكون هذا الملك قدوة لأقرانه يُضرب به المثل في التضحية والفداء والاتباع
والاقتداء.
إنه لن يضحي بمال أو بأرض أو بدار، إنه يضحي بالمُلك الذي ربما يذهب منه ثمنًا
لإيمانه في مقابل يقينه الذي استقر في قلبه فما هي قصته.
يضطهد المشركون في مكة أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيهربون من اضطهادهم
إلى الحبشة، فإنه قد شاع أن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، فبعث المشركون في مكة
عمرو بن العاص وعبد الله ابن أبي ربيعة لإحضارهما.
لم يجد المشركون بمكة أدهى منهما ليرسلوهما إلى ملك الحبشة ليعيد المسلمين إليهم،
وكان أدهى الرجلين عمرو بن العاص.
عاش المسلمون في الحبشة في خير جوار وأكرم نزل رغم أنها كانت بلاد نصرانية، لكنها
تعاليم المسيح الصافية، والتي لم يجدوا غيرها فأخذوها وعظموها وتمسكوا بها، ولم يكن
بعدُ قد سمعوا بظهور نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم .
فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لمّا نزَلْنا أرضَ الحَبشةِ، جاوَرْنا بها خيرَ
جارٍ النَّجاشيَّ، أمِنّا على دِينِنا، وعبَدْنا اللهَ تَعالى لا نُؤذى، ولا
نَسمَعُ شيئًا نَكرَهُه. فلمّا بلَغَ ذلك قُرَيشًا، ائتَمَروا أنْ يَبعَثوا إلى
النَّجاشيِّ فينا رَجُلَينِ جَلدَينِ، وأنْ يُهدوا للنَّجاشيِّ هَدايا ممّا
يُستَطرَفُ مِن مَتاعِ مكَّةَ، وكان مِن أعجَبِ ما يَأتيه منها إليه الأَدَمُ.
فجَمَعوا له أدَمًا كَثيرًا، ولم يَترُكوا مِن بَطارِقَتِه بِطريقًا إلّا أهدَوا
إليه هَديَّةً، ثُمَّ بَعَثوا بذلك عبدَ اللهِ بنَ أبي رَبيعةَ بنِ المُغيرةَ
المَخزوميَّ، وعَمرَو بنَ العاصِ السَّهْميَّ، وأمَّروهما أمْرَهم، وقالوا لهما:
ادفَعوا إلى كلِّ بِطريقٍ هَديَّتَه قبلَ أنْ تُكلِّموا النَّجاشيَّ فيهم، ثُمَّ
قَدِّموا له هَداياه، ثُمَّ سَلُوه أنْ يُسلِمَهم إليكم قبلَ أنْ يُكلِّمَهم.
قالتْ: فخَرَجا، فقَدِما على النَّجاشيِّ، ونحن عندَه بخَيرِ دارٍ، عندَ خيرِ
جارٍ، فلمْ يَبقَ مِن بَطارِقَتِه بِطريقٌ إلّا دَفَعا إليه هَديَّتَه، وقالا له:
إنّه قد ضَوى إلى بَلدِ المَلِكَ منَّا غِلمانٌ سُفَهاءُ، فارَقوا دِينَ قَومِهم،
ولم يَدخُلوا في دِينِكم، وجاؤوا بدِينٍ مُبتدَعٍ، لا نَعرِفُه نحن ولا أنتم، وقد
بَعَثَنا إلى المَلِكِ فيهم أشرافُ قَومِهم، ليَرُدَّهم إليهم، فإذا كَلَّمْنا
المَلِكَ فيهم، فأشيروا عليه بأنْ يُسلِمَهم إلينا، ولا يُكلِّمَهم، فإنّ قَومَهم
أعلى بهم عَينًا، وأعلَمُ بما عابوا عليهم. فقالوا لهم: نعمْ.
ثُمَّ إنّهما قَرَّبا هَدايا النَّجاشيِّ، فقبِلَها منهم، ثُمَّ كَلَّماه، فقالا
له: أيُّها المَلِكُ، إنّه ضَوى إلى بَلدِكَ منّا غِلمانٌ سُفَهاءُ، فارَقوا دِينَ
قَومِهم، ولم يَدخُلوا في دِينِكَ، وجاؤوا بدِينٍ مُبتدَعٍ، لا نَعرِفُه نحن ولا
أنت، وقد بعَثَنا إليك أشرافُ قَومِهم مِن آبائِهم وأعمامِهم وعَشائرِهم،
لتَرُدَّهم إليهم، فهم أعلى بهم عَينًا، وأعلَمُ بما عابوا عليهم فيه.
قالتْ: ولم يَكُنْ شيءٌ أبغَضَ إلى عبدِ اللهِ وعَمرٍو مِن أنْ يَسمَعَ النَّجاشيُّ
كَلامَهم. فقالتْ بَطارِقَتُه حَولَه: صدَقوا أيُّها المَلِكُ، فأسلِمْهم إليهما.
فغضِبَ النَّجاشيُّ، ثُمَّ قال: لا ها اللهِ، إذَنْ لا أُسلِمُهم إليهما، ولا
أُكادُ قَومًا جاوَروني، ونزَلوا بِلادي، واختاروني على مَن سِواي حتى أدْعُوهم،
فأسألَهم. ثُمَّ أرسَلَ إلى أصحابِ رسولِ اللهِ، فدَعاهم، فلمّا جاءهم رسولُه
اجتَمَعوا، ثُمَّ قال بَعضُهم لبَعضٍ: ما تقولونَ للرَّجُلِ إذا جِئتُموه؟ قالوا:
نقولُ -واللهِ- ما علِمْنا، وما أمَرَنا به نَبيُّنا صلى الله عليه وسلم ، كائنًا
في ذلك ما كان.
فلمّا جاؤوه وقد دَعا النَّجاشيُّ أساقِفَتَه، فنشَروا مَصاحِفَهم حَولَه، سألَهم
فقال: ما هذا الدِّينُ الذي فارَقتُم فيه قَومَكم، ولم تَدخُلوا في دِيني، ولا في
دِينِ أحدٍ مِن هذه الأُمَمِ؟ قالتْ: وكان الذي يُكلِّمُه جَعفَرُ بنُ أبي طالبٍ،
فقال له: أيُّها المَلِكُ، إنّا كنّا قَومًا أهلَ جاهليَّةٍ، نَعبُدُ الأصنامَ،
ونَأكُلُ المَيْتةَ، ونَأتي الفَواحشَ، ونَقطَعُ الأرحامَ، ونُسيءُ الجِوارَ،
ويَأكُلُ القَويُّ منّا الضَّعيفَ، فكنّا على ذلك حتى بعَثَ اللهُ إلينا رسولًا
منّا، نَعرِفُ نَسَبَه وصِدقَه وأمانتَه وعَفافَه، فدَعانا إلى اللهِ لنُوَحِّدَه
ونَعبُدَه، ونَخلَعَ ما كنّا نَعبُدُ وآباؤنا مِن دونِه مِن الحِجارةِ والأوْثانِ،
وأمَرَنا بصِدقِ الحَديثِ، وأداءِ الأمانة، وصِلةِ الرَّحمِ، وحُسنِ الجِوارِ،
والكَفِّ عن المَحارِمِ والدِّماءِ، ونَهانا عن الفَواحشِ، وقَولِ الزُّورِ، وأكلِ
مالِ اليَتيمِ، وقَذفِ المُحصَنةِ، وأمَرَنا أنْ نَعبُدَ اللهَ لا نُشرِكُ به
شيئًا، وأمَرَنا بالصَّلاةِ، والزَّكاةِ، والصِّيامِ -قالتْ: فعَدَّدَ له أُمورَ
الإسلامِ-، فصَدَّقْناه، وآمَنّا به، واتَّبَعْناه، فعَدا علينا قَومُنا،
فعَذَّبونا، وفَتَنونا عن دِينِنا ليَرُدُّونا إلى عِبادةِ الأوْثانِ، وأنْ
نَستحِلَّ ما كنّا نَستحِلُّ مِن الخَبائثِ، فلمّا قَهَرونا وظَلَمونا، وشَقُّوا
علينا، وحالُوا بيْنَنا وبيْنَ دِينِنا، خرَجْنا إلى بَلدِكَ، واختَرْناكَ على مَن
سِواكَ، ورغِبْنا في جِوارِكَ، ورَجَوْنا ألّا نُظلَمَ عندَكَ أيُّها المَلِكُ.
قالتْ: فقال: هل معك ممّا جاء به عن اللهِ مِن شيءٍ؟ قال: نعمْ. قال: فاقرَأْه
علَيَّ. فقرَأَ عليه صَدرًا مِن: {كهيعص}، فبَكى -واللهِ- النَّجاشيُّ حتى أخضَلَ
لِحيَتَه، وبكَتْ أساقِفَتُه حتى أخضَلوا مَصاحِفَهم حينَ سَمِعوا ما تُليَ عليهم.
ثُمَّ قال النَّجاشيُّ: إنّ هذا والذي جاء به موسى ليَخرُجُ مِن مِشْكاةٍ واحدةٍ،
انطَلِقا، فواللهِ لا أُسلِمُهم إليكم أبدًا، ولا أُكادُ.
وأسلم النجاشي -رحمه الله- وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب، وأنزل
الله تعالى فيه قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ
عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ
أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى
ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ
82 وَإذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْـحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا
فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ 83 وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا
جَاءَنَا مِنَ الْـحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ
الصَّالِـحِينَ 84 فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْـمُحْسِنِينَ 85}
[المائدة: 82 - 85].
إن هذه القصة لتشبه في مدلولها قصة إسلام ورقة بن نوفل، فالنجاشي قال: إن هذا والذي
جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، وورقة قال: لقد جاء الناموس الأكبر الذي كان
يأتي موسى.
الألفاظ مختلفة، ولكنها تؤدي إلى معنى واحد ومدلول واحد. إن هذا الدين الجديد ما هو
إلا مداد لرسالات سماوية سابقة. إنه الحس البلاغي الذي ملأ وجدان ورقة بن نوفل عند
سماعه القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم فأدرك أنه ليس بكلام بشر فأسلم، وهو
الصفاء الروحي الذي جعل النجاشي يبكي هو وأساقفته من حوله والذي جعله يقول: (إنه
ليخرج من مشكاة واحدة)؛ إنه القرآن بحلاوته وبلاغته وسحره والذي بسببه أسلم النجاشي
وأنزل فيه قرأن يتلى، ونفس الموقف يُحسب للنجاشي كما حُسب لورقة، لكن مع الفارق
فموقف النجاشي أقوى إيمانًا وأصدق إسلامًا لأنه يعلم قوة تأثير الأساقفة في شعب
الحبشة، فربما أثاروا رعيته عليه إذا غيَّر دينه وخلعوه من منصبه، لكنه لم يعبأ بكل
هذه الهواجس أو الوساوس أمام نور الإيمان بخلاف ورقة -رحمه الله- فلم يتعرض لضغوطٍ
مثل ما تعرض لها النجاشي.
أخيرًا: لعل النجاشي قرأ ما جاء في إنجيل متى والتي يقول فيها المسيح عليه السلام:
«الحق أقول لكم: لم يكن بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن
الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه؛ لأن جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا،
وإن أردتم أن تقبلوا هذا؛ فهذا هو إيليا من له أذنان للسمع فليسمع» (إنجيل متى: 11/
١١_١٥).
فالأصغر في ملكوت السماوات هو إيليا المزمع أن يأتي الذي تنبأ به الأنبياء نبيّ تلو
نبي، وكان آخرهم يوحنا المعمدان، والأصغر في ملكوت السماوات إنه رسول الله محمد صلى
الله عليه وسلم الذي صغر بتأخره في الزمان عن سائر الأنبياء.
ولعله قرأ في إنجيل لوقا :«ماذا خرجتم لتنظروا أنبيًّا؟ نعم وأقول لكم وأفضل من
نبي، هذا هو الذي كتب عنه ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك؛ لأني
أقول لكم: إنه بين المولودين من النساء ليس نبي أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن
الأصغر في ملكوت الله أعظم منه».
ولعل ورقة قرأ في العهد الجديد في إنجيل يوحنا: «لا تسعوا وراء الطعام الفاني، بل
وراء الطعام الباقي، إلى الحياة الأبدية، والذي يعطيكم إياه ابن الإنسان؛ لأن هذا
قد وضع الله ختمه عليه» (يوحنا: ٦/٢٧).
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل خاتم النبوة بين كتفيه.
أو لعله اطلع على ما جاء في سفر رؤيا من العهد الجديد: «رأيت السماء مفتوحة، وإذا
حصان أبيض يسمى راكبه باسم الصادق الأمين الذي يقضي ويحارب بالعدل»، ووصف الصادق
الأمين هو وصف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
أو ما جاء في الكتاب المقدس قبل تحريفه: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض إسلام،
وللناس أحمد«.
وأخيرًا:
صدق الله -سبحانه وتعالى- حيث قال في القرآن: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ
مُبِينٌ} [الصف: 6].